القصة
إذا انتقلنا الآن إلى «نثر» الحركة التعبيرية وجدنا الموقف مختلفًا؛ فالقصة والحكاية والرواية الطويلة تحتاج إلى الصبر والعناء والقدرة على البناء والتصميم، والكاتب هنا مطالَب بالوصف وخلق الشخصيات وترتيب الأحداث، وما أشقَّها جميعًا على التعبيرية التي كانت في صميمها فورة سخط وصرخة احتجاج! ولا نبالغ إذا قلنا: إن أصحابها قد أبدعوا قصة واحدة في مقابل مائة قصيدة، ورواية واحدة في مقابل عشرين ديوانًا! بل إن الأقصوصة في شكلها المحكم الدقيق تغلب على إنتاجهم النثري أكثر من الرواية التي لا نكاد نعثر لها على أثر.
كانت هناك محاولات لتقديم لون من القصة التعبيرية تستحق منا وقفة قصيرة، نذكر من هذه المحاولات قصتين طريفتين، لن يقلل من طرافتهما أنهما قد أصبحتا الآن طي النسيان، فأما القصة الأولى فهي للكاتب كارل أينشتين (١٨٨٥–١٩٤٠) — وهو غير العالم المعروف بالطبع! — الذي اشتهر بتخصصه في تاريخ الفن الزنجي، وقد ظهرت سنة ١٩١٠ بعنوان «بييكوان أو هواة المعجزة»، وتتألف من مجموعة من المشاهد الساخرة التي تفتقر إلى الحدث الذي يربط بينها، كما تفتقر إلى الحكاية بمعناها المعروف، ويتحدث الكاتب بنفسه عن أسلوبه الفني فيقول: «يجب أن نتناول المحال (أو العبث) كما لو كان واقعة حقيقية»؛ ولذلك نراه يحاول أن يحرر الأقصوصة من شكلها التقليدي ويحولها إلى نوع من «النثر المطلق» الذي جربه «بول فاليري» في كتابه «المسيوتست»، وهو يشترك مع معظم الكُتَّاب التعبيريين في تقديم ما يسمى بنهر الوعي أو تيار الشعور، ومع أن التعبيريين لم يصلوا إلى نتائج ضخمة في هذا المضمار، ومع أنه لا سبيل إلى مقارنتهم بكاتب مثل جويس أو كاتبة مثل فيرجينيا وولف، فلا شك في أنهم حاولوا أن يضيفوا شيئًا إلى ما يُعْرَف بقصة تيار الشعور.
أما القصة الثانية فهي للكاتب ألبرت أيرنشتين (١٨٨٦–١٩٥٠) وهو من أكثر التعبيريين تشاؤمًا ومرارة وسخرية، ومعظم شعره يدور حول توحد الذات واستحالة الحب والاتصال بينها وبين الآخرين، وحول الحرب وخرابها والمدينة الكبيرة وزيفها.
وعنوان القصة هو «توبوتش»، ويصف فيها أفكار رجل تنساب أيامه الخاوية وتتوالى عليه الأسابيع والشهور، وهو عاجز عن ملء فراغها الموحش بعمل أو تجربة أو مغامرة. إن الزمن يدور والفراغ المجدب يدير أفكاره في حلقة فارغة مجدبة. وهنا نضطر مرة أخرى للعودة «لجوتفريد بِن»، فربما كانت أهم محاولة من جانب التعبيريين لتحليل الوجدان الحديث هي محاولته التي قام بها في بعض قطعه النثرية التي نُشِرَت بعد موته بعنوان: «الدكتور رونه»، والدكتور «رونه» هو اسم الشخصية الرئيسية، وهو طبيب يحمل كثيرًا من سمات «بِن» نفسه، ويحاول المؤلف أن يشركنا في أفكار هذا الطبيب وتأملاته وعذابه الذي يعانيه من برود المجتمع وعدم مبالاته به، واغترابه في العالم الواقعي الذي يحيا فيه، عالم الأمراض والقروح والآلام.
ويمضي هذا الطبيب في اجترار أفكاره الفلسفية، وتلفيق تركيباته وحيله العقلية المعقدة، حتى ينتهي به الأمر إلى الإدمان على المخدرات، وتنتهي به المخدرات إلى الانتحار.
