الشعر
ولكن لنعد الآن إلى موضوعنا الأساسي … لنعد إلى الأدب! الحقيقة الأولى التي تواجهنا في الأدب التعبيري هي أن الشعر يؤلِّف الجانب الأكبر من إنتاج أصحابه، فهو يضم عددًا كبيرًا من القصائد وعددًا أقل من المسرحيات، وأقل القليل من النثر القصصي والروائي والنقدي. الشعر إذن وقبل كل شيء! هنا تبلغ التعبيرية ذروتها ويعبِّر شعراؤها بنجاح لا شك فيه عن خلجاتهم وهواجسهم وأحلامهم وأشواقهم إلى فجر الإنسانية الجديدة …
لنضرب مثلًا لهذا؛ لنتأمل قصيدة تجسد هذا الكلام، ولنفتح معًا هذه المجموعة المنتخبة التي أشرت إليها وهي التي أصدرها كورت بينتوس في سنة ١٩٢٠؛ أي في وقتٍ مالت فيه شمس التعبيرية (أو قمرها!) للأفول. إن أول ما يلفتنا هو عنوانها الذي يدل على الحركة كلها وهو فجر الإنسانية، فإذا تصفحناها وجدنا الناشر يقسمها إلى أربعة أقسام، أو بالأحرى يجعل منها سيمفونية ذات أربع حركات: «سقوط وصراخ، بعث القلب، نداء وثورة، حب الإنسان». لقد رتبها إذن بحسب الموضوعات لا بحسب الشعراء، وضمَّنها كل ما يعتز به التعبيريون ويعكس رؤيتهم وأحلامهم: الصراخ والثورة والإلهام والحب للإنسان، ولكن ما هو أسلوب هذه الثورة الأدبية؟ بمَ يتميز؟ ما الجديد فيه؟
لننظر في شعر التعبيريين، ولنفتح فجر الإنسانية مرة أخرى. لن نتعب في البحث كثيرًا، فيكفي أن نتأمل الصفحة الأولى من الكتاب، هذه هي قصيدة الافتتاح، قصيدة صغيرة سأترجمها لك (على الرغم من أن ترجمة الشعر مستحيلة؛ إذ كيف تستطيع الترجمة أن تنقل الصوت والإيقاع والظلال الدقيقة والإيحاء المنبعث من الكلمات؟! وماذا يبقى من القصيدة الأصلية التي تعتمد على قيمٍ صوتية في ألفاظٍ بعينها عندما تتحول إلى ألفاظ أخرى في لغة أخرى؟! لنغتفر لأنفسنا إذن هذه الجناية التي تشترك فيها كل اللغات والثقافات والحضارات على مر العصور، ولنعتبر الترجمة جسرًا متواضعًا أقصى مُناه أن ينقلك إلى شاطئ النص الأصلي أو يغريك بالوصول إليه، فإذا بلغت الشاطئ واستغنيت بالأصل عن الصورة فانسَ ذلك الجسر البائس المسكين!)
لننظر إذن في ترجمة القصيدة؛ على ما في الترجمة من عجز وقصور محتوم. عنوان القصيدة هو «نهاية العالم»، وصاحبها هو ياكوب فان هوديس، واحد من أولئك الشعراء العديدين الذين كتبوا الشعر في شبابهم ثم انقطعوا عنه بعد ذلك كل الانقطاع (كأنما كانوا يقتدون بالمثال الرائع الشجاع الذي ضربه رامبو!)
تلك هي القصيدة، ولكن لنتوقف قليلًا لنقول كلمةً عن الشاعر. ومع أنني لا أحب الكلام عن حياة الأدباء ولا أميل للربط بين حياتهم وأعمالهم، فيبدو لي أن سطورًا قليلة عن هذا الشاعر الغريب وشخصيته الغامضة المحيِّرة لن تخلو من فائدة. إنه شاعر مُقِل كما قلت، كتب الشعر في شبابه ثم كفَّ عنه إلى الأبد.
وقد وُلِدَ ببرلين سنة ١٨٨٧، في أسرةٍ ميسورة الحال، وقضى صباه السعيد بين أبٍ متشكك مادِّي النزعة يعمل طبيبًا، وأمٍّ مثالية رقيقة الحس رفيعة الثقافة. وسرعان ما بدأت التناقضات التي ورثها عن أبويه تظهر في سلوكه؛ فقد ترك المدرسة الثانوية ثم رجع إليها، ودرس العمارة في مدينة ميونيخ، ثم اشتغل فترة لم تزد على نصف عام بالبناء، ولم يلبث أن تخلَّى عن هذه المهنة الصغيرة ليواصل دراسة الفلسفة واللغة اليونانية القديمة في جامعتَي: يينا وبرلين. وأسس مع جماعة من أصدقائه الشبان ناديًا يلتقون فيه مرةً كل أسبوع ليقرءوا إنتاجهم. وكان من هذه الجماعة شاعرٌ فقدته الحياة الأدبية قبل الأوان وما زالت تتحسر على موته؛ وهو الشاعر جورج هايم الذي مات غريقًا سنة ١٩١٢، ولم يكد يُتمُّ الخامسة والعشرين من عمره. وقد اهتز شاعرنا لموت صديقه، ثم تكفَّل الإخفاق في الحب بتدمير صحته العقلية (أحب إحدى مصممات العرائس فلم تبادله الحب، وجُنَّ بشاعرةٍ فلم يجد صدًى لعاطفته)، ولم ينفعه تحوله إلى الكاثوليكية ولا شفاه تنقُّله بين مصحَّات عديدة؛ فقد ألحَّ عليه داء شغوف بالفنانين والشعراء، وهو داء الفصام. وامتدت إليه أيدي الأصدقاء بغير جدوى، واختفى فترة ثم ظهر في باريس وميونيخ، ورجع إلى برلين ليجاهر أمَّه التي كان يحبها ويقدِّسها بالكراهية والعداء، ويفاجئ أصحابه بقراءة قصائده الجديدة. وأخذ المرض بخناقِهِ فظل يتنقل بين المصحات العقلية المختلفة حتى استقر في مصحة بندورف-ساين بالقرب من مدينة كوبلنس في جنوب ألمانيا. وفي آخر أيام شهر أبريل سنة ١٩٤٢ نُقل المريض رقم ٨ إلى مكانٍ لا يعلمه أحد، واختفى بطريقةٍ لم يعلمها أحد حتى الآن. وقد ضاعت معظم أشعاره وكتاباته النثرية، ونُشِرَ ما بقي منها سنة ١٩٥٨ في زيوريخ تحت عنوان القصيدة التي نقلتها إليك في السطور السابقة، ولم يتجاوز هذا التراث ست عشرة قصيدة.
