الرحلة السادسة
(١) بَعْدَ عَامٍ
لَعَلَّكُمْ تَعْجَبُونَ أَشَدَّ الْعَجَبِ حِينَ تَعْلَمُونَ أَنَّنِي لَمْ أَتُبْ عَنِ السَّفَرِ بَعْدَ مَا لَقِيتُهُ فِي أَسْفَارِي الْخَمْسَةِ مِنَ الْأَخْطَارِ وَالْمَهَالِكِ، وَلَكُمُ الْعُذْرُ فِي هَذِهِ الدَّهْشَةِ، فَإِنَّنِي — أَنَا نَفْسِي — أَعْجَبُ مِثْلكُمْ مِنْ تِلْكَ الْمُجَازَفَةِ وَلَكِنَّ قَضَاءَ اللهِ لَا مَفَرَّ مِنْهُ، فَقَدْ سَوَّلَتْ نَفْسِي الْأَمَّارَةُ بِالسُّوءِ أَنْ أَشْقَى بَعْدَ الرَّاحَةِ وَأَحْتَمِلَ مِنَ الْلآلامِ وَالْمَخَاوِفِ فَوْقَ مَا احْتَمَلْتُ مِنْ قَبْلُ. بَعْدَ أَنْ بَقِيتُ فِي «بَغْدَادَ» سَنَةً كَامِلَةً نَاعِمًا مُرْتَاحَ الْقَلْبِ، وَعَاوَدَنِي شَوْقٌ شَدِيدٌ إِلَى السَّفَرِ وَالِاتِّجَارِ، وَبَذَلَ أَصْدِقَائِي كُلَّ مَا فِي وُسْعِهِمْ مِنْ نُصْحٍ لِيَثْنُوا عَزِيمَتِي وَيُعَوِّقُونِي عَنِ السَّفَرِ فَلَمْ يُفْلِحُوا.
(٢) هُبُوبُ الْعَاصِفَةِ
وَلَمَّا أَعْدَدْتُ عُدَّتِي وَاشْتَرَيْتُ مَا أَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ الْبَضَائِعِ سَافَرْتُ إِلَى الْبَصْرَةِ حَيْثُ أَبْحَرْتُ وَجَمَاعَةً مِنَ التُّجَّارِ قَاصِدِينَ إِلى بِلَادِ الْهِنْدِ، وَمَا زِلْنَا سَائِرِينَ فِي الْبَحْرِ أَيَّامًا وَلَيَالِيَ حَتَّى هَبَّتْ عَلَيْنَا — ذَاتَ يَوْمٍ — عَاصِفَةٌ شَدِيدَةٌ، فَظَلَّتِ الْأَمْوَاجُ تَلْعَبُ بِالْمَرْكَبِ وَأَصْبَحْنَا مُهَدَّدِينَ بِالْغَرَقِ بَيْنَ سَاعَةٍ وَأُخْرَى، وَمَكَثْنَا عَلَى هَذِهِ الْحَالِ يَوْمًا وَلَيْلَةً، ثُمَّ هَدَأَتِ الْعَاصِفَةُ، بَعْدَ أَنْ ضَلَّتْ سَفِينَتُنَا وَأَصْبَحْنَا لَا نَعْرِفُ فِي أَيِّ مَكَانٍ نَحْنُ وَلَا إِلى أَيَّةِ جِهَةٍ نَقْصِدُ، وَلَاحَ لَنَا جَبَلٌ شَاهِقٌ عَلَى مَسَافَةٍ بَعِيدَةٍ، وَلَمْ يَكَدْ يَتَبَيَّنُهُ الرُّبَّانُ حَتَّى صَرَخَ مِنَ الْجَزَعِ وَبَكَى، فَسَأَلْنَاهُ: «مَاذَا حَدَثَ؟» فَأَجَابَنَا مُتَأثِّرًا حَزِينًا: «لَقَدْ كُتِبَ عَلَيْنَا الهَلَاكُ فِي هَذِهِ الرِّحْلَةِ، وَلَمْ يَبْقَ لَنَا أَمَلٌ فِي النَّجَاةِ مِنَ الْمَوْتِ، فَادْعُوا اللهَ وَاسْتَغْفِرُوا لِذُنُوبِكُمْ وَلْيُوَدِّعْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا قَبْلَ أَنْ يَحُلَّ بِكُمُ الْهَلَاكُ فَإِنَّ سَفِينَتَنَا سَتَصْطَدِمُ — لَا مَحَالَةَ — بِهَذَا الْجَبَلِ الْعَالِي الَّذِي تَرَوْنَهُ، وَلَمْ يَنْجُ مَرْكَبٌ وَصَلَ إِلَى هَذَا الْمَكَانِ!»
