البداية
رخاءٌ اقتصادي، تقدُّمٌ مستمِرٌّ في العلم والصناعة، زحفُ التيار الوضعي والمادي، تضخُّم النزعات القومية والوطنية، غرور الاستعمار ونَهْبُه للثروات والشعوب: تلك هي بعض الظواهر التي اتسمت بها بداية القرن العشرين. غير أن الطليعة الفنية والأدبية تشككت على الفور في هذه القيم، وارتابت في معنى التقدم والتطور المزعوم، وأعلنت احتجاجها على المدنية الزائفة، وصمَّمت أن تكشف القناع عن الطمأنينة الكاذبة التي شعر بها البرجوازي الأوروبي، لا بل انغمس فيها إلى أذنيه، وتجلَّت واضحة على كرشه الضخم وملبسه الفخم وكلماته الطنانة الجوفاء وشهوته إلى المال والمنفعة والغرور الذي لا يبرره عجز الإنسان وضعفه في هذا الكون.
لم يكن هذا الشك العميق بالشيء الجديد؛ فقد امتدت جذوره في التراث العقلي الأوروبي القديم والحديث. ولسنا بحاجة للرجوع إلى مدارس الشكاك عند اليونان، فيكفي أن نتذكر تمجيد بودلير للقبح والبشاعة واعتبارهما عنصرًا من عناصر الجمال الفني، وثورة رامبو على أوربا ومدنيتها في شعره ونثره المتفجر كالبركان المحموم. ويكفي أيضًا أن نتذكر الضجة التي أثارها نيتشه عن انهيار الأخلاق وتنبؤه بالعدمية وبدء عصر جديد وإنسانية جديدة تمجِّد القوة والأرض والحياة والشجاعة، واكتشاف داروين لقوانين التطور وفرويد للوعي الباطن أو اللاشعور. فإذا التفتنا للأدب والفن وجدنا ظواهر أخرى تقابلها وتستجيب لها أو تثور عليها، فهناك صيحات التعبيريين (وسنعود للكلمة بعد قليل!) وبيانات المستقبليين والسرياليين، وبشاعات الدادية وعجائبها الفنية والروحية، وغرائب التكعيبية وتطرُّفها في تحطيم الواقع الخارجي.
أَعْلَنَت كل هذه الظواهر الفنية في بداية القرن العشرين عن احتجاجها على المدنية التي تطرَّفت في استخدام الآلة إلى حدٍّ غير إنساني، ورفعت صوتها بالسخط على مجتمع التجار والنفعيين وآلهة المال وعبيده، والغضب من الظلم الاجتماعي والاضطهاد والبؤس والبطالة والحرب، نعم فقد اشتعلت نيران الحرب العالمية الأولى، وجاءت مآسيها وتجاربها المُرَّة المظلمة تأكيدها لكل ما تنبأ به الضمير الأوروبي وكل ما احتج عليه الفنانون والمثقفون.
ومن الطبيعي أن يكون السخط ملازمًا للتبشير بشيءٍ جديد، وأن ترتبط الثورة على المدنية والآلية ورجال المال والأعمال وجلَّادي الشعوب بتأكيدٍ حادٍّ للنزعة الإنسانية المفتقدة. وقد جاء التأكيد الحار من جانب التعبيرية.