أما القصيدة نفسها فأول ما تلاحظه النظرة الأولى أنها ليست من القصائد ذات البناء التقليدي التي تتناول موضوعًا أو تهدف لتصوير فكرة تمهِّد لها وتطورها وتنتهي بها إلى غايةٍ أو خاتمة. وهي كذلك لا تنمي فكرةً ولا تسير على منطقٍ مألوف، بل تجنح إلى نوعٍ من الشذوذ الذي يثير السخرية، وتزدحم بخواطر وتفاصيل يمكن أن نَصِفَها بالسريالية (وهي سريالية لأنها تشوِّه معالم الواقع أو تتجاوز حدوده، وليس الواقع هو الذي يُمليها بل إرادة الشاعر نفسه وخياله المسرف الجامح). هي إذن تضمُّ مجموعةً من الصور التي لا تتصل بعضها ببعض. كل بيت فيها وحدة بذاتها، بحيث تصبح وكأنها نوعٌ من «الموازييك» ألَّف بينها خيال الشاعر وحده، لا المنطق ولا الواقع المألوف، القصيدة إذن تُوحي ولا تُفهم، شأنها في هذا شأن الغالبية العظمى من قصائد الشعر الحديث، وهي بصورها المفككة تريد أن توحي برؤية الشاعر لنهاية العالم؛ ولذلك فليس غريبًا أن يتغير العالم المطمئن المنظم وينهار فجأة أمام عيوننا: فالبرجوازي المطمئن الواثق بنفسه وبعالمه ومجتمعه سيفقد قبعته، وهي رمز ثقته واطمئنانه وثباته. وستصبح القبعة التافهة رمزًا لهذا العالم أو هذا المجتمع المنهار، أما رأس البرجوازي فهي مدببة، تمامًا كما صوَّرها الرسامون التعبيريون مثل كيرشنر وموللر وشميت-روتلوف، فأسرفوا في ذلك مبالغةً في الاستهزاء به.
وأما عن جوِّ القصيدة — وهو أهم ما في شعر التعبيريين — فهو يصطخب بضوضاء وأصوات وصرخات غامضة. إن اللاواقع قد غزا الواقع وتمكَّن منه. نفس الشيء الذي نلاحظه في رسوم كوبين ورؤى كافكا المخيفة عن الرعب والتعذيب (كما تبدو بوجهٍ خاص في قصته معتقل العقاب التي تكاد تكون نبوءة صادقة عن أهوال الحرب العالمية الثانية وتعذيب الإنسان في معسكرات الاعتقال أو سجون الإرهاب على يد المستعمرين والجلادين القدامى والمحدثين)، ضوضاء، عواصف، دمار، وخراب، كوارث من كل نوع، كل شيء قد انقلب على رأسه، كل شيء قد تحطَّم وتمزَّق، والطبيعة والمدنية المتباهية بآلاتها وصناعاتها قد فقدت الطمأنينة، ودقَّت ساعة الكارثة، فلنتوقع كل شيء.
إن التفاصيل التي يزحم بها الشاعر قصيدته، وطريقته في عرضها، ومزجه بين عظائم الأمور وتوافهها، وانتقاله من كارثة تدمر الكون إلى أحداث تافهة كسقوط عمال بناء السقوف وإصابة أغلب الناس بالزكام … كل هذا يوحي بالكارثة ويخلق شعورًا غريبًا تختلط فيه السخرية المُرَّة بالمزاج الأسود. ولكن هذا الأسلوب ليس إلا جانبًا واحدًا من جوانب التعبيرية المتعددة قد نجده — على سبيل المثال — في الأفلام التعبيرية، فإذا تأمَّلنا شكل القصيدة وأسلوبها وجدنا أنها ليست من القصائد التعبيرية الخالصة؛ فهي تحافظ على الوزن والقافية وشكل المقطوعة (وهو ما تعجز الترجمة عن أدائه!) كما تحافظ على سلامة اللغة وبنية العبارة، وهي أمور تخلى عنها معظم الشعراء التعبيريين واعتبروها قيودًا تحدُّ من انطلاق التعبير، ومع أن الشاعر يشارك معظم الفنانين التعبيريين في رؤيته لنهاية العالم وانهياره، وإبقائه على وحدة الأبيات وانعزالها عن بعضها البعض، إلا أن لغته لا تكشف عن أهم الخصائص التي تتميز بها لغتهم؛ فهي — كما قلت — لغة سليمة والتعبيريون يميلون إلى تشويه اللغة، والاكتفاء بالإيحاء والإيماء والتركيز على الكلمات الدالة باستبعاد الضمائر وحروف الربط والوصل وأدوات التعريف والاقتصار في معظم الأحوال على الأسماء والأفعال وحدها.
ومع هذا كله فالقصيدة تحتفظ بجانب تعبيري لا شك فيه. إن لم يتضح في لغتها وأسلوبها فهو أوضح ما يكون في رؤيتها العامة. وأذكِّرك بالعنوان الذي وضعه الناشر لهذه القصيدة وغيرها من القصائد التي تدور في فلكها. العنوان هو «سقوط وصراخ»، وهو في الحقيقة بالِغ الدلالة على غرض التعبيريين. إن الصرخة هي أبلغ تعبير وأعمقه، وهي — إن جاز القول — تعبير خالصٌ عارٍ، وكأن الشاعر التعبيري يتمنى أن تكون قصيدته صرخةً وحسب. ولكن ما العمل إذا كان الإنسان لا يستطيع أن يكتب قصيدة من الصرخات وحدها؟ ما العمل إذا كان مضطرًّا أن يبني أبياته من كلمات اللغة، وأن يحافظ فيها على قدرٍ من المعقولية يكفي لتوصيلها للناس؟ ليكثف لغته إذن (فالفن تكثيف وكشف عن الجوهر!) وليحذف منها كل ما يراه تزيُّدًا، وليقتصر على الكلمة الموحية المتشنجة التي تستطيع أن تفجر كل ما يحتبس في قلبه من عنف وغضب وثورة. ولكن الصرخة ستظل في نهاية الأمر هي الشكل الأمثل الذي يحاول الشاعر التعبيري أن يقترب منه. صرخة الإنسان في عالم منهار، صرخة يوحنا الجديد، صرخة الشوق إلى عالم جديد وإنسان جديد يتحرر من الحرب والموت والبؤس والاستغلال.
