الرحلة السابعة
(١) تَوْبَةُ السِّنْدِبَادِ عَنِ السفَرِ
عَزَمْتُ — بَعْدَ أَنْ عُدْتُ مِنْ رِحْلَتِي السَّادِسَةِ — عَلَى تَرْكِ الْأَسْفَارِ بَعْدَ مَا لَقِيتُهُ فِيهَا مِنَ المخَاوِفِ وَالْأَخْطَارِ الَّتِي تَشِيبُ مِنْ هَوْلِهَا الْوِلْدَانُ. وَعَاهَدْتُ نَفْسِي عَهْدًا وَثِيقًا أَنْ أَقْضِيَ الْبَقِيَّةَ الْبَاقِيَةَ مِنْ عُمْرِي فِي رَاحَةٍ وَطُمَأْنِينَةٍ بَعْدَ أَنْ أَصْبَحْتُ شَيْخًا كَبِيرَ السِّنِ، وَكَرِهَتْ نَفْسِي الْغُرْبَةَ وَالْسَّفَرَ وَشَعَرْتُ بِمَيْلٍ شَدِيدٍ إِلَى الرَّاحَةِ فَتُبْتُ عَنِ الْسَّفَرِ تَوْبَةً صَادِقَةً وَصَحَّ عَزْمِي عَلَى الْبَقَاءِ فِي «بَغْدَادَ» نَاعِمًا هَادِئَ الْبَالِ لَا يُعَكِّرُ صَفْوِي أَيُّ كَدَرٍ.
(٢) نقْضُ التَّوْبَةِ
تَمَنَّيْتُ أَنْ تَنْصَرِفَ عَنِّي دَوَاعِي السَّفَرِ وَالْاغْتِرَابِ، وَلَكِنْ مَا كُلُّ مَا يَتَمَنَّى الْمَرْءُ يُدْرِكُهُ، فَقَدْ عَرَضَ لِي مَا لَمْ يَكُنْ فِي الْحِسْبَانِ إِذْ جَاءَنِي رَسُولٌ مِنْ قِبَلِ الْخَلِيفَةِ «هَارُونَ الرَّشِيدِ» يَسْتَدْعِينِي إِلَى مُقَابَلَتِهِ — وَكُنْتُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ جَالِسًا بَيْنَ أَصْدِقَائِي مُطْمَئِنَّ الْبَالِ — فَلَمْ أَتَرَدَّدْ فِي تَلْبِيَةِ الْأَمْرِ.
(٣) فِي حَضْرَةِ الْخَلِيفَةِ
وَلَمَّا مَثَلْتُ بَيْنَ يَدَيِ الْخَلِيفَةِ حَيَّيْتُهُ فَرَحَّبَ بِقُدُومِي ثُمَّ قَالَ لِي: «لَقَدِ اخْتَرْتُكَ يَا سِنْدِبَادُ — دُونَ سِوَاكَ مِنَ النَّاسِ — لِتَذْهَبَ إِلَى مَلِكِ «سَرَنْدِيبَ» وَتَحْمِلَ إِلَيْهِ هَذِهِ الْهَدِيَّةَ وَتُبَلِّغَهُ سَلَامِي وَتَحِيَّاتِي» فَوَقَعَ عَلَيَّ هَذَا الْخَبَرُ وُقُوعَ الصَّاعِقَةِ، وَقُلْتُ لَهُ: «أَنَا عَبْدُكَ الْخَاضِعُ يَا أَمِيرَ الْمُؤمِنِينَ، وَلَيْسَ فِي قُدْرَتِي أَنْ أَعْصِيَ لَكَ أَمْرًا، وَلَكِنَّنِي أتَوَسَّلُ إِلَيْكَ أَنْ تُعْفِيَنِي مِنَ الْقِيَامِ فِي هَذَا الْأَمْرِ، فَقَدْ تُبْتُ عَنِ السَّفَرِ تَوْبَةً صَادِقَةً وَأَقْسَمْتُ ألَّا أُفَارِقَ بَلَدِي، وَقَدْ أَصْبَحْتُ الْآنَ شَيْخًا كَبيرَ السِّنِّ لَا قُدْرَةَ لِي عَلَى السَّفَرِ وَمَتَاعِبِهِ!»