والغريب أن هذه القِطع النثرية لا تنطوي على أي حدث ولا تُعْنَى بأي تحليل نفسي. إنها نوع من المونولوج الداخلي الذي تقوم به شخصية تفكر وتشعر دون أي تدخُّل من المؤلف، وكأنما هو غير موجود أصلًا! والواقع أن «بِن» لم يبتكر هذا الأسلوب في الكتابة — إذ لولاه ما وجدت الرواية الحديثة — ولكنه كان أول مَنْ جرَّبه في الأدب الألماني.
ونصل للحديث عن «كافكا» (١٨٨٣–١٩٢٤) الذي يرتبط في أذهان الكثيرين بالحركة التعبيرية، والواقع أن قصص كافكا المحيرة الغامضة لا تتصل بالتعبيرية إلا بصورة غامضة أيضًا.
والمعروف أن كافكا كان على اتصالٍ بأوساط التعبيريين في مدينة براغ مسقط رأسه، ومن أبرزهم فرانزفير فل الذي مر الحديث عنه، وماكس برود الذي كتب الرواية التقليدية، واشتهر بإنقاذ آثار كافكا ونشرها والتصرف فيها أيضًا! صحيح أن أقاصيص كافكا المبكرة تنطوي على بعض الملامح التعبيرية، ولكن رواياته وقصصه المتأخرة تتجاوز حدود الحركة التعبيرية، وتأسر العقل والقلب بقيمها الشعرية والرمزية الباقية، وربما استطعنا أن نفسر قصته — الحكم، وهي قصة ابن عادي يحكم عليه أبوه بالموت غرقًا؛ لأنه أهمل في مراسلة صديقه الغائب في روسيا — بأنها قد كُتِبَت تحت تأثير الموضوع الرئيسي الذي شغل التعبيريين في مسرحهم بوجه خاص، وهو موضوع الصراع بين الآباء والأبناء، وربما استطعنا أيضًا أن نفسر قصته المشهورة «التحولات»، وهي التي تروي تفاصيل واقعية دقيقة عن حادثة غير واقعية، وهي تحول موظف بسيط — قومسيونجي — في إحدى الشركات إلى حيوان مقزز يشبه الجعران أو الخنفساء، وموقفه من العالم المحيط به بعد هذا التحول وموقف والديه وشقيقته منه، قد نستطيع أن نفسرها بأنها من نوع القصص الغريبة المريرة السخرية التي كان يحبها التعبيريون. وقد يمكننا أخيرًا أن نقارن بين قصته — أو نبوءته عن أهوال التعذيب في الحرب وفي العالم الحديث «في معسكر العقاب»، وهي تصف آلة تعذيب رهيبة معقدة، وعذاب إنسان يمدد فوقها — وبين قصص التعبيريين وأشعارهم التي تكشف عن فظاعة الإنسان وقدرته الغريبة على القسوة والبشاعة. غير أن كل هذه المقارنات والتفسيرات لا تجعل من كافكا كاتبًا تعبيريًّا بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة، ولا تزيد صلته بالأدباء التعبيريين عن تلك الصلة الغامضة التي تجمع بين الموضوعات المتقاربة التي يعالجها الأدباء بوجه عام. بل نستطيع أن نذهب إلى أبعد من هذا فنقول: إن أسلوب كافكا وروحه الشاعرية والرمزية الشاملة تميزه بصورة واضحة عن التعبيرين، وربما وضعته في الطرف المقابل لهم، فأسلوبه يتميز عن أسلوبهم بأنه دقيق هادئ مركَّز شديد الوضوح والبساطة، بعيد عن التأثر العاطفي، حريص على سرد الدقائق المرهقة والتفاصيل الموضوعية المضنية عن أشياء وأحداث بعيدة كل البعد عن الواقع والمألوف، وما أبعد هذا عن صرخات التعبيريين وصيحاتهم وأسلوبهم الذاتي والعاطفي المسرف! أضف إلى ذلك أن كافكا يروي قصصه ورواياته بطريقة تقليدية، ويقدم أحداثًا ذات بداية ووسط ونهاية، بصرف النظر عن كون هذه الأحداث بطبيعتها وهمية أو غير واقعية أو فوق الواقعية. ثم إن بناء قصصه ورواياته أقرب إلى الحكاية القصيرة أو قصص الجن الخرافية أو القصص التي تُضْرَب للمثل والموعظة؛ ولهذا فهي تنطوي دائمًا على معنًى خفيٍّ اختلف المفسرون — وما زالوا مختلفين — حول طبيعته الدينية أو الميتافيزيقية أو الاجتماعية أو الصوفية أو التنبؤية، ولكنهم لا يختلفون حول قيمتها الإنسانية التي تتخطى أسوار الزمان والمكان والحركات والمدارس الأدبية المحددة.