لتكن كلمة الشاعر إذن كثيفة، مركبة، مشحونة بالقوة والحركة والغضب، وليركب الكلمة الواحدة من كلمات عديدة (واللغة الألمانية تعينه على هذا، فهي — كما يعلم القارئ — تستخدم الكلمات المركبة، وكُتَّابها المعقَّدون — وما أكثرهم! — يسيئون استخدام هذا الحق …) وليحذف من جملته كل كلمة، بل كل حرف لا أهمية له ولا أثر في التعبير، وليُكثر من الأسماء والأفعال كما قدمت، وليستبعد النعوت والصفات التي طالما كانت حبيبةً إلى قلوب الرمزيين، بل ليمضِ الشاعر إلى أبعد من هذا — كما فعل الشاعر أوجست شترام (١٨٧٤–١٩١٥) — فيكتب القصيدة التي تتألف من كلمات مفردة وحسب. كلمات مكثفة مشحونة بالمعاني، توحي للقارئ بمجموعةٍ من الصور التي يمكن أن يؤلفها خياله كما يشاء، قد يكون هذا تطرفًا، ولكن لنقف معًا عند إحدى قصائد هذا الشاعر. عنوان القصيدة هو «داورية»، وكلماتها تقول:
هذه هي القصيدة، أو هذا هو «الموازييك» الذي صفَّه الشاعر قطعةً بجانب قطعة أو كلمةً بجانب كلمة. استبعد من العبارة اللغوية كل ما وجده سطحيًّا أو تافهًا. حذف أدوات التعريف (فيما عدا الكلمة الأولى من القصيدة) والضمائر وأدوات الربط. لم يُبْقِ إلا على الأسماء والأفعال التي جعل منها كلماتٍ مستقلةً تؤدي وظيفة الجملة الكاملة. أما بناء العبارة فقد اختصره إلى أقصى حد ممكن بحيث لم تبقَ منه إلا كلمات أولية متوترة حادة مُرَكَّزة، توشك أن تتخلى عن دلالتها الصوتية والمعنوية لتتحول إلى صرخات أو مشاعر من الخوف والرعب والقلق. قد تقول: هي تجربة، وللتجربة حقُّها المقدَّس في كل مجالٍ، فلِمَ لا تمارس حقها في اللغة أيضًا؟! هذا صحيح. ولكنها تجربة تُشرِف على حدود الصمت. وهي في الأدب التعبيري نفسه تجربة ثورية متطرفة. ولكن يجب ألا ننسى أن الثورة التعبيرية كانت كذلك ثورةً على النحو ومنطق اللغة. لقد ثاروا على البناء التقليدي للعبارة، والترتيب المنطقي للكلمات، بمثل ثورتهم على البناء التقليدي للمجتمع، والنظام المألوف في الطبيعة والواقع. كان كل همِّهم أن يثيروا القارئ بأقل عدد من الكلمات وأكثره دلالة على المعنى؛ والمعنى يتصل دائمًا بالغضب والتمرد والرغبة في التغيير. تصوروا أن هذا هو أقرب وسيلة للتركيز على كل ما هو هامٌّ وأساسي. حولوا الكلمات إلى شظايا متفجرة وصيحات حادة لتكون أقْدَر على النفاذ إلى أعماق القارئ. إنهم لا يقدمون الوصف بل الحدث، ولا يعنون بالملاحظة بل بالرؤية. كل ما هو ساكن أو جامد دبَّت فيه القوة والحياة. الحركة والسرعة والطاقة والعنف والفعل والتفجر، تلك هي المقولات الأساسية عندهم، بهذا يصبح الإيقاع هو أول العناصر الفنية ويفقد الشكل الخارجي للقصيدة أهميته. وهم لذلك يحطمون كل القواعد الكلاسيكية التي تُفسد هذا الإيقاع أو تعوق حركته، ويتمردون على كل القيود والأشكال التي التزم بها الشعراء السابقون، ويكرهون الوزن والقافية، ويبغضون أشكال «السوناته» و«الأوده». لا ضرورة إذن للالتزام بالبحور التقليدية ولا التركيب اللغوي للجملة ولا الترتيب المنطقي للعبارات؛ فكلها أشكال خارجية، والكلمات المكثفة وحدها قادرة على إحداث الإيقاع المطلوب، وتعميق الإحساس الذي يريد الشاعر أن يعبِّر عنه، وهي كذلك قادرة على أن تصدم القارئ وتُثيره وتُفزعه (وهذه الصدمة هي أكثر ما يحرص عليه الشاعر الحديث منذ عهد رامبو!) أتكون هذه مزايا أم عيوبًا؟ لكل شيء بالطبع مزاياه وعيوبه، والأمر يتوقف على الطريقة التي تنظر بها إليه. ولكن أهم ما يميز هذا الفن الشعري عند التعبيريين أنه فن قلق مقلق في آنٍ واحد، يصدم القرَّاء ويسعى إلى ذلك سعيًا. وهو فن مُفْعَم بالعاطفة والحماس والعنف الذي يصبح في بعض الأحيان نوعًا من الحمَّى والهذيان، وهو يتعمد البعد عن التجانس والنظام والاتزان والتعقل والحرص على النسب، وكل ما يدخل في قائمة القواعد والأصول التي التزمها الكلاسيكيون؛ أي إنه في النهاية فن ذاتي إلى أبعد حد، شُوِّهَ فيه الواقع وتحررت اللغة من القواعد الموضوعية والتاريخية وحلَّت محلها لغة شخصية قادرة على التعبير عن الرؤى العنيفة المتطرفة؛ ولذلك فإن الشاعر لا يخشى أن يخلق كلمات جديدة أو يخلع على الكلمات المألوفة معاني غريبة وجديدة (ولو استطاع لخَلَقَ لغة جديدة وأحال اللغة المعروفة إلى شواظ ملتهب أو طلقات رصاص أو صرخاتٍ حادَّة!)
فإذا تركنا الشكل وانتقلنا إلى مضمون هذه القصائد (جريًا على التقسيم المعروف الذي نلجأ إليه رغبةً في التبسيط لا غير!) وجدنا أن أهم ما يميز أشعار التعبيريين — بوجه عام — هو التحول من الضمير الشخصي إلى ضمير الجماعة؛ أي من «الأنا» إلى «النحن». حدث هذا بعد اشتعال نيران الحرب العالمية الأولى، وأصبحت القصائد أكثر صراحةً والرسالة التي يعلنها الشاعر أشد وضوحًا. لقد آن الأوان لتأكيد الدعوة للإنسان الجديد. وأصبحت هذه الدعوة — بل الصرخة — أشد إلحاحًا، أمام رعب الحرب وأهوالها وفظائعها الدموية، وازداد العطف على الإنسانية الجريحة، وتتابعت النداءات والصيحات والبيانات. لم يعد هناك مكانٌ لوصف الطبيعة. إن القصيدة تعبِّر الآن عند المدينة أو عن الحرب، المدينة المفزعة الهائلة، المدينة الصناعية المفتعلة بكل وحشيَّتها وضخامتها وضياع الفرد الوحيد في زحامها، بكل ضجيجها وضوضائها الخانقة، بأحيائها البائسة المزرية التي يتراكم فيها الكادحون والعمال الفقراء، ببيوتها الميتة ونوافذها الخاوية الصامتة كالقبور، المدينة المجنونة بالسرعة والصخب كأنها الكابوس.
والحرب، ألم تشغل أهوالها الشعراء منذ أيام هوميروس؟ ألم تحرِّكهم مآسيها وفظائعها للغناء والبكاء؟ نعم، ولكن الحرب العالمية الأولى كانت في نظر هذا الجيل من الشباب شيئًا لم يسبق له نظير (تُرى هل من حسن الحظ أم من سوئه أن معظم الشعراء والفنانين التعبيريين سقطوا قتلى في الحرب الأولى أو ماتوا قبل أن يشهدوا فظائع الحرب العالمية الثانية أو فظائع المستعمرين في الشرق الأقصى والأوسط؟) الحرب أحالت الطبيعة الحالمة التي غنَّى بها أسلافهم الرومانتيكيون والكلاسيكيون إلى جحيمٍ أرضي؛ مزقت الأشجار والأجساد، شوهت ودمرت، ملأت الشوارع بالجثث والأشلاء، أغرقتها بدماء الجرحى وأنينهم، بدأت الحرب فبدأت معها نهاية العالم، وعلى الشاعر الذي لم يسقط في الميدان، أن يكون شاهدًا على هذه الفظائع التي يُقْدِم عليها الإنسان، أن ينقل اشمئزازه من القبح والوحشية إلى قصيدته، أن يجعل منها لوحة صارخة مثيرة، أن يحوِّل كلماتها إلى صيحات احتجاج مدوية، بهذا يدفع قراءه إلى الثورة والتغيير، ويحفزهم على الإصرار على عالم جديد يحيا فيه الإنسان أخًا للإنسان، حتى الإصرار لا يكفي، بل لا بد من العمل على خلق هذا العالم والتعجيل به.
