الرحلة الخامسة
(١) جَزِيرَةُ الرُّخ
لَمْ يَكْفِنِي مَا رَكِبْتُهُ مِنَ الْأَخْطَارِ، وَلَمْ يَثْنِ عَزِيمَتِي مَا لَقِيتُهُ مِنَ الْمَخَاوِفِ فِي أَسْفَارِي السَّابِقَةِ، فَقَدْ نَسِيتُ ذَلِكَ كُلَّهُ — بَعْدَ قَلِيلٍ مِنَ الزَّمَنِ — وَرَغِبَتْ نَفْسِي فِي السَّفَرِ وَالِاتِّجَارِ، فَأَعْدَدْتُ كُلَّ مَا أَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي رِحْلَتِي مِنْ بِضَاعَةٍ وَمَتْجَرٍ، وَلَمْ أَسْتَأْجِرْ مَرْكَبًا فِي هَذِهِ الْمَرَّةِ — كَمَا فَعَلْتُ فِي أَسْفَارِي السَّابِقَةِ — بَلِ اشْتَرَيْتُ مَرْكَبًا جَدِيدًا لِيَذْهَبَ بِي إِلَى حَيْثُ أُرِيدُ، وَسَافَرَ مَعِي جَمَاعَةٌ مِنْ أَعْيَانِ التُّجَّارِ.
ثُمَّ أَبْحَرَ بِنَا الْمَرْكَبُ مِنْ مَدِينَةِ «الْبَصْرَةِ» وَكَانَتِ الرِّيحُ طَيِّبَةً وَالْأُمُورُ عَلَى أَحْسَنِ مَا يُرَامُ، وَمَا زِلْنَا سَائِرِينَ فِي الْبَحْرِ أَيَّامًا وَلَيَالِيَ حَتَّى رَسَا الْمَرْكَبُ عَلَى جَزِيرَةٍ كَبِيرَةٍ مُقْفِرَةٍ مِنَ النَّاسِ اسْمُهَا جَزِيرَةُ الرُّخِّ، فَخَطَرَ لَنَا أَنْ نَنْزِلَ بِهَا لِنُرَوِّحَ عَنْ أَنْفُسِنَا مَتَاعِبَ السَّفَرِ وَلَمْ نَكَدْ نَمْشِي فِيهَا قَلِيلًا حَتَّى لَاحَتْ لَنَا بَيْضَةُ رُخٍّ كَبِيرَةٌ فِي حَجْمِ تِلْكَ الْبَيْضَةِ الَّتِي وَصَفْتُهَا لَكُمْ فِي رِحْلَتِي الثَّانِيَةِ!
(٢) فَرْخُ الرُّخِّ
وَكَانَتْ عَلَى وَشْكِ أَنْ تُفْرِخَ، فَقَدْ أَطَلَّ فَرْخُ الرُّخِّ بِمِنْقَارِهِ مِنْهَا، وَلمْ يَكَدْ يَرَاهُ رِفَاقِي حَتَّى انْدَفَعُوا إِلى الْبَيْضَةِ يَكْسِّرُونَهَا بِمَعَاوِلِهِمْ وَفُؤُسِهِمْ وَأَنَا أَنْهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ وَأُحَذِّرُهُمْ وَخَامَةَ الْعَاقِبَةِ، وَهُمْ لَا يُصْغُونَ إِلى نُصْحِي وَلَا يَسْمَعُونَ لِي قَوْلًا. وَمَا زَالُوا بِهَا حَتَّى حَطَّمُوهَا تَحْطِيمًا وَقَتَلُوا الْفَرْخَ وَأَخَذُوا شَيْئًا مِنْ لَحْمِهِ يَشْوُونَهُ عَلَى النَّارِ،َ حَتَّى إِذَا تَمَّ لَهُمْ ذَلِكَ أكَلُوهُ؟
(٣) طَائِرَا الرُّخ
وَمَا كَادُوا يَنْتَهُونَ مِنْ تِلْكَ الْأَكْلَةِ الْمَشْئُومَةِ حَتَّى أَظْلَمَ الْجوُّ وَحَجَبَ عَنَّا ضَوْءَ الشَّمْسِ طَائِرَانِ كَبِيرَانِ فَعَرَفْتُ أَنَّهُمَا طَائِرَا الرُّخِّ، وَأَدْرَكَ الرُّبَّانُ الْخَطَرَ الْمُحَدِقَ بِنَا فَصَاحَ: «أَسْرِعُوا إِلَى الْمَرْكَبِ قَبْلَ أَنْ يَحُلَّ بِكُمْ غَضَبُهُمَا وَنَقْمَتُهُمَا» فَجَرَيْنَا إِلَى المَرْكَبِ مُسْرِعينَ، وَأَرْخَيْنَا شِرَاعَهُ فَسَارَ بِنَا بِأَقْصَى سُرْعَةٍ.