•••
وَلَمْ يَكَدْ يُتِمُّ الرُّبَّانُ قَوْلَهُ حَتَّى رَأَيْنَا الْأَمْوَاجَ تَدْفَعُ الْمَركَبَ دَفْعًا إِلَى ذَلِكَ الْجَبَلِ، وَحَاوَلْنَا أَنْ نُحَوِّلَ مَرْكَبَنَا إِلى جِهَةٍ أُخْرَى فَلَمْ نُفْلِحْ، وَمَا زَالَتِ السَّفِينَةُ سَائِرَةً بِسُرْعَةٍ هَائِلَةٍ حَتَّى وَصَلَتْ إِلى الْجَبَلِ فَاصْطَدَمَتْ بِهِ صَدْمَةً عَنِيفَةً حَطَّمَتْهَا تَحْطِيمًا وَفَكَّكَتْ أَلْوَاحَهَا وَأَسْرَعَ كُلٌّ مِنَّا إِلى لَوْحٍ مِنَ الْخَشَبِ لِيَنْجُوَ بِهِ مِنَ الْغَرَق بَعْدَ أَنْ أَخَذْنَا مِنَ السَّفِينَةِ أَنْفَسَ مَا فِيهَا، وَمَا زِلْنَا مُجِدِّينَ فِي طَلَبِ الْخَلاصِ حَتَّى تَمَكَّنَّا — بَعْدَ جَهْدٍ جَهِيدٍ — مِنَ الصُّعُودِ إِلَى الشَّاطِئِ حَيْثُ وَضَعْنَا مَا حَمَلْنَاهُ مِنَ الزَّادِ وَالنَّفَائِسِ، فَقَالَ لَنَا الرُّبَّانُ: «يَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَحْفِرَ قُبُورَنَا بِأَيْدِينَا، فَلَيْسَ لَنَا أَمَلٌ فِي النَّجَاةِ مِنْ هَذِهِ الْجَزِيرَةِ الَّتِي لَمْ تُكْتَبِ السَّلَامَةُ لِأَيِّ سَفِينَةٍ وَصَلَتْ إِلَيْهَا»
(٣) فِي جَزِيرَةِ الْهَلَاكِ — عِظَامُ المَوْتَى
وَقَدْ تَبَيَّن لَنَا صِدْقُ قَوْلِهِ، فَقَدْ رَأَيْنَا أَمَامَنَا كَثِيرًا مِنْ بَقَايَا السُّفُنِ الْمُحَطَّمَةٍ وَلَاحَتْ مِنَّا الْتِفَاتَةٌ فَرَأَيْنَا كَومَةً مِنْ عِظَامِ الْمَوْتَى فَعَلِمْنَا أن مَصِيرَنَا سَيَكُونُ — بِلَا شَكٍّ — مِثْلَ مَصِيرِهم وَأَيْقَنَّا أَنَّ أَيَّامَنَا فِي الْحَيَاةِ مَعْدُودَةٌ، وَقَطَعْنَا الْأَمَلَ مِنَ النَّجَاةِ، وَكُنَّا نَرَى فِي كُلِّ مَكَانٍ — عَلَى شَاطِئ الْبَحْرِ — بَضَائِعَ وَذَخَائِرَ نَفِيسَةً مَطْرُوحَةً عَلَى الصُّخُورِ فَنَذْكُرُ مَصَارِعَ أَصْحَابِهَا مُتَرَقِّبِينَ اللَّحَاقَ بِهِمْ بَعْدَ قَلِيلٍ مِنَ الزَّمَنِ.