ولقد فعل الشاعر التعبيري كل ما في طاقته لتحقيق هذا الحلم الأبدي المنحوس، وقدَّم لوحاتٍ غنيةً بآلام الإنسان وعذابه؛ لوحات تصوِّر الخليقة الجريحة المعذَّبة المشوَّهة بألوانٍ صارخة تكاد تصل في صراخها إلى حد الهوس والجنون. والحق أنه لا بد من إنصاف هؤلاء الشعراء حتى لا يبدوا كالأطفال السذج المتشنجين العاطفيين. لا بد من القول بأنهم لم يكتفوا باليأس والصراخ والاتهام، بل نادوا على الدوام بالفجر الجديد والإنسان الجديد، ودعوا بنبرة صادقة حارة إلى محبة الجار والأخوة البشرية الشاملة. وقد يعترض ناقد حديث بأنهم دعوا إلى إنسانٍ كلِّيٍّ مطلَق؛ أي لم يدعوا إلى شيءٍ محدد. هذا صحيح في جملته، ولكن هذا النوع من النقد الذي استشرى في السنين الأخيرة أقرب إلى السياسة منه إلى الأدب، ومع ذلك فإن معظم هؤلاء الشعراء قد سقط في الحرب أو انتحر أو جُنَّ وتشرَّد في البلاد، وبعضهم شارك بالفعل في الكفاح في صفوف العمال والفقراء والمستغَلِّين وانضم إلى الأحزاب والحركات اليسارية في ذلك الحين، بل صار فيما بعدُ من أقطاب هذه الحركات السياسية (مثل يوهانس بشر أو برشت وغيرهما). المهم أن تهمة عدم الانتماء إلى مذهب أو حركة أو ثورة «محددة» لا يمكن أن ينفي عن هؤلاء الشعراء شرف الثورة «الشاملة» ضد الظلم والقهر والاستغلال وتعذيب الإنسان. وأحسب أن هذا هو أقصى ما يمكن أن نطلبه من الفنان والأديب.
•••
ولنحاول الآن أن نتعرف إلى الأسماء الهامة في الحركة التعبيرية، ونتحدث قليلًا عن بعض أعلامهم بقدر ما يسمح به المجال. ومن المستحيل بالطبع أن أقدِّم للقارئ قائمةً كاملةً بأسماء هؤلاء الشعراء والكُتَّاب، أو تفسيرًا متعمقًا لأعمالهم. إن كتب التاريخ الأدبي أقدر مني على هذا. وأقصى ما أطمح إليه في هذه الصفحات القليلة هو أن يخرج القارئ بفكرةٍ عامة عن الجو الذي أشاعته هذه الحركة الأدبية وقيمتها وأثرها. ولعل الوقت لم يحِنْ بعدُ لتقديم دراسة شاملة لهؤلاء الشعراء الذين ظُلِمَ معظمهم في حياتهم وبعد موتهم، واختفت أسماء بعضهم من الحياة الأدبية ولم تبقَ حتى في تواريخ الأدب، وتبدد تراثهم القليل أو اندثر أو ما يزال يبحث عن أحدٍ يُخرِجه للنور.
لنكتفِ إذن بالحديث القصير عن عددٍ قليل.
لا يشك أحد اليوم في أن أكبر شعراء الحركة التعبيرية هم «جورج تراكل» و«جورج هايم» و«جوتفريد بِن» (في مرحلته الأولى بوجه خاص). والثلاثة الكبار يمثلون نماذج إنسانية وفنية مختلفة، كما يُعَدُّون قممًا أدبية رفيعة في الأدب الألماني الحديث، وأعمالهم تشغل النقاد والدارسين في الوقت الحاضر وتغري المزيد منهم بالكشف عن أسرارها وتفهُّم عالمها الساحر الفريد. فأما «هايم» و«تراكل» فقد ماتا في شرخ الشباب؛ غرق الأول في الرابعة والعشرين من عمره مع صديق له أثناء التزحلق على الجليد، وقَتل الثاني نفسه بالإدمان على المخدرات التي كانت قريبة منه بحكم مهنته (فقد كان صيدليًّا)، بعد أن عجز عن احتمال أهوال الحرب التي لمسها بنفسه عندما كان مجندًا في الخدمات الطبية. وأما «جوتفريد بن» فهو من الشعراء القلائل الذين امتد بهم العمر بعد زوال التعبيرية (مات سنة ١٩٥٦)، ونحا في شعره بعد سنة ١٩٢٥ نحوًا أقرب إلى الكلاسيكية.
لنبدأ بالكلام عن «جورج هايم».
إنه من أعمق الشعراء التعبيريين رؤيةً وأشدِّهم يأسًا وكآبة. وهو كذلك من أقلِّهم دعوةً للإنسان الجديد الذي طالما هتفوا باسمه أو انتظروا مَقْدِمَه؛ فالموت يحوم بأجنحته السود فوق أشعاره، والموت يلفها في ظلماته الكثيفة. لقد صوَّر هول المدينة الكبيرة، وتنبأ بفظائع حربَين عالميتَين. ربما اشتط خياله إلى حد الهذيان والهلوسة، ولكن صوره الشعرية قوية مؤثِّرة، تكاد تلمس اليد والعين بتفاصيلها الحسية وألوانها الحادة وملامحها البارزة. وقد تكون استعاراته في بعض الأحيان مفتعلة وأساطيره ورُؤاه بعيدةً شديدة المبالغة، ولكن فيها مسحة من الجلال لا تقاوَم. وإذا أمكن أن نقارنه بأحد الشعراء، فلا شك في أن حياته العاصفة وسخطه على المدينة والطبقة الوسطى، وقوة شعره ورجولته وعنفه تُقرِّبه من شخصية الشاعر الفرنسي العظيم أرتور رامبو، كما تقرِّبه — في مجالٍ فني آخر — من شخصية فان جوخ الذي كان يحبه ويُعجَب به. وإنتاجه قليل في مجموعه، فهناك إلى جانب أشعاره مذكراته اليومية الغنية بصدق العاطفة ودقة التعبير عن روح جيله اليائس الساخط الملول، وهناك مجموعة قليلة الشأن من الأقاصيص والحكايات التي لا يمكن أن تقارَن بأشعاره من حيث القوة والقدرة على التأثير. وقد يكفي أن نقرأ إحدى قصائده المشهورة — وهي «الحرب» — ونحللها تحليلًا سريعًا بسيطًا. تقول القصيدة:
الحرب١
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
القصيدة تتألف كما ترى من عشر مقطوعات، صِيغت أبياتها الأصلية من ست تفعيلات تتميز بالبطء والثقل والجلال، ويقترب الإيقاع في معظمها من إيقاع الموسيقى الجنائزية. ومن الصعب أن نخوض هنا في تحليل شكلها الفني أو خصائصها الجمالية؛ لأن المجال لا يحتمل مثل هذا التحليل؛ ولذلك سنَقنع بلمحات سريعة نخرج بها من التذوق البسيط، وأول ما نلمحه منها هو هذه اللغة الخشنة العنيفة المباشرة التي تتفق كلماتها وإيقاعها وصورها الخشنة العنيفة أيضًا مع الموضوع الوحيد الذي تكثفه وتضخمه وتبالغ في تأكيد قسوته وبشاعته، وهو موضوع الحرب التي شغلت التعبيريين ونالت أكبر نصيب من ثورتهم وصراخهم واحتجاجهم.