وهذه القيم الرمزية والشاعرية الشاملة في أعمال كافكا هي التي تُبعده عن أعمال التعبيريين، لا بل تضعه في الطرف المناقض لهم كما قدمت. والسبب بسيط؛ فالرمزية تخالف المبادئ التي سار عليها التعبيريون. إنهم يميلون للوضوح المباشر الذي يوشك أن يكون استغاثة وصراخًا، ومعانيهم الخفية دائمًا على شفاههم وأطراف ألسنتهم، وهم يقولون دائمًا ما يريدون قوله. قد يكون هناك «جو» مشترك بينهم وبين كافكا، ولكن ما أبعد صيحاتهم المجلجلة عن لمحات كافكا وهمساته الموحية، ودورانه المضني حول الشيء والمعنى خشية أن يحدده أو يفصح عنه …
وما أعظم الفَرق بين صراخ أبطالهم واحتجاجهم البليغ وبين احتجاج أبطال كافكا الوحيدين المنكسرين الضائعين في دوائر ومتاهات عقيمة لا متناهية! (هذا إذا جاز القول بأن لديه أبطالًا أو أنهم كذلك يحتجون!)
ويكفي أن أذكر لك هذا المثل من أحاديثه الرائعة مع الكاتب التشيكي جوستاف يانوخ، فقد قدم له هذا مجموعةً مختارةً من شعر التعبيريين (لا شك أنها فجر الإنسانية التي أشرت إليها) وسأله عن رأيه فيها، فقال له كافكا بصوته الهادئ العميق: «هذا الكتاب يحزنني. إن الشعراء يمدون أيديهم للناس، ولكن الناس لا ترى منهم الأيدي الصديقة، بل القبضات المتشنجة التي تريد أن تصيب الأعين والقلوب.»
ويسري هذا الكلام نفسه على أعمال الروائيَّين الكبيرَين: ألفرد دوبلن (١٨٧٨–١٩٥٧) وروبرت موزيل (١٨٨٠–١٩٤٢) وهما — إلى جانب توماس مان — من أكبر كُتَّاب الرواية في الأدب الألماني في القرن العشرين.
أما «موزيل» فيشغل القرَّاء والدارسين بصورةٍ هائلة في هذه الأيام؛ فهو يُعَدُّ من أقطاب الرواية الحديثة (وهي غير الرواية الجديدة المعروفة الآن في فرنسا!) التي تعتمد على المونتاج والمونولوج الداخلي وتضمين الدراسات والمقالات العلمية والفلسفية في سباق القصة والقضاء على وحدة الحدث والشخصية … إلخ؛ أي الرواية التي لم تُعَدُّ روايةً بالمعنى التقليدي!