التعبيرية إذن ظاهرة ينبغي أن يُنْظَر إليها في إطار أشمل وأعم، وتُلْتَمس جذورها في التراث الروحي والعقلي وأزمة الضمير الأوروبي التي سبقتها بوقت طويل. صحيح أن حديثنا على هذه الصفحات سيقتصر في جملته على التعبيرية الألمانية. وصحيح أن التعبيرية ترتبط في أذهان الدارسين والمثقفين بالروح الألمانية والفكر الألماني، وتمثِّل جواب الألمان على سؤال أوروبي. ولكن الألمان لم يبتكروها من العدم، كما أنها ليست ظاهرةً ألمانيةً خالصةً كما يظن كثير من الباحثين، وإنما هي ثمرةٌ مُرَّة تفتَّحت على أغصان شجرة الثقافة الغربية العريقة، وقمةُ حركةٍ عقلية وروحية بلغت ذروتها في العشرينيات، ولا زالت تطبع الفن الأوروبي الحديث بطابعها إلى اليوم. لقد جربت معظم الأشكال والأساليب الفنية والأدبية التي لا تزال حية بيننا: الموسيقى غير النغمية أو ذات الاثنتي عشرة نغمة، الرسم التكعيبي والتجريدي، العمارة الوظيفية، الرقص التعبيري، المونولوج الداخلي، الشعر الجديد بكل ما فيه من غرابةٍ ونشازٍ وغموضٍ وإلغاز، ولكن هذه الاتجاهات لا تعدو أن تكون أمثلةً سريعة تدل على الثورة الهائلة التي تميَّزت بها تلك المرحلة القصيرة الخصبة من حياة العقل الأوروبي في أوائل القرن العشرين. أقول: القصيرة؛ لأن النهاية جاءت سريعةً مفاجئة، بل جاءت أسرعَ مما تسمح به قوانين الميلاد والحياة والموت! فسرعان ما ذبلت الحركة التعبيرية التي بدأت حوالي سنة ١٩١٠ واختنق صوتها حوالي سنة ١٩٢٥؛ خنقته الأزمة الاقتصادية العالمية، وزحف ذئاب الفاشية وقطعانها الهمجية واندلاع نيران الحرب العالمية الثانية، وكانت النتيجة أن دُفِنَت التعبيرية حيةً وانطفأت شعلتها التي لم تكد تتوهج. ومع ذلك فقد كان من نتائج هذه الأزمات — ومن العجيب أن مسوخ الشر والقبح تلد في بعض الأحيان مخلوقاتٍ رائعة الجمال! — أن الفن قد أصبح بعد الحرب الثانية شيئًا عالميًّا، وأن النزعات والتيارات القومية والمحلية في الأدب الأوروبي قد انتهت إلى الأبد؛ أعني أنها أصبحت شيئًا يتجه للإنسان في كل مكان ويُهِمُّ الناس في كلِّ ركن من أركان أرضنا الصغيرة البائسة …
•••
لا بد أن نتوقف الآن لنسأل: ما هي التعبيرية؟
هي اسمٌ أو اصطلاحٌ يُطْلَق على حركةٍ فنيةٍ واسعةٍ لا تقتصر على الأدب وحده، بل تشمل الموسيقى والرسم والرقص والمسرح؛ أي إنه ينطبق على مجموعة من الاتجاهات والتيارات المختلفة التي يضمها بشكلٍ عام غير محدد. ونخطئ لو تصوَّرنا أنه يدل على مدرسةٍ فنيةٍ أو أدبيةٍ بعينها؛ لأنه في الواقع يدل على جوٍّ عام مشترك. ونخطئ أيضًا لو حاولنا تغييره أو تعديله، فهو اصطلاح يرجع عمره إلى أكثر من نصف قرن، ومن العبث أن نحاول الإفلات منه. ليس الفنانون أو الأدباء هم الذين وضعوه، بل وضعه نقاد الفنون التشكيلية لتمييز الرسم الجديد عن الرسم التأثُّري الشائع في ذلك الحين. وتلقف الأدباء والدارسون هذا المصطلح الجديد، ووجدوا أنه يعكس نزعتهم الجديدة؛ نزعة التعبير أو قيم التعبير التي وضعوها في مركز فهمهم الجديد للفن.
ثم سرى على الاصطلاح الجديد ما يسري عادةً على كل مصطلحٍ عصريٍّ عندما يقع بين أيدي الشعراء الكبار فيتجاوزون حدوده الضيقة وتصنيفاته المحدودة. ويكفي أن نتذكر أسماء فنانين وشعراء وكُتَّاب كبار مثل كاندبنسكي في الرسم، وشونبرج في الموسيقى، وجورج تراكل في الشعر، وكافكا في القصة والرواية. إنهم جميعًا يُصْدِرون عن نفس المنبع التعبيري، ولكنهم في نفس الوقت يتخطَّون حدوده. تلك هي طبيعة كل فنان عظيم، وذلك هو قدَره ورسالته. فبينما الناس ينتظرون منه أن يشارك في الاتجاه الجديد بنصيبٍ أكبر من غيره، إذا بهم يكتشفون أنه أول مَنْ أفلت من حدوده وتجاوزها؛ أي سبَق عصره بمعنًى من المعاني. أما المصطلحات المدرسية والأسماء والقوالب الجاهزة فهي دائمًا من شأن الأوساط من الفنانين والأدباء؛ ولذلك نجد أن التعبيريين الخُلَّص ليسوا دائمًا أفضل التعبيريين؛ لأن البرامج والبيانات والصيحات لا يمكن أن تحلَّ محل العبقرية أو تغني عنها. ولكن ها نحن أولاء نبتعد عن موضوعنا … فلنترك هذه الخواطر جانبًا ولنعُد قليلًا إلى التاريخ.