ثُمَّ قَصَصْتُ عَلَيْهِ كُلَّ مَا حَدَثَ لِي فِي أَسْفَارِي السَّابِقَةِ مِنَ الْأَخْطَارِ وَالْمَخَاوِفِ فَعَجِبَ مِنْ ذَلِكَ أَشَدَّ الْعَجَبِ وَقَالَ لِي: «حَقًّا إِنَّ قِصَّتَكَ هَذِهِ مِنْ أَعْجَبِ مَا سَمِعْتُ وَلَكِنَّ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُنِي أَنْ أَعْهَدَ إِلَيْكَ بِمَا أَرَدْتُ، وَلَسْتُ أُكَلِّفُكَ شَيْئًا أَكْثَرَ مِنْ أَنْ تَذْهَبَ إِلَى مَلِكِ «سَرَنْدِيبَ» وَتَحْمِلَ إِلَيْهِ هَدِيَّتِي وَتَحِيَّتِي ثُمَّ تَعُودَ إِلَيْنَا سَالِمًا آمِنًا، فَلَيْسَ مِنَ الْمُرُوءَةِ أَنْ يَبْدَأَنِي بِالْوُدِّ وَالْإِخْلَاص فَلَا أُجِيبُهُ بِمَا هُوَ أَهْلٌ لَهُ مِنَ الشُّكْر وَالثَّنَاءِ؟»
(٤) السَّفَرُ إِلى جَزيرَةِ سَرَنْدِيبَ
فَلَمْ أَسْتَطِعْ مُخَالَفَةَ أَمْرِهِ، وَأَجَبْتُهُ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فَفَرِحَ فَرَحًا شَدِيدًا وَمَنَحَنِي أَلْفَ دِينَارٍ — مُكَافَأَةً لِي عَلَى ذَلِكَ — ثُمَّ أَمَرَ لِي بِمَالٍ كَثِيرٍ — فَوْقَ مَا أَعْطَانِي — لِأُنْفِقَ مِنْهُ عَلَى هَذِهِ الرِّحْلَةِ.
فَسَافَرْتُ بِهَدِيَّتِهِ وَكِتَابِهِ إِلى جَزِيرَةِ «سَرَنْدِيبَ» وَطَابَتْ لَنَا الرِّيحُ أَيَّامًا وَلَيَالِيَ حَتَّى وَصَلْنَا إِلَيْهَا سَالِمِينَ.
(٥) فِي حَضْرَةِ مَلِكِ سَرَنْدِيبَ
وَلَمْ أَكَدْ أَذْهَبُ إِلَى مَلِكِ «سَرَنْدِيبَ» حَتَّى أَقْبَلَ عَلَيَّ وَفَرحَ بِقُدُومِي فَرَحًا شَدِيدًا وَقَالَ لِي: «لَقَدْ كُنْتُ فِي شَوْقٍ شَدِيدٍ إِلَيْكَ يَا سِنْدِبَادُ، وَكُنْتُ كَثِيرًا مَا أُثْنِي عَلَيْكَ وَأُعجَبُ بِصِدْقِ عَزِيمَتِكَ.»
فَشَكَرْتُ لَهُ ذَلِكَ، وَقَدَّمْتُ إِلَيْهِ كِتَابَ الْخَلِيفَةِ وَهَدِيَّتَهُ فَسُرَّ بِهِمَا سُرُورًا عَظِيمًا، وَمَكَثْتُ فِي ضِيَافَتِهِ أَيَّامًا كَثِيرَةً ثُمَّ اسْتَأْذَنْتُهُ فِي الْعَوْدَةِ إِلى بَلَدِي فَأَسِفَ عَلَى ذَلِكَ أَشَدَّ الْأَسَفِ، وَلَمْ يَأْذَنْ لِي فِي السَّفَرِ إِلَّا بَعْدَ جَهْدٍ عَظِيمٍ لِشِدَّةِ تَعَلُّقِهِ بِي، وَأَهْدَانِي شَيْئًا كَثِيرًا مِنَ النَّفَائِسِ وَالتُّحَفِ فَقَبِلْتُهَا شَاكِرًا، ثُمَّ وَدَّعْتُهُ وَأَنَا آسِفٌ عَلَى فِرَاقِهِ.