وَوَجَدْنَا نَهْرًا عَلَى سَفْحِ الْجَبَلِ يَخْرُجُ مِنْ كَهْفٍ مُظْلِمٍ دُونَ أَنْ يَعْلَمَ أَحَدٌ ما وَرَاءَ هَذَا الْكَهْفِ، وَرَأَيْنَا كَثِيرًا مِنَ الْأَحْجَارِ الْكَرِيمةِ — كَالْمَاسِ وَالْيَاقُوتِ وَالزُّمُرُّدِ — مُبَعْثَرَةً فِي كُلِّ مَكَانٍ فَلَمْ نَلْتَفِتْ إِلَيْهَا وَمَا عُنِيَ أَحَدٌ مِنَّا بِجَمْعِهَا.
•••
وَبَقِينَا يَائِسِينَ فِي تِلْكَ الْجَزِيرَةِ الْمُوحِشَةِ لَا أَمَلَ لَنَا فِي النَّجَاةِ لِأَنَّ كُلَّ مَرْكَبٍ نَتَرَقَّبُ وُصُولَهُ إِلَيْنَا يَكُونُ نَصِيبَهُ أَنْ يُحَطَّمَ كَمَا حُطِّمَ مَرْكَبُنَا وَيَلْقَى مَنْ فِيهِ مِثْلَ مَا لَقِينَا.
وَقَدْ قَسَمَ الرُّبَّانُ مَا مَعَنَا مِنَ الزَّادِ قِسْمَةً عَادِلَةً.
(٤) بَعْدَ فَرَاغِ الزَّادِ
وَبَقِينَا عَلَى هَذِهِ الْحَالِ مُدَّةً مِنَ الزَّمَنِ حَتَّى نَفِدَ مَا مَعَ رِفاقِي مِنَ الزَّادِ فَمَاتُوا جُوعًا — وَاحِدًا بَعْدَ الْآخَرِ — وَدَفَنْتُهُمْ جَمِيعًا وَبَقِيتُ وَحْدِي بَعْدَهُمْ أَتَرَقَّبُ الْمَوْتَ، وَكُنْتُ أَقْتَصِدُ فِي طَعَامِي فَلَا أَقْتَاتُ إِلَّا بِمِقْدَارِ مَا أَسْتَعينُ بِهِ عَلَى الْحَيَاةِ حَتَّى أَوْشَكَ زَادِي أَنْ يَنْفَدَ، وَجَعَلْتُ أُفَكِّرُ فِي هَذِهِ الْخَاتِمَةِ الْمُحْزِنَةِ وَأَلُومُ نَفْسِي عَلَى هَذِهِ الرِّحْلَةِ الْمَشْئُومَةِ.
(٥) الأَمَلُ بَعْدَ اليَأْسِ
وَلَكِنِّي لَمْ أَسْتَسْلِمْ لِلْيَأْسِ فَمَشَيْتُ إِلَى النَّهْرِ، وَجَعَلْتُ أُسَائِلُ نَفْسِي وَأَنَا أَتَأَمَّلُهُ: «أَيْنَ يَذْهَبُ هَذَا النَّهْرُ بَعْدَ أَنْ يَجْتَازَ الْكَهْفَ؟ إِنَّهُ لَا بُدَّ آتٍ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ آهِلٍ بِالسُّكَّانِ خَلْفَ هَذَا الْجَبَلِ الْعَالِي!» وَخَطَرَ لِي أَنْ أَصْنَعَ زَوْرَقًا، وَقُلْتُ لِنَفْسِي: «إِنَّني إِنْ بَقِيتُ فِي هَذِهِ الْجَزِيرَةِ فَأَنَا هَالِكٌ لَا مَحَالَةَ، فَإذَا رَكِبْتُ زَوْرَقًا وَهَلَكْتُ دَاخِلَ الْكَهْفِ فَلَنْ أَخْسَرَ شَيْئًا. وَأَكُونُ قَدْ بَذَلْتُ مَا فِي وُسْعِي وَلَمْ أُقَصِّرْ فِي شَيْءٍ. وَمَنْ يَدْرِي فَرُبَّمَا نَجَوْتُ مِنَ الْهَلَاكِ بِهَذِهِ الْوَسَيلَةِ».