(٤) انْتِقَامُ الرُّخ
وَكَانَ طَائِرَا الرُّخِّ قَدْ وَصَلَا إِلَى بَيْضَتِهِمَا فَرَأَيَا مَا حَلَّ بِوَلِيدِهِمَا فَصَاحَا مِنَ الْجَزَعِ، أَمَّا نَحْنُ فَقَدْ سَارَ بِنَا الْمَرْكَبُ حَتَّى غَابَا عَنْ أَبْصَارِنَا فَحَسِبْنَا أَنَّنَا قَدْ أَصْبَحْنَا بِمَأْمَنٍ مِنْ شَرِّهِمَا، وَلَكِنَّهُمَا عَادَا إِلَيْنَا — بَعْدَ قَلِيلٍ — وَفِي مِخْلَبَيْ كُلٍّ مِنْهُمَا صَخْرَةٌ عَظِيمَةٌ، وَأَسْرَعَتْ أُنْثَى الرُّخِّ فَألْقَتِ الصَّخْرَةَ الَّتِي تَحْمِلُهَا عَلَى مَرْكَبِنَا، وَكَانَ رُبَّانُنَا ذَكِيًّا مَاهِرًا فَأَدَارَ فِي الْحَالِ سُكَّانَ الْمَرْكَبِ، فَانْحَرَفَ عَنِ الصَّخْرَةِ فَهَوَتْ إِلى الْبَحْرِ وَشَقَّتِ الْمَاءَ نِصْفَيْنِ كِدْنَا نُبْصِرُ مِنْ خِلَالِهِمَا قَرَارَهُ.
(٥) تَحْطِيمُ الْمَرْكَبِ
وَلَمْ نَكَدْ نَفْرَحُ بِزَوَالِ هَذَا الْخَطَرِ عَنَّا، حَتَّى أَلْقَى طَيْرُ الرُّخِّ صَخْرَتَهُ عَلَى مَرْكَبِنَا، فَأَصَابَتْ جَانِبَهُ وَهَشَّمَتْهُ تَهْشِيمًا، فَهَوَى الْمرْكَبُ إِلى جَوْفِ الْبَحْرِ بِمَا فِيهِ مِنَ الْمَتَاعِ وَالنَّاسِ وَكِدْتُ أَغْرَقُ فِيمَنْ غَرِقَ لَوْلَا أَنَّنِي وَجَدْتُ لَوْحًا مِنَ الْخَشَبِ قَرِيبًا مِنِّي، فَتَعَلَّقْتُ بِهِ لِلْحَالِ.