لننظر الآن في حالة الأدب الألماني: في بداية هذا القرن كان هناك تياران أو إن شئت مدرستان رئيسيتان، وكان هذان التياران أو هاتان المدرستان متلازمتين ومتعارضتين في آنٍ واحد. فهناك الطبيعية التي تحاول من ناحيتها أن تنسخ الواقع بدقة توشك أن تكون فوتوغرافية، وتتأثر في القصة والرواية بالكاتب الفرنسي إميل زولا أشد التأثر، وتتطرف واقعيتها وإيمانها بالعلم، وتزعم أنها تصور الإنسان كما تحدده قوانين الوراثة والبيئة والظروف الاجتماعية والتاريخية. فالكاتبان: أرنو هولز (١٨٦٣–١٩٢٩) ويوهانيس شلاف (١٨٦٢–١٩٤١) يضعان الأسس النظرية والنقدية لهذه المدرسة الطبيعية، وإن كانت القطيعة قد فرَّقت بينهما فيما بعدُ. والكاتب المسرحي العظيم جرهارت هاويتمان (١٨٦٢–١٩٤٦) يناقش المشكلات الاجتماعية في مسرحياته الشهيرة (كالنساجين مثلًا)، وكانت هناك الرمزية أو التأثرية أو الكلاسيكية الجديدة على الجانب الآخر؛ اتجاه يحافظ على التراث ويرتبط به. ولكنه اتجاه أرستقراطي متعالٍ، رقيق وحساس، ينزع للغموض والأسرار التي تبلغ به في بعض الأحيان إلى معارج الروحانية والتصوف. ويكفي أن نذكر أسماء: ستيفان جئورجه ورلكه وهوفمنستال؛ لنعرف قيمته الشعرية والشعورية الرفيعة.
ولكن لم يلبث أن نشأ جيلٌ جديد؛ جيل غاضب وساخط ومحتج، سئم جمود الطبيعيين وضِيق أفقهم وعداءهم للخيال والشاعرية والذاتية، كما كره حساسية الرمزيين وحدَّتهم مع اللغة والفن المحض وتعاليهم عن مشكلات السياسة والواقع. وأعلنوها ثورةً لم تقف عند حدود الأدب والفن، بل أصبحت ثورةً سياسيةً واجتماعية. لم يكوِّن شباب هذا الجيل مدرسةً ولم يحاولوا أن يخلقوا مذهبًا، بل كانوا مجموعةً من الطلاب والنقاد والفنانين ألَّف بينهم السخط المشترك على المجتمع المنافق، والكره المشترك للحياة الآلية والعملية وقيمها النفعية الحقيرة. أرادوا أن يكشفوا عن فساد الأخلاق البرجوازية وعفن السلوك البرجوازي، ويرفعوا النقاب عن فظائعه ويقفوا بجانب ضحاياه. وكان ملهمهم الأكبر هو «نيتشه» الذي زلزل العصر وهز القرن العشرين بأَسْره، وسلَّط على المجتمع والدين والأخلاق والفلسفة التقليدية والمذهبية نيران حكمته الباهرة الطيبة الجسورة. أخذ هؤلاء الشباب بنقده للدين، واحتقاره للنزعات القومية، وتحطيمه للقيم القديمة، وحَمْلَته على الأخلاق «غير الأخلاقية»، وهجومه على الفلسفات الغبية التي فقدت الحياة والقوة وشجاعة المغامرة، كما أخذوا منه تشاؤمه العام من الحضارة والثقافة (الذي توسع فيه إشبنجلر بعد ذلك في كتابه المعروف عن أفول الغرب (١٩١٨))، وجدوا أفكارهم عند نيتشه، ولكنهم لم يتطرَّفوا تطرفه؛ أُعْجِبوا بفكرته عن وجوب تجاوز الإنسان ولكنهم لم يذهبوا إلى حدِّ النداء بالإنسان الأعلى (هذا الذي ظلمه وحوش الحكم المطلق وجنَوا عليه!) ومع ذلك فقد شغفوا بالحديث عن الإنسان الجديد، وأرادوا أن يصبح الإنسان الحر الخيِّر الذي يعيش من أجل المجتمع ويتضامن مع آلامه ويحس بعذابه وأشواقه، وليس ببعيد أن يكونوا قد تصوروا أنفسهم في صورة الأنبياء المبشِّرين بهذا الإنسان …
كانت التعبيرية إذن حركةً فنيةً ثائرة، تجمَّعت تحت لواء الإيمان بإنسانيةٍ جديدة، أرادت أن تمحو كل أشكال الواقع التي أثبتت الحرب فسادها، وتقضي قضاءً تامًّا على كل قيم التراث والحياة البرجوازية والسياسية والفنية التي أدت إلى الحرب، أو على الأقل لم تحُلْ دون وقوعها أو لم تقف في وجهها. كان هناك سخط هائل على كارثة الحرب العالمية الأولى. وكانت التعبيرية هي «التعبير» الفني عن هذا السخط، أراد الفنان — هذا المخلوق الخالق! — أن يشكِّل العالم من جديد: بالرؤية والحماس المتوهج للقيم المطلقة، بالإبداع الحر، بالروح الطليق، والكلمة الحية المتمردة على الواقع والمدنية والتقدم وكل القيم التي فضحت الحرب كذبها وخداعها.