(٦) زَوْرَقُ النَّجَاةِ
وَلَمْ أَتَرَدَّدْ فِي إِنْفَاذِ هَذِهِ الْفِكْرَةِ الْجَرِيئَةِ فَجَمَعْتُ مِنْ أَلْوَاحِ الْخَشَبِ مَا يَكْفِي لِصُنْعِ زَوْرَقٍ صَغِيرٍ، وَلَمَّا أَتْمَمْتُهُ أَنْزَلْتُهُ إِلَى النَّهْرِ وَمَلَأْتُهُ بِقَدْرِ مَا يَسْتَطِيعُ حَمْلَهُ مِنَ الذَّخَائِرِ النَّفِيسَةِ وَالْحِجَارَةِ الْكَرِيمَةِ الْمُبَعْثَرَةِ فِي أَنْحَاءِ الْجَزِيرَةِ، وَصَنَعْتُ مِجْدَافَيْنِ صَغِيرَيْنِ، وَصَحَّتْ عَزِيمَتِي عَلَى دُخُولِ ذَلِكَ الْكَهْفِ لِمَعْرِفَةِ مَا وَرَاءَهُ.
(٧) فِي ظُلْمَةِ الكَهْفِ
فَرَكِبْتُ زَوْرَقِي الصَّغِيرَ وَجَعَلْتُ أُجَدِّفُ فَرَأَيْتُ الزَّوْرَقَ يَسِيرُ بِي دَاخِلَ الْكَهْفِ بِسُرْعَةٍ، وَوَجَدْتُنِي فِي ظَلَامٍ دَامِسٍ، وَبَقِيتُ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ مُدَّةً طَوِيلَةً حَسِبْتُهَا — لِهَوْلِ مَا أَنَا فِيهِ — أَيَّامًا وَلَيَالِيَ، وَشَعَرْتُ بِأَنَّ الْمَكَانَ يَزْدَادُ ضِيقًا حَتَّى كَادَ زَوْرَقِي الصَّغِيرُ يَتَحَطَّمُ، وَخَشِيتُ أَنْ يَصْطَدِمَ رَأْسِي بِسَقْفِ الْكَهْفِ فَاسْتَلْقَيْتُ عَلَى ظَهْرِي، ثُمَّ أَجْهَدَنِي الْجُوعُ وَالتَّعَبُ وَغَلَبَنِي النُّعَاسُ فَنِمْتُ نَوْمًا عَمِيقًا.