(٦) جَزِيرَةُ شَيْخِ الْبَحْرِ
وَمَا زَالَ اللَّوْحُ سَائرًا بِي فِي عُرْضِ الْبَحْرِ، وَأَنَا لَا أَعْرِفُ أَيْنَ يَسِيرُ بِي حَتَّى قَذَفَتْنِيَ الْأَمْوَاجُ — لِحُسْنِ حَظِّي — إِلَى جَزِيرَةٍ قَرِيبَةٍ، وَكَانَ شَاطِئُهَا مُرْتَفِعًا كَثِيرَ الصُّخُورِ وَالْحِجَارةِ، فَتَمَكَّنْتُ مِنَ الصُّعُودِ إِلَيْهِ — بَعْدَ عَنَاءٍ شَدِيدٍ — وَمَا كِدْتُ أَبْلُغُهُ حَتَّى ارْتَمَيْتُ عَلَى الْأَرْضِ مَنْهُوكَ الْقُوَى، وَلَمَّا أَفَقْتُ بَدَأْتُ أَمْشِي فِي الْجَزِيرَةِ فَرَأَيْتُهَا جَنَّةً كَثِيرَةَ الْأَشْجَارِ وَالْأَنْهَارِ، فَأَكَلْتُ مِنْ فَاكِهَتِهَا اللَّذِيذَةِ وَشَرِبْتُ مِنْ مَائِهَا الْعَذْبِ، وَجَلَسْتُ تَحْتَ ظِلِّ شَجَرَةٍ كَبِيرَةٍ أَتَنَسَّمُ الْهَوَاءَ اللَّطِيفَ وَأُرَوِّحُ عَنْ نَفْسِي مَا لَقِيتُهُ مِنْ عَنَاءِ الْبَحْرِ حَتَّى جَاءَ اللَّيْلُ، فَنِمْتُ نَوْمًا هَادِئًا إِلَى الصَّبَاحِ.
وَقُمْتُ فِي الْيَومِ التَّالِي وَقَدْ عَادَ إِلَيَّ نَشَاطِي فَأَخَذْتُ أَمْشِي فِي الْجَزِيرَةِ.
(٧) شَيْخُ الْبَحْرِ
وَلَاحَ لِي شَبَحٌ مِنْ بَعيدٍ، فَاقْتَرَبْتُ مِنْهُ، فَإِذَا بِهِ شَيْخٌ كَبِيرٌ تَبْدُو عَلَيْهِ عَلَامَاتُ الْهَرَمِ وَضَعْفُ الشَّيْخُوخَةِ وَكَانَ جَالِسًا عَلَى نَهْرٍ فَحَسِبْتُهُ مِمَّنْ رَمَاهُمْ سُوءُ الْحَظِّ إِلَى هَذِهِ الْجَزِيرَةِ، وَقُلْتُ لَعَلَّ سَفِينَتَهُ غَرِقَتْ كَمَا غَرِقَتْ سَفِينَتِي، وَرَمَاهُ الْمَوْجُ إِلَى هَذِهِ الْجَزِيرَةِ النَّائِيَةِ كَمَا رَمَانِي.
فَبَدَأْتُهُ بِالتَّحِيَّةِ — وَأَنَا فَرِحٌ بِلِقَائِهِ — فَهَزَّ لِي رَأْسَه رَدًّا عَلَى تَحِيَّتِي. فَسَأَلْتُهُ: «مَاذا يَصْنَعُ فِي تِلْكَ الْجَزِيرَةِ؟» فَأَشَارَ إِلَيَّ أَنْ أَحْمِلَهُ عَلَى ظَهْرِي إِلَى شَجَرَةٍ قَرِيبَةٍ مِنَ النَّهْرِ لِيَقْطِفَ مِنْهَا بَعْضَ الْفَاكِهَةِ، فَأَخَذَتْنِي الشَّفَقَةُ عَلَيْهِ — لِضَعْفه وَكِبَرِ سِنِّهِ — وَحَمَلْتهُ عَلَى ظَهْرِي حَتَّى أَخَذَ مَا شَاءَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ فَاكِهَةٍ، وَانْحَنَيْتُ لِأُنْزِلَهُ بِرِفْقٍ فَلَمْ يَنْزِلْ.