كتب الناقد هرمان بار — الذي عاصر التعبيرية ودعا إليها — يقول عن تلك الفترة: لم يوجد عصر من قبلُ هزَّه هذا الرعب وهذا الفزع المميت. لم يعرف العالم مثل هذا الصمت الذي يشبه صمت القبور. لم يكن الإنسان في يومٍ من الأيام صغيرًا كما كان في تلك الفترة، ولا شعَر بمثل ذلك القلق الذي شعر به. أبدًا لم يكن السلام أبعد مما كان في تلك الأيام، ولا كانت الحرية أكثر موتًا. ها هي ذي المحنة تصرخ: الإنسان يصرخ بحثًا عن نفسه؛ العصر كله أصبح صرخة واحدة تنطق بالمحنة. إن الفن كذلك يصرخ معه، يطلِق صيحته في أعماق الظلام، يستغيث، يستنجد بالروح: هذه هي التعبيرية.
وصدر عن الحركة التعبيرية عدد كبير من البيانات والبرامج النظرية والنقدية التي تحاول أن تحدِّد معالم هذا الإنسان الجديد وتوضح ملامح المجتمع الذي ينبغي أن يحلَّ محل المجتمع الفاسد الظالم المنهار. وتكوَّنت الجماعات في مختلف المدن وتفككت، وظهرت المجلات والمجموعات الشعرية والنثرية التي تصور الجوانب المختلفة من الثورة التعبيرية. وتعددت الأفكار والآراء ووجهات النظر. كان هناك المتطرفون والمعتدلون، كما كان هناك الإيجابيون والسلبيون. فلم تكن التعبيرية — كما قلت — مدرسةً محددة، ولم يلتئم أقطابها في مذهبٍ موحد، بل كانت حركةً أو جوًّا شعوريًّا وروحيًّا عامًّا لا تقيده أفكار أو نظريات ثابتة. ومن المستحيل أن نتعرض في هذا المجال لكل التيارات التي عاشت في هذا الجو العام، أو لكل البرامج ووجهات النظر المختلفة المتعارضة في بعض الأحيان؛ ولذلك فسأقتصر على تقديم بعض العبارات المأخوذة من أحد هذه البرامج الهامة والإشارة إلى الجماعات، وأبرز الأسماء التي تمثل هذه الحركة الخصبة الشهيدة.
تشترك كل البرامج والبيانات النظرية التي صدرت عن التعبيرية في رؤيتها للإنسان الشامل، ورغبتها المخلصة في أن تلمس منه الروح والجسد والنفس والحس في وقت واحد؛ لذلك اعترضوا من البداية على النزعة الشكلية أو الجمالية الخالصة التي تهدف إلى تحقيق الشكل الكامل وحده (كما نجدها عند غلاة الرمزية مثلًا)، وحاولوا التغلغل إلى الأعماق الدفينة في الإنسان، بكل ما يختلج فيها من ظلالٍ وأسرارٍ وإحساسات مبهمة. وفضَّلوا التدفق المحموم على الوضوح الصارم، والنشوة والعنف على التعقل والنظام.
ويكفي أن نستشهد بما يقوله أحد نقَّاد التعبيرية وأشدهم تحمسًا لها، وهو «كورت بنتوس» الذي أصدر أشهر وأهم مجموعة من الشعر التعبيري وهي المجموعة المعروفة باسم «فجر الإنسانية». يقول هذا الناقد ملخِّصًا الملامح البارزة والأهداف الرئيسية: «تحرير الواقع من الأطر التي يظهر من خلالها، تحريرنا نحن من الواقع وتجاوزه، لا بالالتجاء إلى وسائله الخاصة، ولا بالهروب منه، بل بمعانقته بشدة للانتصار عليه والتحكم فيه بقوة العقل النفاذة، بالمرونة والحركة، بالرغبة في الوضوح، بعمق العاطفة وطاقتها المتفجرة … تلك هي الأهداف العامة التي يريد أن يحققها هذا الشعر الشاب.»