(٦) لُصُوصُ الْبَحْرِ
وَرَأَيْتُ إِحْدَى السُّفُنِ ذَاهِبَةً إِلى «الْبَصْرَةِ» فَنَزَلْتُ إِلَيْهَا وَسَارَتْ بِنَا فِي الْبَحْرِ وَكَانَتِ الرِّيحُ طَيِّبَةً وَالْأُمُورُ عَلَى مَا يُرَامُ فَبَقِينَا أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ نَلْهُو وَنَلْعَبُ وَنُغَنِّي فَرِحِينَ بِقُرْب الْعَوْدَةِ إِلَى الْوَطَنِ، وَفِي الْيَوْمِ الْخَامِسِ فَاجَأَنَا لُصُوصُ الْبَحْرِ فَقَتَلُوا كُلَّ مَنْ قَاوَمَهُمْ شَرَّ قِتْلَةٍ وَسَلَبُوا مَا مَعَنَا مِنْ ثَرْوَةٍ وَمَتَاعٍ وَأَسَرُوا مَنْ بَقِيَ مِنَّا وَوَقَعْتُ فِي قَبْضَتِهِمْ أَسِيرًا، ثُمَّ ذهَبُوا بِمَرْكَبِنَا إِلى جَزِيرَةٍ بَعِيدَةٍ فَبَاعُونَا فِيهَا بَيْعَ الْعَبِيدِ، فَاشْتَرَانِي تَاجِرٌ غَنِيٌّ وَأطْعَمَنِي وَكَسَانِي وَآوَانِي عِنْدَهُ، ثُمَّ سَأَلَني بَعْدَ أيَّامٍ قَلَائِلَ عَمَّا أُحْسِنُهُ مِنَ الْعَمَلِ فَقُلْتُ لَهُ: «أَنَا تَاجِرٌ غَنِيٌّ لَا أُحْسِنُ عَمَلًا غَيْرَ التِّجَارَةِ وَقَدْ وَقَعْتُ فِي قَبْضَةِ لُصُوصِ الْبَحْرِ أَسِيرًا.»
فَقَالَ لِي: «أَلَمْ تَتَعَلَّمِ الصَّيْدَ؟» فَأَجَبْتُهُ: «لَقَدْ تَعَلَّمْتُهُ فِي صِبَايَ، وَفِي قُدْرَتِي أَنْ أُحْسِنَهُ بَعْدَ قَلِيلٍ مِنَ الْمَرَانَةِ.»
(٧) صَيْدُ الْفِيلِ
فَأَعْطَانِي قَوْسًا وَنِبَالًا وَأَرْكَبَنِي مَعَهُ فِيلًا، ثُمَّ ذَهَبَ بِي إِلَى غَابَةٍ بَعِيدَةٍ وَقَالَ لِي: «إِنَّ هَذِهِ الْغَابَةَ مَمْلُوءَةٌ بِالْفِيَلَةِ، وَكُلُّ مَا أَطْلُبُهُ مِنْكَ أَنْ تَخْتَبِئَ فِي بَعْضِ الْأَشْجَارِ الْعَالِيَةِ وَمَعَكَ قَوْسُكَ وَنِبَالُكَ فَإِذَا اصْطَدْتَ فِيلًا عُدْتَ إِلَيَّ لِتُخْبِرَنِي بِذَلِكَ.»
ثُمَّ رَجَعَ مِنْ حَيْثُ أَتَى وَتَرَكَنِي وَحْدِي، فَصَعِدْتُ إِلَى شَجَرَةٍ عَالِيَةٍ وَبَقِيتُ عَلَيْهَا طُولَ الَّليْلِ فَلَمْ أَرَ شَيْئًا، وَلَمَّا أَشْرَقَتِ الشَّمْسُ رَأَيْتُ قَطِيعًا مِنَ الْفِيَلَةِ يَقْتَرِبُ فَأَطْلَقْتُ سِهَامِي عَلَى أَحَدِهَا فَقَتَلَتْهُ وَهَرَبَ بَاقِي الْفِيَلَةِ، فَذَهَبْتُ إِلَى سَيِّدِي وَأَخْبَرْتُهُ بِمَا فَعَلْتُ فَسُرَّ بِذَلِكَ وَشَكَرَنِي شُكْرًا جَزِيلًا وَعَادَ مَعِي إِلَى الْغَابَةِ فَحَفَرْنَا حُفْرَةً كَبِيرَةً وَارَيْنَا فِيهَا جُثَّةَ الْفِيلِ حَتّى إِذَا مَضَى عَلَيْهِ زَمَنٌ طَوِيلٌ عَادَ إِلَيْهِ فَأَخَذَ عِظَامَهُ لِيَبِيعَهَا بِأَغْلَى ثَمَنٍ.