•••
إِنَّنِي كُلَّمَا ذَكَرْتُ هَذَا الشَّيْخَ لَا أَمْلِكُ نَفْسِي مِنَ الضَّحِكِ، فَقَدْ خُدِعْتُ فِيهِ، إِذْ كُنْتُ أَحْسَبُهُ شَيْخًا ضَعِيفًا فَانِيًا، ثُمَّ بَدَتْ لِي حَقِيقَةُ أَمْرِهِ، فَرَأَيْتُهُ قَوِيًّا شَدِيدَ الْقَسْوَةِ. فَقَدْ قَفَزَ عَلَى كَتِفَيَّ، وَلَفَّ سَاقَيْهِ عَلَى عُنُقِي بِقُوَّةٍ حَتَّى كِدْتُ أَخْتَنِقُ، وَأُغْمِيَ عَلَيَّ فَهَوَيْتُ إِلَى الْأَرْضِ، وَلَمَّا أَفَقْتُ وَجَدْتُ هَذَا الْعَدُوَّ الْقَاسِيَ لَا يَزَالُ عَلَى كَتِفَيَّ وَقَدْ فَرَجَ سَاقَيْهِ قَلِيلًا بِمِقْدَارِ مَا يُمَكِّنُنِي مِنَ التَّنَفُّسِ، وَلَمَّا رَآنِي قَدْ أَفَقْتُ ضَرَبَنِي بِسَاقَيْهِ ضَرَبَاتٍ مُتَوَالِيَةً فَلَمْ أَسْتَطِع مُخَالَفَةَ أَمْرِهِ، وَسِرْتُ إِلَى حَيْثُ أَشَارَ، وَمَا زَالَ يَأْكُلُ مَا يَحْلُو لَهُ مِنَ الْفَاكِهَةِ وَالثَّمَرِ طُولَ الْيَوْمِ وَجُزْءًا مِنَ اللَّيْلِ حَتَّى ضَعُفَتْ قُوَايَ فَارْتَمَيْتُ عَلَى الْأَرْض — وَأَنَا بَيْنَ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ — لِشِدَّةِ مَا لَحِقَني مِنَ التَّعَبِ فَفَرَجَ سَاقَيْهِ قَلِيلًا حَتَّى نِمْتُ، وَلَمَّا طَلَعَ الصُّبْحُ ظَلَّ يَضْرِبُنِي بِسَاقَيْهِ وَيَرْكُلُنِي بِقَدَمَيْهِ حَتَّى أَيْقَظَنِي، وَقَضَيْتُ يَوْمِي كَمَا قَضَيْتُ الْأَمْسِ مُتَأَلِّمًا أَشَدَّ الْأَلمِ مِنْ هَذِهِ الْمُصِيبَةِ الَّتِي لَمْ تَكُنْ فِي الْحِسْبَانِ، وَلَمْ أَزَلْ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ مُدَّةً مِنَ الزَّمَنِ.
(٨) الِانْتِقَامُ مِنْ شَيْخِ الْبَحْرِ
وَفِي ذَاتِ يَوْمٍ وَجَدْتُ كَثِيرًا مِنَ الْعِنَبِ النَّاضِجِ وَإِلَى جَانِبِهِ قَرْعٌ يَابِسٌ كَبِيرُ الْحَجْمِ، فَقَسَمْتُهُ أَنْصَافًا وَغَسَلْتُهُ بِالْمَاءِ بِعِنَايَةٍ تَامَّةٍ ثُمَّ وَضَعْتُ فِيهِ شَيْئًا مِنَ الْعِنَبِ وَتَرَكْتُهُ فِي الشَّمْسِ عِدَّةَ أَيَّامٍ حَتَّى اخْتَمَرَ، وَشَرِبْتُ مِنْهُ قَلِيلًا فَبَدَتْ عَلَى وَجْهِي نَشْوَةُ الْفَرَحِ، فَأَشَارَ إِلَيَّ الشَّيْخُ الْمَلْعُونُ أَنْ أَسْقِيَهُ مِنْ ذَلِكَ الْعَصِيرِ، فَلَمْ أَتَرَدَّدْ فِي تَلْبِيَةِ طَلَبهِ، وَمَا زَالَ يَشْرَبُ حَتَّى ذَهَبَ عَقْلُهُ وَارْتَخَتْ سَاقَاهُ، فَأَلْقَيْتُهُ عَلَى الْأَرْضِ وَأَخَذْتُ حَجَرًا كَبِيرًا فَأَلْقَيْتُهُ عَلَى رَأْسِهِ بِقُوَّةٍ فَقَتَلْتُهُ لِلْحَالِ. وَفَرِحْتُ بِهَذَا الْفَوْزِ فَرَحًا لَا يُوصَفُ.