(٨) الْخَلَاصُ مِنْ جَزِيرَةِ الْهَلَاكِ
وَلَمَّا اسْتَيْقَظْتُ وَجَدْتُنِي قَدْ خَرَجْتُ مِنْ ظُلْمَةِ الْكَهْفِ إِلى سَهْلٍ فَسِيحٍ، وَرَأَيْتُ زَوْرَقِي مَرْبُوطًا إِلَى جَانِبِ النَّهْرِ وَحَوْلِي جَمَاعَةٌ مِنَ النَّاسِ يَنْظُرُونَ إِلَيَّ نَظَرَاتِ الْعَطْفِ وَالدَّهْشَةِ، فَنَهَضْتُ شَاكِرًا لَهُمْ حُسْن صنِيعِهِمْ وَحَيَّيْتُهُمْ بِتحِيَّةِ الْإِخْلَاصِ وَالْمَوَدَّةِ فَرَدُّوا عَلَيَّ بكلامٍ لَمْ أَفْهَمْهُ، وَلَمْ أَكَدْ أَتَبَيَّنُ أَنَّنِي قَدْ نَجَوْتُ مِنْ جَزِيرَةِ الْهَلَاكِ حَتَّى امْتَلَأَتْ نَفْسِي فَرَحًا فَأَنْشَدْتُ قَوْلَ الْقَائِلِ:
(٩) فِي جَزِيرَةِ سَرَنْدِيبَ
وَكَانَ أَحَدُ الْحَاضِرِينَ يَعْرِفُ الْعَرَبِيَّةَ فَفَهِمَ كَلَامِي وَعَرَفَ أَنَّنِي عَرَبِيٌّ فَاقْتَرَبَ مِنِّي وَقَالَ: «لَا تَعْجَبْ يَا أَخِي وَلَا تَخْشَ شَيْئًا فَأَنْتَ فِي بِلَادِنَا، وَقَدْ رَأيْنَاكَ نَائِمًا فِي هَذَا الزَّوْرَقِ فَخَشِينَا عَلَيْكَ الْغَرَقَ وَرَبَطْنَاهُ إِلى شَاطِئ النَّهْرِ، وَمَكَثْنَا حَوْلَكَ حَتَّى اسْتَيْقَظْتَ مِنْ نَوْمِكَ، فَقُلْ لَنَا مِنْ أَيِّ مَكَانٍ أَتَيْتَ وَإِلى أيِّ مَكَانٍ تَقْصِدُ؟»
فَسَأَلْتُهُ: «وَأيْنَ أَنَا الآنَ؟»
فَقَالَ لِي: «أَنْتَ فِي جَزِيرَةِ سَرَنْدِيبَ.»
فَقُلْتُ لَهُ: «إِنَّنِي أَكَادُ أَهْلِكُ جُوعًا.»
فَأَسْرَعَ بِإِحْضَارِ الطَّعَامِ فَأَكَلْتُ حَتَّى شَبِعْتُ ثُمَّ قَصَصْتُ عَلَيْهِ قِصَّتِي فَتَرْجَمَهَا لِأَصْحَابِهِ فَعَجِبُوا أَشَدَّ الْعَجَبِ وَقَالُوا لِي: «إِنَّ قِصَّتَكَ عَجِيبَةٌ وَلَا بُدَّ مِنْ ذَهَابِكَ مَعَنَا إِلى الْمَلِكِ لِتَقُصَّهَا عَلَيْهِ».
(١٠) فِي حَضْرَةِ مَلِكِ سَرَنْدِيبَ
وَأَرْكَبُونِي جَوَادًا وَحَمَلُوا زَوْرَقِي — بِمَا فِيهِ — عَلَى أَكْتَافِهِمْ، وَلَمْ نَزَلْ سَائِرِينَ حَتَّى وَصَلْنَا إِلى الْمَدِينَةِ، وَلَمَّا مَثَلْتُ بينَ يَدَيِ الْمَلِكِ حَيَّيْتُهُ فَهَشَّ لِلِقَائِي وَرَدَّ عَلَيَّ التَّحِيَّةَ أَحْسَنَ رَدٍّ وَسَأَلَنِي عَنِ اسْمِي فَقُلْتُ لَهُ: «اسْمِي السِّنْدِبَادُ وَيَدْعُونِي النَّاسُ بِاسْمِ السِّنْدِبَادِ الْبَحْرِيِّ لِكَثْرَةِ أَسْفَارِي وَرُكُوبِي الْبِحَارَ.»
فَسَأَلَنِي الْمَلِكُ: «وَكَيْفَ وَصَلْتَ إِلى هُنَا؟»
فَقَصَصْتُ عَلَيْهِ كُلَّ مَا حَدَثَ لِي وَلَمْ أَكْتُمْ عَنْهُ شَيْئًا، فَدَهِشَ الْمَلِكُ لِذَلِكَ أَشَدَّ دَهْشَةٍ، وَفَرِحَ بِنَجَاتِي وَأَمَرَ أَنْ تُكْتَبَ قِصَّتِي بِمِدَادٍ مِنَ الذَّهَبِ لِغَرَابَتِهَا وَلِمَا فِيها مِنَ الْعِبَرِ.