ورواية موزيل الأولى «اضطرابات التلميذ تورليس» التي ظهرت سنة ١٩٠٦ تدور في فلك التعبيرية. إنها تتناول حياة مراهق صغير في مدرسة داخلية، ومشكلاته الروحية والنفسية التي يعانيها، وهي تتصل من هذه الناحية بالمحاولات التي ذكرناها لجوتفريد بن وألبرت أيرنشتين وكارل أينشتين، ولكنها تختلف عنها من حيث أسلوبها الفلسفي الصارم، وقدرتها على مناقشة المشكلات العقلية والنفسية المعقدة، وتمكُّن صاحبها من التيارات والمذاهب الفكرية والحضارية، وكلها خصائص بلغت غاية النضج والاكتمال في روايته الكبرى «رجل بلا صفات» التي لا شك في أن صاحبها قد وثب بها وثبةً بعيدة تجاوزت حدود التعبيرية ومملكتها الضيقة … ونخطئ لو تصورنا أن «تورليس» من نوع القصص الواقعية والنفسية التي وضعها كثير من الكُتَّاب تحت تأثير فرويد أو غيره من علماء النفس، وتناولوا فيها متاعب هذه المرحلة الهامة من حياة الإنسان. إن الكاتب نفسه يحذِّرنا من هذا التصور، ويقول: إن التفسير الواقعي للحدث الواقعي لا يهمه في شيء؛ فذاكرته — كما يقول — ضعيفة، والوقائع يمكن أن تحلَّ إحداها محل الأخرى، والذي يعنيه في المقام الأول هو ما يدل عليه الحدث أو تدل عليه مادة القصة من خصائص عقلية أو روحية مميزة وما تنطوي عليه من صفاتٍ تُخيف كما تخيف الأشباح … فاضطرابات الفتى تورليس لا قيمة لها عنده؛ ولذلك جرَّدها قبل البدء في كتابة قصته من كل أثر للبيئة أو الواقع، كيف السبيل إذن إلى فهم القصة أو تذوقها بعد استبعاد التفسير النفسي والاجتماعي لها؟ لا بد أن نحاول ذلك من داخلها، أي بدراسة بنائها ومعرفة القوانين التي تقوم عليها.
والقصة — كما قدمت — تختلف عن القصص التقليدية؛ فهي تُعْنَى بالتحليل أكثر من عنايتها بالأحداث. وهي لا تنقسم إلى فصول، بل تمضي كأنما كُتِبَت في نفس واحد، تتخلَّله فقرات تتراوح بين الطول والقِصر، ومع ذلك فيمكن أن تنقسم من حيث البناء إلى ثلاثة أقسام: يصوِّر الأول مساء يوم رحيل والدَي «تورليس» اللذين كانا في زيارته، وجلسته مع صديقه «بينبرج» في أحد المحالِّ التي تقدِّم الحلوى ثم زيارتهما للبغيِّ بوزينا، ويتعرض القسم الأوسط للاضطرابات التي يعانيها الفتى، ويحلل المشاعر والأفكار التي تدور في نفسه والقوانين التي تربط بينها بمناسبة حادثة سرقة ارتكبها زميله الشاذ بازينيس وعوقب بسببها، ثم ينتهي القسم الأخير بخروجه من المعهد الذي كان يقيم فيه إقامة داخلية.
ويلاحظ القارئ أن الحدث والحكاية والشخصية والأوصاف الخارجية والتتابع الزمني وغيرها من مقومات القصة التقليدية لم تعد لها أهمية إلا بقدر ما تتيح للكاتب تحليل المشاعر والأفكار التي تدور في عالم الباطن، ويتفق هذا مع رأي موزيل في الرواية الجديدة التي لا ينبغي أن تهدف للتسلية، بل يجب أن تُعِين على السيطرة العقلية والروحية على العالم.
وتأتي أهمية هذه الرواية القصيرة من أنها تفتح للرواية العادية — ذات البُعد الواحد — آفاقًا وأبعادًا أخرى جديدة، وتنقلها من عالم الواقع الثابت إلى عالم الإمكان — وهو العالم الوحيد الجدير باهتمام الفن — ومن التسلسل الزمني المطرد إلى تصوير اللحظات الحية الممتلئة التي تضم الماضي والحاضر والمستقبل، والتذكر والإحساس والتنبؤ في لحظة واحدة تنطوي على تجارب عقلية ونفسية لا آخر لها، وتسمح بتحليلات ومناقشات مسهبة يتجاور فيها الممكن والواقع، ويفقد الواقع الخارجي تماسكه، والزمن المألوف تسلسله التاريخي، ويؤثِّر هذا كله على بناء الرواية ولغتها ومواقفها التي تعكس اضطرابات «تورليس» وأزماته الباطنة وتأملاته الوحيدة.
صحيح أن موزيل لم يحقق نظريته الفنية عن الرواية الجديدة بصورة مرضية إلا في روايته الكبرى التي أشرت إليها، ولكن سخطه على الرواية التقليدية وسعيه لتفكيك شكلها التقليدي كانا شيئًا تأثر فيه بالجو التعبيري العام من حوله، وشاركته فيه تجارب قصصية وروائية ظهرت في نفس الفترة بأقلام شعراء وكُتَّاب مثل رلكه وبِن وكافكا.