(٩) فِي انْتِظَارِ الْفَرَجِ
وَمَكَثْتُ عِدَّةَ أَيَّامٍ وَأَنَا أَتَرَدَّدُ عَلَى شَاطِئ الْبَحْرِ مُرْتَقِبًا سَفِينَةً تَمُرُّ بِي حَتَّى أَذِنَ اللهُ لِي بِالْخَلَاصِ مِنْ هَذِهِ الْجَزِيرَةِ الَّتِي لَا أَنِيسَ فِيهَا، فَلَاحَتْ لِي سَفِينَةٌ كَبِيرَةٌ، وَرَأَيْتُهَا تَقْتَرِبُ مِنَ الْجَزِيرَةِ فَأَشَرْتُ إِلَى مَنْ فِيهَا فَأَقْبَلُوا عَلَيَّ وَبَدَأُونِي بِالتَّحِيَّةِ، فَرَدَدْتُهَا عَلَيْهِمْ أَحْسَنَ رَدٍّ، وَسَأَلُونِي عَنْ قِصَّتِي فَأَخْبَرْتُهُمْ بِكُلِّ مَا حَدَثَ لِي فَعَجِبُوا مِنْ ذَلِكَ أَشَدَّ الْعَجَبِ، وَقَالَ لِي أَحَدُهُمْ: «لَقَدْ وَقَعْتَ فِي قَبْضَةِ شَيْخِ الْبَحْرِ، وَلَوْلَا عِنَايَةُ اللهِ وَلُطْفُهُ بِكَ لَمَا نَجَوْتَ مِنْهُ» وَكَانَتْ هَذِهِ الْجَزِيرَةُ مَشْهُورَةً عِنْدَ التُّجَّارِ بِأَنَّ مَنْ يَصِلُ إِلَيْهَا لَا تُكْتَبُ لَهُ السَّلَامَةُ.
(١٠) مَدِينَةُ الْقُرُودِ
وَمَكَثْنَا مُدَّةً قَصِيرَةً مِنَ الزَّمَنِ ثُمَّ أَقْلَعَتْ بِنَا السَّفِينَةُ وَقَدْ لَقِيتُ مِنْ رُبَّانِهَا عِنَايَةً كَبِيرَةً، وَلَمْ نَزَلْ سَائِرِينَ فِي الْبَحْرِ أَيَّامًا وَلَيَالِيَ حَتَّى وَصَلْنَا إِلَى مَدِينَةٍ جَمِيلَةٍ سَأَلْتُ الرُّبَّانَ عَنِ اسْمِهَا فَأَخْبَرَنِي أَنَّهَا مَدِينَةُ الْقُرُودِ، وَقَدْ أَعْطَانِي أَحَدُ رِفَاقِي مِخْلَاةً كَبِيرَةً، وَكَانَ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِي مِخْلَاةٌ مِثْلُهَا، وَسَارُوا — وَأَنَا مَعَهُمْ — فَمَلَأَ كُلٌّ مِنْهُمْ مِخْلَاتَهُ بِالْحِجَارَةِ وَفَعَلْتُ فِعْلَهُمْ، وَمَا زِلْنَا سَائِرِينَ حَتَّى بَلَغْنَا غَابَةً كَبِيرَةً مَمْلُوءَةً بِشَجَرِ النَّارَجِيلِ «الْجَوْزِ الْهِنْدِي» وَعَلَى كُلِّ شَجَرَةٍ جَمَاعَةٌ مِنَ الْقِرَدَةِ، فَأَخَذَ التُّجَّارُ يَرْجمُونَهَا بِالْحِجَارَةِ — وَاقْتَدَيْتُ بِهِمْ فِي ذَلِكَ — فَرَأَيْتُ الْقِرَدَةَ قَدْ اهْتَاجَتْ وَغَاظَهَا مِنَّا صَنِيعُنَا بِهَا، فَأَخَذَتْ تَرْمِينَا بِالنَّارَجِيلِ — وَنَحْنُ نَجْمَعُهُ — حَتَّى مَلَأَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا مِخْلَاتَهُ، ثُمَّ عُدْنَا إِلى السَّفِينَةِ، وَفِي الْيَوْمِ التَّالِي ذَهَبْنَا جَمِيعًا إِلى الْغَابَةِ وَصَنَعْنَا مَا صَنَعْنَاهُ بِالْأَمْسِ. وَمَا زِلْنَا كَذَلِكَ عِدَّةَ أَيَّامٍ حَتَّى جَمَعْنَا مِقْدَارًا كَبِيرًا مِنَ النَّارَجِيلِ، ثُمَّ أَبْحَرَتْ بِنَا السَّفِينَةُ أَيَّامًا وَلَيَالِيَ حَتَّى وَصَلْنَا إِلى بَلَدٍ كَبِيرٍ فَبِعْنَا فِيهِ مَا مَعَنَا مِنَ النَّارَجِيلِ بِأَغْلَى ثَمَنٍ وَاشْتَرَيْنَا بِثَمَنِهِ كَثِيرًا مِنَ التَّوَابِلِ وَخَشَبِ الصَّنْدَلِ.