•••
ثُمَّ رَأَى الْمَلِكُ مَا فِي الزَّوْرَقِ مِنْ كُنُوزٍ وَنَفَائِسَ، وَنَظَرَ إِلَى مَا يَحْوِيهِ مِنَ الْمَرْجَانِ وَالزُّمُرُّدِ وَالْمَاسِ وَهُوَ مُكَدَّسٌ أَكْدَاسًا فَوَجَدَهُ أَثْمَنَ مِمَّا فِي خَزَائِنِهِ، وَأَبْدَى دَهْشَتَهُ مِنْ ذَلِكَ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُ مُعْجَبًا بِتِلْكَ الْكُنُوزِ الَّتِي لَا تُقَوَّمُ بِثَمَنٍ عَرَضْتُ عَلَيْهِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا مَا يَشَاءُ وَقُلْتُ لَهُ: «إِنَّنِي وَجَمِيعَ مَا أَمْلِكُ طَوْعُ أَمْرِكَ.»
فَأَجَابَنِي مُبْتَسِمًا: «كَلاَّ يَا سِنْدبَادُ، إِنَّ كُنُوزَكَ مِلْكٌ لَكَ لَا يُنَازِعُكَ فِيهَا أَحَدٌ، وَلَسْتُ طَامِعًا فِيهَا، وَلَنْ آخُذَ مِنْهَا شَيْئًا بَلْ أَزِيدُهَا لَكَ، بَارَكَ اللهُ فِيكَ وَمَتَّعَكَ بِهَا!»
فَشَكَرْتُهُ عَلَى ذَلِكَ شُكْرًا جَزِيلًا.
(١١) فِي ضِيَافةِ مَلِكِ سَرَنْدِيبَ
وَأَعَدَّ لِي الْمَلِكُ مَنْزِلًا مِنْ أَفْخَمِ مَنَازِلِهِ وَنَقَلَ إِلَيْهِ كُنُوزِي وَذَخَائِرِي وَهَيَّأَ لِي كُلَّ مَا أَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ عَبِيدٍ وَخَدَمٍ وَغَمَرَنِي بِكَرَمِهِ وَعَطْفِهِ، وَهُوَ مَلِكٌ عَادِلٌ تُحِبُّهُ الرَّعِيَّةُ وَتُخلِصُ لَهُ إِخْلَاصًا شَدِيدًا، وَمِنْ عَادَتِهِ أَنْ يَرْكَبَ الْفِيلَ فِي مَوْكِبٍ حَافِلٍ أَيَّامَ الْأَعْيَادِ الْعَامَّةِ، وَكَانَ لَا يَمُرُّ بِي يَوْمٌ دُونَ أَنْ أَزُورَهُ وَأُكَرِّرَ لَهُ الشُّكْرَ عَلَى هَذِهِ الْعِنَايَةِ الْعَظِيمَةِ، ثُمَّ أَخْرُجَ إِلى الْمَدِينَةِ فَأَرَى فِيهَا غَرَائِبَ وَأَعَاجِيبَ لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَصِفَهَا لَكُمْ لِكَثْرَتِهَا.
(١٢) عَجَائِبُ سَرَنْدِيبَ
وَمِمَّا أَذْكُرُهُ لَكُمْ مِنْ عَجَائِبِهَا — عَلَى سَبِيلِ الْمِثَالِ — أَنَّ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ فِيهَا مُتَسَاوِيَانِ فِي الطُّولِ دَائِمًا بِسَبَبِ وُقُوعِها عَلَى خَطِّ الِاسْتِوَاءِ، وَأَنَّ فِيهَا جَبَلًا مِنْ أَعْلَى جِبَالِ الدُّنْيَا، وَلَقَدْ كُنْتُ أَصْعَدُ إِلى قِمَّتِهِ أَحْيَانًا لِأُمَتِّعَ نَفْسِي بِجَمَالِ الطَّبِيعَةِ الْفَاتِنِ كَمَا كُنْتُ أَذْهَبُ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ إِلى شَاطِئ الْبَحْرِ فَأَرَى الْغَوَّاصِينَ يَسْتَخْرِجُونَ الُّلؤْلُؤَ!