(٨) مَعَ الْأَفْيَالِ
وَمَا زِلْتُ أَصْطَادُ فِي كُلِّ يَوْمٍ فِيلًا وَأَدْفِنُهُ حَتَّى مَضَى عَلَيَّ شَهْرَانِ، وَكُنْتُ أَتَنَقَّلُ مِنْ شَجَرَةٍ إِلَى أُخْرَى حَتَّى لَا تَفْطَنَ الْفِيَلَةُ إِلَى مَكَانِي، وَفِي ذَاتِ يَوْمٍ رَأَيْتُ قَطِيعًا مِنْهَا مُسْرِعًا إِلَى الشَّجَرَةِ الَّتِي كُنْتُ فَوْقَهَا. فَتَوَقَّعْتُ الشَّرَّ. وَبَعْدَ قَلِيلٍ جَاءَتِ الْأَفْيَالُ فَأَحَاطَتْ بِالشَّجَرَةِ وَجَعَلَتْ تُحَرِّكُ خَرَاطِيمَهَا بِعُنْفٍ وَشِدَّةٍ — وَهِيَ تَنْظُرُ إِلَيَّ وَتُحَدِّقُ فِيَّ — فَامْتَلَأَ قَلْبِي رُعْبًا وَسَقَطَ الْقَوْسُ وَالنِّبَالُ مِنْ يَدِي. وَجَاءَ فِيلٌ كَبِيرٌ فَلَفَّ خُرْطُومَهُ عَلَى جِذْعِ الشَّجَرَةِ الَّتِي كُنْتُ فَوْقَهَا. وَجَذَبَهَا إِلَيْهِ جَذْبَةً قَوِيَّةً. فَاقْتَلَعَهَا مِنْ جذُورِهَا وَهَوَيْتُ إِلَى الْأَرْضِ.
•••
وَاقْتَرَبَ الْفِيلُ مِنِّي فَرَفَعَنِي بِخُرْطُومِهِ وَأَجْلَسَنِي عَلَى ظَهْرِهِ وَأَنَا بَيْنَ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ مِنْ شِدَّةِ مَا لَحِقَنِي مِنَ الْخَوْفِ. ثُمَّ سَارَ بِي وَمِنْ خَلْفِهِ الْأَفْيَالُ الْأُخْرَى إِلَى مَكَانٍ قَرِيبٍ حَيْثُ وَقَفَ وَأَنْزَلَنِي إِلَى الْأَرْضِ وَعَادَتِ الْفِيَلَةُ دُونَ أَنْ تَمَسَّنِي بِأَذًى، فَخُيِّلَ إِلَيَّ أَنَّنِي حَالِمٌ، وَكِدْتُ لَا أُصَدِّقُ مَا أرَاهُ.
(٩) مَقْبَرةُ الْفِيَلَةِ
وَنَظَرْتُ فِيمَا حَوْلِي فَرَأيْتُ كَوْمَةً مِنْ عِظَامِ الْأَفْيَالِ وأنْيَابِهَا فَأدْرَكْتُ أنَّهَا لَمْ تُحْضِرْنِي إِلَى هَذَا الْمَكانِ إِلَّا لِأَكُفَّ عَنْ قَتْلِهَا. وَكَأنَّهَا عَلِمَتْ أنَّنِي لَا أقْتُلُهَا إِلَّا بُغْيَةَ الْحُصُولِ عَلَى الْعَاجِ فَجَاءَتْ بِي إِلَى هَذِهِ الْمَقْبَرَةِ لِأحْمِلَ مِنْهُ مَا أَسْتَطِيعُ حَمْلَهُ.