ويسري هذا أيضًا على الطبيب والكاتب ألفرد دوبلن؛ فقصصه الأولى التي وضع لها هذا العنوان الغريب: «اغتيال زهرة شقيق أصفر» (١٩١٣) تضم مجموعة من الشطحات والهلوسات والتأملات المضطربة التي تدور في ذهن طبيب نفساني وتصدر عن نزعة تعبيرية واضحة، أما رواياته المتأخرة فتبتعد عن التعبيرية بمعناها الدقيق. ويصدق هذا على روايته «وثبات وانج لون الثلاث» (١٩١٥) التي تقدِّم لوحات مثيرة رائعة عن ثائر صيني ينتهي به المطاف إلى العدول عن العنف والبطش والإيمان بالسلام والتسليم بالقدر، كما يصدق على روايته الكبرى «برلين – ميدان ألكسندر» التي كانت جديرة بأن تصبح «الرواية» التعبيرية بحق، لولا أنها كُتِبَت في سنة ١٩٢٩، أي بعد ذبول الحركة التعبيرية وانطفائها، ولولا أنها تلجأ إلى أساليب وتجارب شكلية عديدة كأسلوب «المونتاج» و«الريبورتاج» الذي يكدس آلاف المعلومات والوثائق وأخبار الصحف والإعلانات وأنباء الطقس وتعليمات السجون والسكك الحديدية وأغاني الأطفال والباعة المتجولين ولغة الدواوين الحكومية إلى جانب لغة الشعراء وكبار الكُتَّاب، كما تلجأ في بعض أجزائها إلى الأسلوب الواقعي الدقيق، وفي بعضها الآخر إلى شاعرية المونولوج الباطني وتضمين المقالات والدراسات العلمية المفككة والقصص والأمثلة الجانبية العديدة، والنصوص المقتبسة من الكتب المقدسة، وعرض الحدث الواحد من زوايا مختلفة وعلى مستويات مختلفة تعكس اضطراب الحياة الحديثة وفوضاها؛ لولا هذا كله لقيل عنها إنها الرواية التعبيرية بحق، ومع هذا فهي تشارك التعبيرية في مهاجمة المجتمع البرجوازي وبيان أخطار المدينة على كيان الفرد، وتتبع حياة إنسان بسيط كادح يتحطم على صخرة المجتمع وتقاليده ونظمه وأفكاره البالية. إنها تمثل ذروة النثر التعبيري وتتجاوزه في آنٍ واحد إلى نوع من الأسلوب الواقعي الذي تطورت إليه الرواية بعد العشرينيات، وأطلق عليه النقاد اسم «الواقعية الجديدة» أو ربما سموه كذلك «الموضوعية الجديدة».
والرواية ملحمة تلعب فيها المدينة الكبيرة دور البطل الحقيقي، ولكنها تحمل عنوانًا فرعيًّا نعلم منه أنها تروي قصة «فرانزبيبر كوبف»، وهو اسم «بطلها» الذي يروي حياته المضطربة في حضيض المدينة الكبيرة ودهاليزها السفلية المظلمة. إنه قاتل ولص ونزيل سجون ومزوِّر وقَوَّاد … كان يعمل شيالًا لنقل الأثاث ثم سُجِنَ أربع سنوات؛ لأن الغيرة دفعته إلى جرح صديقته جرحًا أدى إلى موتها.
وتبدأ الرواية بعد إطلاق سراحه وخروجه كالمجنون إلى الشوارع ليجد العقاب الحقيقي في انتظاره، ويتصعلك ويشقى من عملٍ إلى عمل، بحثًا عن مكان وسط زحام المدينة ورعبها. إنه في صميم قلبه يريد أن يحيا حياة شريفة مستقيمة، ولكنه يضطر أن يتشرد من حرفةٍ إلى حرفة، ويتقلب من تجربةٍ مُرَّة إلى تجربة أمرَّ، ويفقد ذراعه اليمنى ظلمًا وغدرًا، ويقتنع في النهاية بأن النصب والغش والسرقة والاحتيال هي مواد القانون الذي يحكم العالم، وينضم لعصابة من القوادين واللصوص تستغله أبشع استغلال، ويقتل رئيسها صديقته — وهي بَغِيٌّ كانت تحاول أن تساعده وتكشف عن أعدائه — ويلبث فترةً في مستشفى للمجانين فريسة اليأس إلى أن يتم اكتشاف القاتل الحقيقي، ويتحدث الناس عن قصة حبه وتروي الصحف مأساته، وتُعرض عليه في النهاية وظيفة متواضعة يقبلها ويصبح مساعد بواب في أحد المصانع!