(١٣) كِتَابُ الْمَلِكِ إِلَى الْخَلِيفَةِ
وَمَكَثْتُ فِي تِلْكَ الْبِلَادِ الْجَمِيلَةِ عِدَّةَ أَيَّامٍ ثُمَّ اشْتَاقَتْ نَفْسِي إِلى رُؤْيَةِ وَطَنِي وَالْعَوْدَةِ إِلى بِلَادِي، فَاسْتَأْذَنْتُ الْمَلِكَ فِي السَّفَرِ فَتَفَضَّلَ عَلَيَّ بِالْإِذْنِ فِي ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ أَمَرَ لِي بِكَثِيرٍ مِنَ الْهَدَايَا الْغَالِيَةِ. وَلَمَّا جَاءَ يَوْمُ السَّفَرِ وَدَّعَنِي وَحَمَّلَنِي كِتَابًا رَقِيقًا إِلى الْخَلِيفَةِ «هَارُونَ الرَّشِيدِ» وَهَدَايَا نَفِيسَةً لَا تُقَوَّمُ بِثَمَنٍ.
(١٤) اَلْعَوْدَةُ إِلى بَغْدَادَ
ثُمَّ أَبْحَرَتْ بِيَ السَّفِينَةُ إِلَى بِلَادِي، وَلَمْ تَزَلْ سَائِرَةً أَيَّامًا وَلَيَالِيَ حَتَّى وَصَلَتْ إِلى «الْبَصْرَةِ» حَيْثُ سَافَرْتُ إِلَى «بَغْدَادَ» فَقَابَلَنِي أَهْلِي وَأَصْحَابِي أَحْسَنَ مُقَابَلَةٍ، وَتَصَدَّقْتُ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، وَأَجْزَلْتُ لَهُمُ الْعَطَاءَ وَعَزَمْتُ عَلَى تَرْكِ السَّفَرِ وَالْبَقَاءِ فِي «بَغْدَادَ» طُولَ عُمْرِي حَتَّى لَا أُعَرِّضَ نَفْسِي لِلْأَخْطَارِ وَالْمَخَاوِفِ بَعْدَ مَا نَجَوْتُ مِنْهَا.
(١٥) فِي حَضْرَةِ الْخَلِيفَةِ
ثُمَّ ذَهَبْتُ إِلى الْخَلِيفَةِ «هَارُونَ الرَّشِيدِ» فَمَثَلْتُ بِينَ يَدَيْهِ وَقَصَصْتُ عَلَيْهِ قِصَّتِي وَقَدَّمْتُ لَهُ مَا أَرْسَلَهُ إِلَيْهِ مَلِكُ «سَرَنْدِيبَ» مِنَ الْهَدَايَا النَّفِيسَةِ، فَعَجِبَ مِنْ ذَلِكَ عَجَبًا شَدِيدًا.
وَقَرَأَ كِتَابَ الْمَلِكِ فَرَآهُ يَفِيضُ بِالرِّقَّةِ وَالْمَوَدَّةِ وَالْإِخْلَاصِ، فَشَكَرَنِي عَلَى ذَلِكَ وَأَمَرَ لِي بِجَائِزَةٍ حَسَنَةٍ وَشَمَلَنِي بِعَطْفِهِ وَحُبِّهِ.
•••
وَلَمَّا فَرَغَ «السِّنْدِبَادُ» مِنْ كَلَامِهِ أَمَرَ لِلْحَمَّالِ بِمِائَةِ دِينَارٍ فَأَخَذَهَا مِنْهُ شَاكِرًا وَانْصَرَفَ مَعَ جَمِيعِ الْحَاضِرِينَ.
وَلَمَّا حَضَرُوا فِي الْيَوْمِ التَّالِي أَخَذَ «السِّنْدِبَادُ» يَقُصُّ عَلَيْهِمْ رِحْلَتَهُ السَّابِعَةَ فَقَالَ.