وقد تلمح منها أيضًا أنها بعيدة كل البُعد عن القصيدة الغنائية التقليدية التي نعرفها من الأغنيات الشعبية أو شعر الرومانتيكيين أو قصائد جوته التي تفيض بصدق العاطفة وعمق الإحساس ورقَّته؛ فهي تتخلى عن العذوبة الغنائية واللغة التي تفرضها التجربة الذاتية، وتزهد في الشكل المتزن والجمال المنسجم الذي يؤلِّف بين العالم والذات في وحدة التجربة الباطنة. بل إنها لتمثل في الحقيقة مرحلة جديدة في الشعر تختلف كل الاختلاف عن شعر التجربة والعاطفة، وتنبع من عقلية تحررت من العالم الشعوري والإنساني الذي انبثق منه ذلك الشعر، حتى ليمكن القول بأنها تعانده وتقاومه وتثور عليه. إنها لا تبحث عن الجمال والانسجام في الشكل أو اللغة، بل تقصد مباشرةً إلى التعبير القوي العنيف بالكلمات والصور القوية العنيفة.
وهي كلمات وصور متقطعة منعزلة عن بعضها البعض يكوِّمها الشاعر طبقةً فوق طبقة، ويشيد منها هرمًا فظيعًا تنطق كل أحجاره بالدمار والموت، أو نشيدًا يتغنى بانتصار العدم ويتصاعد نغمه الكئيب شيئًا فشيئًا من فم شيطان مخيف شرير.
إنها تمزق القناع عن الرعب الكوني ووحدة الذات البائسة في هذا الوجود الذي يتربص للإنسان بالخطر والفناء. لا مجال فيها للتجانس بين الذات والعالم، ولا مكان للعاطفة ولغتها العذبة الحنون، ولا موضع للتفاؤل بالتقدم والمستقبل السعيد. ويكفي أن شيطان الحرب أو إلهها الخرافي المجهول يحرم الناس من النور والعزاء، ويسحق القمر الذي طالما تعلقت به عواطفهم وتغنت به أشعارهم، ويُلقي مدنهم الكبيرة — مدن الفرد الوحيد والقطيع الذي لا وجه له — في ظلام الهاوية وبردها ووحشتها!
إن أكوام الصور البشعة التي يكدِّسها الشاعر في هذه القصيدة تعبِّر عن شيءٍ واحد هو واقع الخراب والكارثة والموت؛ واقع الحرب الذي تنطق به الكلمات والاستعارات وبناء العبارات وإيقاع الأوزان. ولكنها ليست حربًا معيَّنة في تاريخ معيَّن، ولا هي من نوع الحروب التي يكتب عنها الشعراء بدافع الحماس الوطني أو الاحتجاج على قسوتها أو الرغبة في تطهير البشرية منها، أو التي يسجلون فيها تجربتهم الشخصية ويصورون ما رأوه فيها من مآسٍ وأحزان، والشاعر لا يقصر رؤيته للحرب على دائرة التاريخ والبشرية، بل يجعل منها ظاهرة تتجاوز شخصية الإنسان وهمومه ومصيره، ظاهرة كونية إن شئت، تلتهم الوجود والطبيعة بكل ما يتفجر فيها من عناصر الدمار والخراب. هي الحرب في ذاتها، تحررت من كل زمان ومكان، وابتعدت عن كل هدف أو معنًى أو شعور. أما الذي يدبرها ويدير دفتها فهو شيطان خرافي مخيف، يرتفع فوق العالم والتاريخ كأنه برج مشتعل بالنيران، وتتدفق الكوارث من فمه الأسود كما تتدفق الحمم من فوهة بركان.
•••
أما جورج تراكل فلم يكتب إلا الشعر، وشعره أشد غموضًا وعمقًا وهدوءًا من شعر هايم، ومع أن قصائده لا تكاد تتجاوز المائة إلا بقليل، فقد أثَّر تأثيرًا كبيرًا على الشعر الألماني بعد الحرب العالمية الثانية.
والغريب أن قصائده تبدو للنظرة الأولى على جانبٍ كبيرٍ من الصفاء والرقَّة والعذوبة والانسجام. فإذا أعدنا قراءتها مرة ومرات (فهكذا يريد الشعر الحقيقي حتى يكشف لنا عن سرِّه!) وجدناه من أعقد الشعر وأحفلِهِ بالرموز والأسرار والاستعارات الغامضة والإشارات البعيدة والصور المحيرة. إنه يجذبنا — لأول مرة — بسحر موسيقاه وعذوبة لغته وجمال صوره، فإذا سألنا أنفسنا عن سرِّ هذا السحر الغريب واجهتنا مشكلات لا حد لها وأسرار أخرى أكثر غموضًا وجمالًا. وإذا لجأنا للشروح والتفسيرات التي تتوالى عنه في السنوات الأخيرة ألفينا أنفسنا كمن يهرب من السباحة في النهر إلى السباحة في البحر! إن التفسيرات تكاد تتعدد بعدد المفسرين! هناك مَنْ تغريه النصوص الغامضة المؤثرة بتفسير رموزها وصورها تفسيرًا دينيًّا. والحقيقة أن شطحاتها المسرفة تغري بهذا التفسير … ولكنها ليست شطحات المؤمن بل المدمن على الأفيون، وصاحبها لا يترنم بأنشودة العابد المتبتل لله، بل ينشد مرثية الحِدَاد على صمته … ويوشك أن يكون شعر تراكل كله عن الشر والألم والموت والذنب والعذاب والفساد والزوال والتحلل والانهيار في عالمٍ مظلمٍ غابت عنه — في رأيه — عناية السماء.
وهناك مَنْ فسروا شعره بالرجوع إلى سيرته وحياته التي دمَّرها القلق والانطواء والخوف من الناس والإخفاق في الاستقرار والتأثر بفظائع الحرب وإدمان المخدرات، وبالغوا في الكلام عن علاقته الحميمة بشقيقته التي حضر وفاتها في نفس السنة التي مات فيها. ولا شك في أهمية تجارب الحياة على الشاعر، ولا شك أيضًا في تأثير شقيقته عليه، ولكننا نخطئ كلما بالغنا في تأثير حياة الأديب على إنتاجه أو حاولنا فهم هذا الإنتاج — الذي ينبغي أن تكون له قيمته الخاصة ووجوده المستقل — من واقع سيرته وتجاربه.