ويكفي أيضًا أن نُلْقِي نظرةً سريعة على الرسم التعبيري. لقد سار في نفس الخط الذي سار فيه الشعر أو بالأحرى في خطٍّ موازٍ له. فهو قد مر بتجارب عديدة مشابهة للتجارب التي خاضها الشعر التعبيري، وحاول محاولاته المتعثرة التي تتميز مع ذلك بالجرأة والتهور في سبيل تحطيم الشيء أو الموضوع الخارجي وتحويله إلى ظاهرة مجردة والوصول إلى جوهره أو ماهيته.
أما الشعر التعبيري فقد حاول أن يتجاوز حدود الواقع بالإيقاع السريع المندفع، والصور القوية المجنحة، والانفعال المنغم، والرؤى الغربية، والعاطفة المتفجرة، والصيحات الحادة، التي تكشف كلها عن جوهر الإنسان وحقيقته التي طالما حجبتها المدنية الآلية خلف قناعٍ كثيف من التصنع والكذب والنفاق والفساد والغرور العلمي.
كانت للتعبيرية إذن — وللشعر التعبيري بوجه خاص — رسالتها الكبرى. وكان الشعراء مؤمنين بأنهم لن يستطيعوا تحقيق هذه الرسالة حتى يحطموا القديم. ومن ثم انطلقت صيحاتهم العالية تهاجم الإنسان التقليدي وتبشر بالإنسان الجديد: الإنسان الذي تحرَّر من نظام حضاري وثقافي جنى عليه وأحاله إلى وحشٍ معتدٍ غبي كاذب.
أخذت معاول التعبيريين تهدم القديم وتنقِّب فيه عن الفجر الجديد. والحقُّ أنهم نجحوا في الهدم إلى حد بعيد! بل لعل نجاحهم في الهدم كان أكبر من رغبتهم أو من تصورهم للبناء. ومع أنهم قالوا عن أنفسهم: إنهم ثائرون، فلن تكن ثورتهم بالثورة الشاملة. لقد التمسوا روَّادهم في أشخاص: دوستويفسكي ووالت ويتمان، وفي شعر الباروك، وحركة العصف والاندفاع الألمانية (أو الشتورم والدرانج التي كانت تغلب الاندفاع والجموح على النظام والشكل)، والأساطير والخرافات وحكايات الجن ونصوص التصوف القديم ورؤاه.
ويكفي أن نتصفح «الفارس الأزرق» — وهو الكتاب المشهور الذي نشره الفنانان المعروفان كاندنسكي وفرانز مارك — لنجد فيه بجانب رسوم الفن الحديث لوحات من «الجريكو» وصور تماثيل من الفن القوطي والبيزنطي والفرعوني والأشوري والياباني ونماذج من النحت الإفريقي … فقد كانت نظرتهما إلى التعبيرية نظرةً واسعة الأفق، والتمسوا التعبير المرئي واليدوي السابق على الحرف المكتوب. ولعل التعبيريين هم الذين اكتشفوا الفن البدائي ورسوم الأطفال اللذين كان لهما أثر كبير على تطور الفن المعاصر.