وَعُدْتُ مُسْرِعًا إِلَى سَيِّدِي فَلَمْ يَكَدْ يَرَانِي حَتَّى أَقْبَلَ عَلَيَّ يُهَنِّئُنِي بِالسَّلَامَةِ وَقَالَ: «لَقَدْ مَرَرْتُ بِالْغَابَةِ الْيَوْمَ فَرَأَيْتُ قَوْسَكَ وَنِبَالَكَ مُلْقَاةً عَلَى الْأرْضِ إِلَى جَانِبِ شَجَرَةٍ مُقْتَلَعَةٍ مِنْ جُذُورِهَا فَأَيْقَنْتُ أنَّ الْأفْيَالَ قَتَلَتْكَ كَمَا قَتَلَتْ غَيْرَكَ مِنْ عَبِيدِنَا مِنْ قَبْلِ. فَكَيْفَ نَجَوْتَ؟» فَقَصَصْتُ عَلَيْهِ مَا حَدَثَ لِي فَعَجِبَ وَسَارَ مَعِي حَتَّى رَأَى صِدْقَ مَا قُلْتُهُ.
(١٠) خَلَاصُ السِّنْدِبَادِ مِنَ الْأَسْرِ
فَفَرِحَ بِذَلِكَ فَرَحًا شَدِيدًا وَشَكَرَنِي عَلَى ذَكَائِي كُلَّ الشُّكْرِ، وَقَالَ لِي: «لَقَدْ هَدَيْتنِي إِلَى طَرِيقِ ثَرْوَةٍ طَائِلَةٍ لَمْ أكُنْ لِأَحْلُمَ بِهَا مِنْ قَبْلُ. وَقَدْ أعْتَقْتُكَ وَجَعَلْتُكَ حُرًّا». فَشَكَرْتُ لَهُ ذَلِكَ وَفَرِحْتُ بِخَلَاصِي مِنَ الْأَسْرِ وَالْعُبُودِيَّةِ، وَاسْتَأْذَنْتُهُ فِي الْعَوْدَةِ إِلى وَطَنِي فَأعْطَانِي مَالًا كَثِيرًا وَهَدَايَا نَفِيسَةً. وَمِقْدَارًا وَافِرًا مِنَ الْعَاجِ بِعْتُهُ — فِيمَا بَعْدُ — بِأغْلَى ثَمَنٍ.
(١١) الْعَوْدَةُ إِلَى الْوَطَنِ
ثُمَّ نَزَلْتُ إِلَى مَرْكَبٍ كَانَ مُسَافِرًا إِلَى «الْبَصْرَةِ» فَسَارَ فِي الْبَحْرِ أيَّامًا وَلَيَالِيَ حَتَّى وَصَلَ إِلَى بَلَدٍ كَبِيرٍ. فَأسْرَعْتُ بِالنُّزُولِ وَأنَا أحْمَدُ اللهَ عَلَى سَلَامَتِي مِنَ الْبَحْرِ، وَذَهَبْتُ مَعَ قَافِلَةٍ كَانَتْ سَائِرَةً إِلَى «بَغْدَادَ» وَمَا زِلْنَا سَائِرِينَ فِي الْبَرِّ أيَّامًا وَلَيَالِيَ حَتَّى وَصَلْنَا إِلَيْهَا.
(١٢) فِي بَغْدَادَ
وَلَمْ أكَدْ أدْخُلُ «بَغْدَادَ» حَتَّى قَابَلنِي أهْلِي وَأَصْحَابِي فَرِحِينَ بِعَوْدَتِي سَالِمًا. وَلَمَّا ذَهَبْتُ إِلى الْخَلِيفَةِ «هَارُونَ الرَّشِيدِ» قَابَلَنِي أحْسَنَ مُقَابَلَةٍ وَفَرِحَ بِقُدُومِي أشَدَّ الْفَرَحِ وَقَالَ لِي: «لَقَدْ أقْلَقَني غِيَابُكَ وَخَشِيتُ عَلَيْكَ أنْ يَكُونَ قَدْ أصَابَكَ سُوءٌ، فَمَاذَا عَوَّقَكَ؟»
•••
فَقَصَصْتُ عَلَيْهِ كُلَّ مَا حَدَثَ لِي فَعَجِبَ مِنْ ذَلِكَ أشَدَّ الْعَجَبِ وَأَمَرَ أنْ تُكْتَبَ قِصَّتِي بِمِدَادٍ مِنْ ذَهَبٍ لِتَكُونَ عِبْرَةً لِكُلِّ مَنْ قَرَأهَا، وَكَافَأَنِي أَجْزَلَ مُكَافأَةٍ فَعُدْتُ مِنْ عِنْدِهِ شَاكِرًا.