وأبسط دليل على هذا فيما نحن بصدده أن تأثير شقيقه تراكل لا يظهر في شعره على الإطلاق. وحاول البعض أخيرًا أن يفسر شعره تفسيرًا وجوديًّا، فقام الفيلسوف المشهور «مارتن هيدجر» بهذه المحاولة ولكنه لم يصل إلى نتائج مقنعة (كما فعل مع شعر هولدرلين ولم يستطع أن يُرضي الأدباء أو يُقنع الفلاسفة!) ولعل الأجدى أن نواجه النص ونلتقي به ونحاوره بغير أفكار سابقة، وننظر في تفاصيله وألوانه ولآلئه، وندرس موضوعاته وصوره، ونحلل أسلوبه، ونبحث عن العوامل المؤثرة على شاعريته المفعمة بالكآبة والشوق والحداد.
إن لغة تراكل تفيض بالرؤى الباطنة والاكتئاب الذي لا حدَّ له، وصور الانهيار الكوني المخيفة، والشوق إلى إنسانية طاهرة نقية تستطيع وحدها أن تخلِّص العالم. لقد انتهت معه قصيدة الاعتراف الذاتي والجو النفسي، وأصبحت «الأنا» تعبِّر عن نفسها بلغة موضوعية تقترب من روح الأسطورة التي تجسم رؤاها في صورة محسوسة وملموسة، لغة قريبة من أسلوب هولدرلين (١٧٧٠–١٨٤٣) في شعره المتأخر المفعم بالشوق والأسى والحنين إلى عالمٍ أسطوريٍّ نقي.
إن العالم المألوف يتفتت عند تراكل إلى أكوامٍ من الصور المتعارضة المتجاورة، تدل صيغها المُلغزة المحيرة على عالمٍ باطني غامض يؤثِر أن ينطوي على سرِّه، وهو في مجموعه شعر وحيد، يكشف عن الرعب الكامن في الجمال، ويرفع النقاب عن سحر الوجود، ويعبِّر عن الشوق الأخرس المحموم إلى اللامحدود، والحنين إلى الخلاص من أَسْرِ الموت والخطيئة، وانتظار النجاة التي يُنعم بها الله أو تأتي بها الطبيعة العظيمة في صبر وتواضع وسكون …
إن شعر تراكل يفيض — كما قدمت — بالكآبة، ولكنه يعبِّر عن هذه الكآبة بلغة موسيقية موحية، تجمع بين الجمال الرقيق والرعب الخانق. وهو بهذا التوحيد بين النقيضين يذكِّرنا بشعر بودلير الذي يصوِّر أبشع ألوان القبح والقسوة والفساد والظلام بأسلوبٍ ينمُّ عن روحٍ جميل نقي طيب شفاف؛ ولذلك فإن مكانة تراكل في الأدب الحديث لا يكاد يشبهها إلا مكانة بودلير أو هولدرلين. ولنقرأ معًا إحدى قصائده التي تُبيِّن قدرته على التغلغل إلى أقصى أطراف الوجود مع احتفاظه بأسلوبه الرقيق الهادئ العميق، والقصيدة عنوانها الجرذان، وقد رتَّبها ناشر شعره مع بعض القصائد الأخرى تحت عنوان «الفلاحون».
•••
•••
ولكن تراكل يُبعدنا بعض الشيء عن التعبيريين، لا لأنه يتجاوز حدود المدارس والتيارات والحركات الأدبية كما يفعل أي شاعر عبقري، بل لأن لغته الموحية الهامسة تخلو من صرخاتهم العالية وكلماتهم الثائرة، وإشاراتهم وصيغهم القريبة المباشرة.
ولذلك فإن قصائده المنسجمة الهادئة أشبه بالجُزر العجيبة الساكنة وسط الطوفان.
•••
لنرجع الآن إلى التعبيريين الخُلَّص، وأول من يخطر على بالنا هو جوتفريد بِن (١٨٩٦–١٩٥٦) وشعره (على الأقل في مرحلته المبكرة) يضعنا في قالب الحركة التعبيرية. لقد كان طبيبًا مختصًّا بمعالجة الأمراض الجلدية والتناسلية؛ ولذا فلن يدهشنا أن نجد في قصائده الأولى كثيرًا من ظواهر المرض والتشوه والقبح، ونصادف فيها الأورام البشعة والقروح المنفرة، والجثث البائسة في المستشفيات والعنابر والمشارح، وكأنما استحالت هذه العنابر والمشارح إلى مسرح فظيع يعرض عليه الشاعر تعاسة البشر ويأسهم في أسلوب بارد وناصع كالثلج.
و«بن» من أبرز الشعراء الذين ينطبق عليهم المبدأ الذي سيطر على الشعر الحديث بعد بودلير وجعله يتخلص بالتدريج من آثار الرومانتيكية، وأعني به تجرُّد الشاعر (والرسام والموسيقي!) من العواطف البشرية الساذجة، وتعمُّده أن يكون متزنًا دقيقًا غير عاطفي، وتخليه عن كل ما يصفه الفيلسوف الإسباني «أورتيجا» جاسيت بالنزعة البشرية — أي تعبيره عن عواطفه وأفكاره — عن طريق ما يقابلها من أشياء واقعية في العالم الخارجي، وهو ما يسميه أيضًا الشاعر الناقد الإنجليزي «إليوت» بالمعادل الموضوعي.
و«جوتفريد بِن» يكتب شعرًا أبعد ما يكون عن العاطفة، بل إنه يبلغ في هذا أقصى ما يمكن أن يتصوره عقل؛ إنه يردُّ روح الإنسان العاقل وفكره وعلمه إلى أصلها الجسدي، والجسد بدوره يرد إلى العفن والورم والتشوه والسرطان؛ أي إلى كل قبيح فيه، ويصبح العقل الذي طالما مجَّده الحكماء باطل الأباطيل، والروح التي تغنَّى بها الشعراء على مر الزمان نوعًا من الانحراف في سنن الطبيعة وصورة من صور التحول الفاسد التي لا تلبث أن تختفي من جديد!