هكذا ارتبط فن الرسم بالشعر والأدب أوثق ارتباط، ولم يسبق في تاريخ الثقافة الألمانية أن كان لهما مثل هذا التفاعل الحي المتبادل. ويمكن أن نستشهد على هذا بالمجموعات الشعرية أو القصصية التي صوَّرها الرسامون، وكتب الرسم التي علَّق عليها أو استلهمها الشعراء. فالرسام كيرشنر صوَّر أشعار جورج هايم وأقاصيص ألفرد دبلن. وهناك عدد كبير من الفنانين الذين برعوا في الفن التشكيلي والأدب على السواء. فالرسام أوسكار كوكوشكا والمثَّال المصور أرنست بارلاخ كتبا المسرحية، والرسام ألفرد كوبين كتب المقالة والقصة والرواية الطويلة. والرسامون: باول كِليه وهانز آرب وكورت شفيترز كتبوا القصيدة المتأثرة بأسلوبهم التجريدي أو الدادي. والشاعرة القصاصة إلزا-لاسكر شولر والمثَّال بارلاخ صوَّرا أعمالهما الشعرية أو المسرحية بنفسهما. وهم بهذا قد أكدوا أحد الملامح البارزة في تاريخ الفكر الحديث، ألا وهو التعاون والتجاوب الحميم بين الفنون المختلفة من أدبٍ ورسمٍ وموسيقى. ولقد كانت أهم نتيجة تمخضت عن هذا التعاون بين الفنانين هي تأسيس عدد كبير من المجلات التي توالى صدورها منذ سنة ١٩١٠، واستمرت وقتًا طويلًا وصل في بعض الأحوال إلى خمسة عشر عامًا. ونذكر منها مجلة العاصفة التي وردت فيها كلمة التعبيرية لأول مرة، للدلالة على الرسم الجديد، وقد أصدرها الكاتب والموسيقي والناقد الفني هيرفارت فالدن ابتداءً من سنة ١٩١٠، ومجلة «الفعل» التي ظهرت سنة ١٩١١ تحت إشراف ف. بفمبفرت، و«الثورة» في ميونيخ، و«الصحف البيضاء» في زيوريخ، و«الشعلة» في فيينا. وأيًّا ما كانت أسماء هذه المجلات، فالذي يهمنا في هذا المجال أنها كانت أشبه بالمعارض الفنية المنشورة، وأن كبار الفنانين التعبيريين كانوا يزيِّنونها بصورهم ولوحاتهم الأصلية. بل إن «فالدن» الذي سبقت الإشارة إليه قد بالَغ في هذا فألحق بمجلته قاعةً فنيةً ودارًا للنشر ومسرحًا للتمثيل! وعرض في قاعته أعمالًا من الفن التجريدي لكليه وكاندينسكي وغيرهما، ودافع بحرارة عن الأسلوب التجريدي في الحركة التعبيرية. ولم تخلُ مجلة «الفعل» أيضًا من مظاهر الكفاح السياسي والاجتماعي، فقد أيدت الحركة اليسارية الألمانية، ونشرت المقالات والتقارير السياسية، بل نشرت كذلك نص الدستور السوفيتي! وإن دل هذا كله على شيء فإنما يدل على خصوبة الحركة التعبيرية، وتنوُّع اتجاهاتها واهتماماتها، واحتضانها لمختلف التيارات الثائرة والأصوات الغاضبة. ويطول بنا الحديث لو ذكرنا الحوليات والمجموعات المنتخبة من الأشعار والمسرحيات والقصص التي نشرها التعبيريون، ومن أهمها كتاب بعنوان: «يوم الحساب»، أصدره ك. فولف أكبر الناشرين لأعمال الحركة التعبيرية، وضمَّنه مجموعةً مختارة من كتابات كافكا وجتفريد بن وفرانز فيرفل وغيرهم. ولم يقف الأمر عند الشعر والرسم والنقد الأدبي والنشاط السياسي والاجتماعي، فقد التفت التعبيريون إلى الفيلم وحاولوا لأول مرة في تاريخ تلك الصناعة الناشئة أن يربطوا بينه وبين الشعر.
وقد يسأل القارئ: وماذا عن الفلسفة؟! هذه الصديقة التقليدية للشعر والأدب الألماني؟ لقد انطلقوا حقًّا من فلسفة نيتشه، واستلهموه وتعلَّموا منه، ولكن لا بد من القول بأن الفلسفة لم يكن لها مكان في الحركة التعبيرية؛ أعني الفلسفة بمفهومها الاصطلاحي الدقيق، لا الموقف الفلسفي العام الذي لا يخلو منه بالطبع فكر أو فن؛ فالمذهب الفلسفي يتطلب نوعًا من الاتزان العقلي، ويحتاج إلى كثير من الهدوء والرويَّة والدأب الذي لم يكن من طبيعة التعبيريين. ومع ذلك فلا أحب أن أحرم القارئ من جوابٍ قريب من سؤاله وإن لم يكن فيه شيء كثير يرضيه. فقد تحسُن الإشارة إلى كتابين تشبَّعا بالجو التعبيري وتأثَّر أسلوبهما به، وهما: كتاب «نظرية الرواية» للناقد الاشتراكي المجري الشهير جورج لوكاتش، «وفكرة اليوتوبيا» للفيلسوف الاشتراكي إرنست بلوخ، والكتابان شاهِدا صدق على هذا العصر الفائر المحموم، ولكنهما بعيدان عن أي محاولة لتنظيره أو دراسته دراسةً مذهبيةً ومنهجية.