(١١) غَوَّاصُو اللُّؤْلُؤِ
وَمَا زِلْنَا نَنْتَقِلُ مِنْ بَلَدٍ إِلى بَلَدٍ وَنَتَّجِرُ فِي كُلِّ مَكَانٍ نَحُلُّ بِهِ حَتَّى وَصَلْنَا إِلى بَلَدٍ كَبِيرٍ حَيْثُ رَأَيْنَا غَوَّاصِي اللُّؤْلُؤِ يَغُوصُونَ فِي أَعْمَاقِ الْبَحْرِ رَغْبَةً فِي الْحُصُولِ عَلَيْهِ، فَطَلَبْتُ إِلَى أَحَدِ الْغَوَّاصِينَ أَنْ يَنْزِلَ إِلَى قَرَارِ الْبَحْرِ وَيَجْمَعَ لِي مَا يُصِيبُهُ مِنَ اللُّؤْلُؤِ وَأَعْطَيْتُهُ أَجْرَهُ عَلَى ذَلِكَ فَفَعَلَ وَكَانَ حَظِّي سَعِيدًا فَخَرَجَ وَمَعَهُ مِنَ اللُّؤْلُؤِ شَيءٌ كَثِيرٌ.
(١٢) الْعَوْدَةُ إلَى الْوَطَنِ
وَعُدْتُ إِلَى «الْبَصْرَةِ» وَمَعِي مِنَ الْمَالِ وَاللُّؤْلُؤِ وَخَشَبِ الصَّنْدَلِ ثَرْوَةٌ طَائِلَةٌ، ثُمَّ سَافَرْتُ مِنَ «الْبَصْرَةِ» إِلَى «بَغْدَادَ» فَلَقِيَنِي أَهْلِي وَأَصْحَابِي فَرِحِينَ بِعَوْدَتِي سَالِمًا، وَتَصَدَّقْتُ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ بِمَالٍ كَثِيرٍ وَعَزَمْتُ عَلَى الْبَقَاءِ فِي «بَغْدَادَ» طُولَ عُمْرِي آمِنًا مُطْمَئِنًا.
•••
وَلَمَّا انْتَهَى «السِّنْدِبَادُ» مِنْ كَلَامِهِ أَمَرَ لِلْحَمَّالِ بِمِائَةِ دِينَارٍ فَأَخَذَهَا دَاعِيًا لَهُ وَانْصَرَفَ مِنْ عِنْدِهِ شَاكِرًا مَسْرُورًا وَخَرَجَ مَعَهُ جَمِيعُ الْحَاضِرِينَ، عَلَى أَنْ يَعُودُوا إِلى «السِّنْدِبَادِ» فِي الْغَدِ.
وَلَمَّا حَضَرُوا فِي الْيَوْمِ التَّالِي بَدَأَ «السِّنْدِبَادُ» يَقُصُّ عَلَيْهِمْ رِحْلَتَهُ السَّادِسَةَ فَقَالَ.