وليس من الغريب أن تَكثُر في شعره رؤى السقوط والانهيار والمرض والتحلل، وتغْلب عليه لغة العلم الموضوعية الباردة، لا بل لغة الطبيب الجراح الذي يشق الجلد بلا رحمة ليكشف عما وراءه من أهوال المرض. كل هذا في أسلوب الاصطلاحات العلمية المتخصصة والكلمات الدارجة المشتقة من لغة الشارع، يصفها بجوار كلمات أخرى شاعرية عذبة الرنين، مأخوذة من التراث الرومانتيكي والكلاسيكي. إن الشاعر — مثله في هذا مثل أغلب الشعراء المحدثين — يتعمد أن يصدم القارئ بموضوعه وأسلوبه معًا؛ فموضوعاته تثير الخوف والاشمئزاز على الدوام، ولغته قوية حافلة بالصور، شديدة التركيز على الأسماء دون الأفعال، تعتمد على المفاجأة والمونتاج وصفِّ الأشياء إلى جانب بعضها البعض لإبراز رؤياه للقيم المتحطمة والحياة الممزقة والواقع المشوه (ولعله في هذه النزعة العدمية أن يكون وريث نيتشه، وإن خلا مع ذلك من جلاله وغضبه المقدَّس وإيمانه بالحياة واحتقاره للثقافة والمثقفين!) ولعل أوضح ما يدل على عالم «بِن» الشعري هو عناوين قصصه ودواوينه … ويكفي أن نذكر منها هذه الأسماء: أمخاخ (قصص) مشرحة، لحم، أنقاض، تخدير، صدع … إلخ. ويكفي أيضًا أن نقدم له القصيدتين التاليتين ليجد فيهما القارئ نماذج توضِّح الكلام السابق، هذه أولًا قصيدة عنوانها: رجل وامرأة يمرَّان في عنبر السرطان:
•••
•••
•••
•••
•••
وهناك قصائد عديدة ﻟ «بِن» تحفل بالتفاصيل المقززة، ويبدو أنه عند كتابتها لم ينسَ أو لم يُرِدْ أن ينسى أنه عالم وطبيب، صحيح أن تحليلاته الدقيقة للأعراض والأمراض، وأوصافه العادية للقروح والجروح تُضفي عليها شاعريةً نادرة وتغمرنا بإحساس قاتم بالوحدة والضياع في هذا العالم الكبير المخيف، وصحيح أنها تذكِّرنا بطريقة بودلير في التغلغل في ألوان القبح والشر والوحل والطين، وإن افتقدت لغته الجميلة الرصينة الخالية من شذوذ المحدثين وإغرابهم ونشاز عباراتهم وصورهم واستعاراتهم، ولكنها مع ذلك تكشف دائمًا عن حنين رومانتيكي إلى النقاء والصفاء، كما تعبِّر في المراحل المتأخرة من إنتاج الشاعر عن رغبة في التماس الوحدة والأمن وراء الحطام والخراب، والانتصار على الفساد والخوف والفوضى والعدمية عن طريق الكلمة والشكل الفني الناضج التام.
وقد جاءت هذه المرحلة بعد أن تجاوز «بن» الحركة التعبيرية، كما اتضحت أشعاره التي نشرها بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، ومع أن هذه المرحلة المتأخرة لا تدخل في حدود هذا الكتاب، إلا أن الشعر لا يمكن أن يُقْسَمَ بالمتر والذراع كما تُقْسَم الأرض الزراعية؛ ولذلك فقد يهمُّ القارئ أن يعرف شيئًا عنها، وسأكتفي بقصيدة مشهورة بعنوان: «أنا ضائعة»:
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
ولا يعنينا أن نناقش هذه القصيدة التي تستشف فيها صفاءً لم نعهده في القصائد المبكرة، ونلمح فيها اتساع الأبعاد الميتافيزيقية والفنية في رؤية الشاعر واستخدامه للاصطلاحات العملية والرياضية بطريقة شاعرية رقيقة، والتماسه للوحدة والمعنى وسط طوفان الظلام والقسوة والحداد؛ لا يعنينا هذا كله، وإنما المهم في هذا المجال هو أن «بن» قد أسهم في شبابه في الحركة التعبيرية، وشارك فيها بنقده الصارخ للمجتمع وتحليلاته القاسية للأمراض، ثم خرج عنها في إنتاجه الذي نشره بعد الحرب العالمية الثانية وأصبح وجهًا بارزًا من وجوه الشعر الحديث في القرن العشرين، وأحد الأعلام الذين أثَّروا على بنائه الغريب المحير الشاذ، وشغلوا الشعراء والمثقفين في بلادهم وما زالوا يشغلونهم إلى اليوم.
فإذا انتقلنا إلى غير «بن» وتراكل وهايم من شعراء التعبيرية، كان لزامًا علينا — لضيق المجال — أن نكتفي بالإشارة إلى بعض الأسماء التي تقل شأنًا عن أولئك الثلاثة الكبار. لقد اندثرت بعض هذه الأسماء من ذاكرة القرَّاء وانطوت في زاوية مظلمة من ذاكرة التاريخ الأدبي، وفقد بعضها الآخر ما كان له في أيامه من لمعان الشهرة والمجد، وما أثاره في حينه من ضجيج وغبار.
هناك مثلًا هذه الشاعرة الغريبة الأطوار «إلزه لاسكر-شولر» التي لا تزال المنتخبات الشعرية تحتفظ لها بمكان ضئيل، ولا تزال الأجيال القديمة تتحدث عن حياتها العجيبة الشاذة التي تشبه حياة الشعراء الصعاليك.
كانت تطوف بالبلدان الأوروبية كإحدى نساء الغجر المغامِرات أو فارسات الأمازون اللائي تتغنى بهن القصص والأساطير، تكتب في المقاهي، وتعيش في عالم أشبه بعالم الخرافات، وتتصور نفسها أميرةً أو جنِّيَّة في إحدى حكايات الشرق القديم. ألَّفت قصائد يشع منها جمال غريب يعكس رؤى الماضي والحاضر، والشرق والغرب، والواقع والحلم.
كتبت تقول عن نفسها: «وُلِدت في طيبة (بمصر) وإن كنت قد جئت إلى هذا العالم في «البرفيلد» إحدى بلاد الراين، وترددت على المدرسة حتى بلغت الحادية عشرة، ثم أصبحت روبنسون (وهي تعني روبنسون كروزو!) وعشت في الشرق خمس سنوات، ومنذ ذلك الحين وأنا أحيا كيفما تشاء الصدف.» ولم يكن هذا كله مجرد خيال؛ فقد تصورت أنها تعيش بالفعل في عالم الشرق الخيالي، وراحت تنسج منه أقاصيصها وأشعارها وتتقمص شخصية أمير من طيبة سمَّته الأمير يوسف، وأخذت توقع خطاباتها باسمه! ولقد كانت على صلةٍ وثيقةٍ بالتعبيريين، فلم تكتفِ بصداقة العدد الأكبر منهم فحسب، بل تزوجت — بين زيجات أخرى بالطبع! — الكاتب هرفارت فالدن الذي أسس جماعة تعبيرية باسم «العاصفة» وأصدر لها — كما تقدم — مجلة تحمل نفس الاسم، وقد مُنِحَت جائزة «كلايست» الأدبية الرفيعة في سنة ١٩٣٢ للقيم الخالدة التي ينطوي عليها أدبها الذي يقف على قدم المساواة مع إبداع الأعلام الكبار في الأدب الألماني كما تقول وثيقة هذه الجائزة. ولكن النظام النازي لم يلبث أن حرَّم نشر هذا الأدب الذي أثنى عليه كل هذا الثناء، فهاجرت إلى سويسرا ومنها إلى مصر وفلسطين، ثم عادت إلى سويسرا حيث عرضت مسرحيتها «أرتور أرونيموس وآباؤه» في مدينة زيوريخ سنة ١٩٣٦، ورجعت مرة أخرى إلى فلسطين حيث تعذبت وماتت بائسة وحيدة في مدينة القدس، ودُفِنَت سنة ١٩٤٥ في جبل الزيتون.