وَمُنْذُ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَأنَا فِي «بَغْدَادَ» أنْعَمُ بَيْنَ أهْلِي وَأصْحَابِي بَعِيدًا عَنِ الْأسْفَارِ آمِنًا مِنَ الْمَخَاوِفِ وَالْأَخْطَارِ.
خَاتِمَةُ الْقِصَةِ
وَلَمَّا انْتَهَى السِّنْدِبَادُ مِنْ كَلَامِهِ، الْتَفَتَ إِلى الْهِنْدِبَادِ الْحَمَّالِ وَقَالَ لَهُ: «وَالآنَ مَا رَأْيُكَ أيُّهَا الصَّدِيقُ؟ هَلْ سَمِعْتَ فِي حَيَاتِكَ أغْرَبَ مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ؟ وَهَلْ تَعَرَّضَ أحَدٌ لِمِثْلِ مَا تَعَرَّضْتُ لَهُ مِنَ الْمَهَالِكِ وَالْأخْطَارِ؟ ألَيْسَ مِنْ حَقِّي — بَعْدَ كُلِّ مَا لَقِيتُهُ مِنَ الْمَتَاعِبِ والأهْوَالِ — أنْ أَقْضِيَ البَقِيَّةَ الْبَاقِيَةَ مِنْ عُمْرِي هَادِئًا مُطْمَئِنًّا؟»
•••
فَقَامَ إِلَيْهِ «الْهِنْدِبَادُ» الْحَمَّالُ وَقَبَّلَ يَدَهُ — في احْتِرَامٍ وأدَبٍ — ثُمَّ قَالَ لَهُ: «الْحَقُّ أنَّنِي لَمْ أَسْمَعْ أغْرَبَ مِنْ قِصَّتِكَ، ولَسْتُ أرَى أحَدًا أجْدَرَ مِنْكَ بِالسَّعَادَةِ لِأنَّكَ أدْرَكْتَهَا بِجِدِّكَ وَاجْتِهَادِكَ، وَلَيْسَتْ مَتَاعِبِي الَّتِي أحْتَمِلُهَا كُلَّ يَوْمٍ شَيْئًا مَذْكُورًا إِذَا قِيسَتْ إِلَى رِحْلَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ رِحْلَاتِكَ الْعَجِيبَةِ! وَلَقَدْ صَدَقَ الْقَائِلُ: «مَنْ لَمْ يَرْكَبِ الأهْوَالَ لَمْ يَنَلِ الرَّغَائِبَ»
وَقَدْ حَلَّاكَ اللهُ بِصِفَاتٍ نَادِرَةٍ، فَأَنْتَ — فَضْلًا عَنْ شَجَاعَتِكَ وَجُرْأتِكَ — مُحْسِنٌ بَارٌّ بِالْفُقَرَاءِ والْمَسَاكِينِ، وَلَيْسَ لِي مَا أُكَافِئُكَ بِهِ — بَعْدَ الثَّنَاءِ عَلَيْكَ — إِلَّا الدُّعَاءَ لَكَ، بَارَكَ اللهُ فِيكَ وَأَطَالَ عُمْرَكَ وَمَتَّعَكَ بِثَرْوَتِكَ وَصِحَّتَكَ».
•••
فَهُشَّ لَهُ «السِّنْدِبَادُ» وقَرَّبَهُ إِلَيْهِ ومَنَحَهُ مِائَةَ دِينَارٍ أُخْرَى، وطَلَبَ إِلَيْهِ أنْ يَأْكُلَ مَعَهُ كُلَّ يَوْمٍ.
واتخَذَهُ «السِّنْدِبَادُ» صَاحِبًا لَهُ فَأَغْنَاهُ بَعْدَ فَقْرِهِ، وأصْبَحَ «الْهِنْدِبَادُ» — مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ — مِنْ خِيرَةِ أصْفِيَاءِ «السِّنْدِبَادِ» وَنُدَمَائِهِ.