بهذا يختم الكاتب قصة إنسان (من أبطال هذا الزمان!) تقلَّب بين دهاليز المدينة وحاناتها البائسة ومجرميها ولصوصها وأهلها الكادحين الفقراء، ولكنه لم يقدم قصة هذا الإنسان العادي لِذَاتها … ولم يقصد أن تكون تقريرًا عن بيئة العمال الفقراء، بل أراد أن تكون مثلًا يتأمله كل الذين لم يسمعوا عنه من جمهور القراء، وكل إنسان يسكن مثله في جلد آدمي ويطلب من الحياة شيئًا يزيد على الخبز اليومي … إن «بيير كويف» رجل عادي تافه لا ينفرد بميزةٍ خاصة، يحاول عبثًا أن يحيا حياةً مستقيمةً فيُخفق في كل محاولاته. ومع ذلك فإننا نشاركه آلامه ونفهم سلوكه، ونعرف أن ما يحدث له قد يحدث لكل واحد فينا. ومن هنا فهو يمثل نموذج الفرد الذي خرَّبته قيم الجماعة وجَنَتْ عليه. إنه بطل عصرنا ومدننا ومجتمعنا، وهو أيضًا ضحيته وشهيده، وهو يعرض علينا لوحةً بيئةً كاملة، تغلي بمختلف التيارات الروحية والفكرية، وتزدحم بألوان من البؤس والضعة والشقاء لم يعُد من الممكن السكوت عليها أو الوقوف منها كأنها قدر محتوم لا يتغير، هو في النهاية قدر المدينة الكبيرة التي يتحطم هذا البطل الصغير في أوكارها وجحورها وشوارعها المسفلتة، ويتدحرج في حضيضها المظلم درجةً درجة كأنه «أيوب» معاصر …
وأخيرًا فإن قصة هذا الرجل العادي «فرانزبيبر كويف» هي في الحقيقة رمز «كل إنسان» كما عرفته العصور الوسطى المسيحية، قصة ابن آدم المذنب الذي يسير من الظلام إلى النور، ويشق طريقه في هذه الدنيا وسط الخطايا والآلام، ويظل يتخبط في تجاربه وأيامه وأعماله بلا تطور ولا معرفة، حتى يطهِّره الموت في النهاية ويمنحه المعرفة والبصيرة، ولكنها معرفة الثائر المتمرد لا الخاضع المستسلم، وبصيرة الزاحف المتضامن مع إخوته من البشر لتحطيم «بابل الفاجرة» حتى يبزغ فجر العالم الجديد والحرية الجديدة من بين الأنقاض …
ولعل هذه الرواية أن تكون هي علامة الطريق البارزة نحو التحول الذي طرأ على الأدب الأوروبي بعد غروب التعبيرية.
ولا أحب أن أختم هذه الكلمات السريعة عن النثر التعبيري قبل الإشارة إلى الكاتب «هانز هيني يان» (١٨٩٤–١٩٥٩): إنه من أتعس الكُتَّاب الألمان حظًّا في القرن العشرين سواء عند القرَّاء أو النقاد! ويبدو أن لغته المعقدة المثقلة بالرموز والتجارب اللفظية والشكلية، وعالمه الفوضوي المشحون بالتجديف والشذوذ والتحليلات المرهقة لنوازع النفس المظلمة وصراعها بين قوى الشر الكامنة فيها وبين أشواقها للخلاص من قيود الواقع والغريزة؛ يبدو أن هذا كله قد ساهم في بؤس حظه وبقائه حتى الآن في الظل على الرغم من نبوغه وتفوقه. وأحب أن أذكر أولى رواياته وهي «بيروديا» (١٩٢٩) التي كتبها بأسلوب صوفي غني بالرؤى والصور الغريبة التي تجعلها قريبةً من الروح التعبيرية شديدة التأثر بها.