ولا يمكننا أن نختم هذا الحديث قبل أن نذكر شاعرَين تعبيريَّين تمتعا في حياتهما بشهرةٍ واسعة ولقيا من القرَّاء أعظم نصيب من الإقبال، ويظهر أن حظهما من الأدب دليل على تغيُّر حظوظ المؤلفين على مر العصور؛ فما أبعد الشهرة التي كانا يتمتعان بها من الإهمال الذي يعانيانه من قراء هذه الأيام!
هذان الشاعران هما: يوهانس بشر وفرانز فيرفل. لقد استجابا لمطالب عصرهما وعبَّرا عن مشكلاته وحاجاته؛ وهما لذلك يستحقان من مؤرخ الأدب كل اهتمام وتقدير. ولكن القارئ الحديث (اللهم إلا في القسم الشرقي من البلاد الألمانية حيث يكاد «بشر» أن يكون كتاب المطالعة للجميع) لا يتذوق اليوم شيئًا من مبالغاتهما الساذجة، ولا يستجيب لصيحاتهما العالية، ومع هذا فقد كان كلاهما نموذجًا للشاعر التعبيري الذي يتقمص شخصية الأنبياء الملهمين والدعاة المبشرين بالإنسانية الجديدة، وكان كلاهما يدعو دعوته بالطريقة التي تتفق مع مزاجه ونزعته؛ فأولهما «فيرفل» شديد التديُّن، وقد تحوَّل إلى الكاثوليكية وتحمَّس لها، وثانيهما «بشر» ثائر سياسي، وقد تحوَّل إلى الشيوعية وصار أحد أقطاب النظام الحاكم في ألمانيا الديموقراطية، وشغل منصب وزير الثقافة قبل وفاته سنة ١٩٥٨، ومع ذلك فقد كانا قبل هذا التحول الديني والسياسي من رواد الحركة التعبيرية، وكان لهما أسلوبهما الفوضوي العاطفي الثائر على اللغة والمجتمع قبل أن تتمكن الرؤية الصوفية والرمزية من أحدهما والدعوة السياسية الهادفة من الآخر.
كان «فيرفل» يميل إلى الأوبرا، ومسرحياته التعبيرية التي كتبها في المرحلة الثانية من إنتاجه أقرب ما تكون إلى الأوبرات الغنائية والرؤى السحرية. وقد أعاد في سنة ١٩١٥ كتابة مسرحية «نساء طروادة» ليوريبيدز، وجعل منها نشيد احتجاج على الحرب وتجاربها المرة، وحاول أن تكون له «فاوست» أخرى، فكتب ثلاثيته المسرحية «إنسان المرآة» (١٩٢٠)، ولكنه لم ينجح في توضيح الصراع بين «الذات الظاهرة والذات الحقة»، وإنما حمله بالقضايا الفكرية والمشكلات العصرية بأكثر مما ينبغي لمثل هذا الموضوع الإنساني الخالد. ثم حالفه التوفيق في مسرحيته التاريخية «بواريز وماكسيليان» (١٩٢٤) التي تُصوِّر مأساة الحاكم الذي يحطَّم على صخرة الأطماع والمصالح وبشاعة السلطة. وتوالت بعد ذلك مسرحياته ورواياته (ومن أشهرها أغنية برناديت التي صُوِّرَت في فيلم معروف) وأقاصيصه التي يدور معظمها حول صدام الأبرياء والبسطاء وأنقياء القلب والروح مع فساد العصر وقانونه الصارم الميت، ولكنه تجاوز المرحلة التعبيرية الخالصة في هذا الإنتاج المتأخر، واستطاع أن يتوصل إلى أسلوب واقعي متميز يحافظ على الشكل التقليدي، ويميل إلى اختيار الموضوعات الدينية والميتافيزيقية والمثالية التي تنطق بعذاب الأتقياء الأنقياء في هذا العالم.
وننتقل إلى اسمٍ آخر من رواد الحركة التعبيرية المبكرة، وهو الشاعر العالم في فقه اللغة إرنست شتادلر (١٨٨٣–١٩١٤) الذي كان أملًا مرجوًّا للشعر الحديث قبل أن تنتزعه الحرب العالمية الأولى، أثر شتادلر على التعبيرية بلغته الصادقة المتفجرة العميقة، ومقدرته على الشكل المحكم الناضج، وأنغامه الشجية الموقعة، وموضوعاته الطريفة المحدثة التي تُصوِّر روح العصر كما تبدو في عالم المدن الكبرى والقطارات السريعة والمغامرات والأعمال الهائلة (إنما أنا لهب، عطش وصرخة وحريق …) وهو من أوائل التعبيريين الذين تأثروا بالمدرسة الرمزية الفرنسية وبالشاعر الأمريكي والت ويتمان، كما ترجم للشاعر الفرنسي المتدين شارل بيجي، والشاعر البلجيكي فيرهارن، والكاتب الفرنسي بلزاك، وقام بتدريس الأدب في بروكسل وأكسفورد، وكتب العديد من الدراسات النقدية، ونشر مجموعته الشعرية «الرحيل» في سنة ١٩١٤، وهي من أهم المجموعات التي صدرت للتعبيرين، استطاع شتادلر أن يُدْخِلَ الأبيات الطويلة إلى الأدب الألماني، كما استطاع أن يعبِّر عن روح هذا الجيل الباحث عن نفسه وعن الله، الثائر على الحرب المهلكة التي أُرْغِمَ على الاشتراك فيها، وكان الشاعر نفسه من أول ضحاياها. وأحب أن أقدم للقارئ هذه القصيدة التي سمَّى مجموعته باسمها، راجيًا أن تُلْقِيَ شيئًا من الضوء على ما قلت:
الرحيل
•••
من المستحيل أن نسترسل في الكلام عن بقية الشعراء التعبيريين الذين اختفى بعضهم من الحياة الأدبية كما قلت، ولا يزال بعضهم الآخر طي الأدراج والمكتبات والمخطوطات، ولا شك أن كثيرًا منهم يستحق وقفةً أطول، بل قد يكون جديرًا ببحث مستقل، ولكن ضيق المجال يضطرني إلى الاكتفاء بذكر أسمائهم ذكرًا عابرًا على الرغم مما في هذا من ظلم شديد، لأذكر لك إذن أسماء شعراء مثل تيودور دوبلر، وأغانيه الصوفية والكونية التي تثير التأمل الهادي العميق وفولفنشتين ولشتنشتين وهاردكوبف وقصائدهم المفعمة بالدعابة والسخرية المريرة، وإيفان جول الذي كتب بالفرنسية والألمانية معًا، والشاعر العامل باول تسش، وإيرنشتين وليونهارت وهينيكه وغيرهم وغيرهم، وكلها أسماء لمعت كالنجوم القصيرة العمر، وتألقت سنوات معدودة في حديقة التعبيرية التي لم تكد تزدهر حتى ران عليها الذبول …