المسرح
إذا كان إنتاج التعبيريين في القصة والرواية شحيحًا، فهو على خشبة المسرح خصب شديد الخصوبة. إنه ينبع كذلك من خيبة أملهم في المدينة الكبيرة، ومفهوم العلم والتقدم كما شاع في أوائل القرن، وشوقهم للعثور على الإنسان وسط ضجيج الحروب والآلات.
وعذري الوحيد على كل حال أنني كتبت في موضع آخر دراسةً عن هذا المسرح، أرجو أن تظهر مع بعض نماذجه في وقت قريب.
كانت هذه هي حالة المسرح في سنة ١٩٠٠ على وجه التقريب.
فالدراما الكلاسيكية التي أبدعها كُتَّاب كبار مثل لسينج وجوته وشيلر، ثم واصل السير فيها هيبيل — أعظم التراجيديين الألمان في القرن التاسع عشر — وجريليارزر — أكبر كُتَّاب المسرح النمسويين — قد انتهت إلى نوع من الكلاسيكية الجديدة التي تتسم بالضعف والملل. وكانت المدرسة الطبيعية قد التزمت بالدراما التحليلية والواقعية مقتديةً في ذلك بإبسن.
أخذ التعبيريون من سترندبرج أسلوبه الفني، وإن لم يأخذوا شيئًا من مشكلاته الذاتية الأليمة التي نجمت عن إخفاقه المستمر في الزواج والحياة. لقد كانوا بطبعهم بعيدين عن المسائل الاجتماعية والنفسية المحددة، وكان كل همِّهم أن يجسِّدوا أفكارهم العامة وثورتهم المطلقة على خشبة المسرح.
ولكن ما هي هذه الأفكار العامة، وعلى أي شيء يثورون؟ إنهم يثورون على المدنية التي أفسدت الإنسان وعلمته أن يكون وحشًا قاسيًا شريرًا. ويهاجمون الحياة في المدن الكبيرة التي تسحق الفرد (أو إن شئت الفنان) وتدمر حريته، وتحكم عليه بالبؤس والانتحار البطيء ضحية التجار والنفعيين والبرجوازيين الأغبياء المطمئنين. وهم في النهاية يحلمون «بالإنسان الجديد» الذي يستطيع وحده أن ينقذ الإنسان «الأخ» الوحيد البريء العاري الباحث عن نفسه الباطنة الأصيلة، وطبيعي أن يصبح بطل الدراما التعبيرية هو الشاب المتمرد الثائر على عالم الآباء، وأن يكون الصراع بين الابن والأب هو المشكلة الأساسية التي تدور حولها معظم مسرحياتهم، وأن يكافح هذا الابن البريء اليائس في البحث عن الطريق الذي ينقذه وينقذ معه البشرية المعذبة.
تلك هي المشكلة الأساسية كما قلت، تتخذ شكلًا دينيًّا أو اجتماعيًّا أو فلسفيًّا أو سياسيًّا على اختلاف الأحوال، ولكنها تظل مشكلة المشاكل على كل حال.
هنا يصطدم القديم والجديد، والشر والخير، والآباء والأبناء، ولكن التعبيريين لا يريدون أن يقدِّموا تحليلات نفسية واجتماعية واقعية، بقدر ما يريدون التعبير عن عاطفة الثورة بما هي ثورة، وتجسيد عذاب الثائر ومخاوفه وآلامه، والتبشير بعالم جديد وعهد جديد ومملكة نقية يحيا فيها «الإنسان»، مملكة جديدة يتحرر فيها من كل سلطة وسلطان، ومن كل ظلم واستغلال وامتهان؛ أي يتحرر فيها من كل الآباء …!
وطبيعي أن التعبير عن الثورة المطلقة أو التمرد الخالص لا يحتاج إلى شخصيات فردية محددة، ذات كيان وتاريخ محدد؛ لذلك نجد التعبيريين يلجئون للنماذج والأنماط العامة، ويديرون الصراع في مسرحهم بين «الأب» و«الابن» والمدير والعامل، والرجل والمرأة. كما نجد الحوار يفقد وظيفته الأساسية، فيشيع في أعمالهم جوٌّ شاعري مسرف في شاعريته، وتجري على ألسنتهم لغة مجنحة متوهجة، ويصبح المونولوج (أي حوار الشخصية الوحيدة مع نفسها) هو المحرك الأول للوحات والمشاهد المتتابعة، بحيث يتعذر آخر الأمر أن تسمى هذه المجموعة من اللوحات والمشاهد «تراجيديا» أو «كوميديا» بالمعنى المألوف من هاتين الكلمتين، بل ويتعذر أن تنطبق عليها أية كلمة تدل على نوع من الأنواع الأدبية التي أراد التعبيريون تحطيمها وتمزيق أشكالها. وقد نذهب إلى أبعدَ من هذا فنقول: إن من الصعب أن نسميها «مسرحيات» … وربما كان الأوفق أن نسميها رسائل أو اعترافات درامية، أو رؤًى عاطفية وفكرية، أو لوحات تبشيرية بالمستقبل الذي لم يولد بعد، والإنسانية التي كانوا يحلمون وما زلنا نحلم بها.
إن الاعتراف والحماس الشاعري يحلَّان محل التوتر الدرامي، والوسائل المسرحية تبلغ أقصى حد من التطرف والمبالغة، والممثلون يصرخون ويصيحون أو يهمسون ويتمتمون وينشجون بالبكاء، والإشارات والإيماءات تنقلب إلى نوع من «البانتوميم» أو التمثيل الإيقاعي الصامت الذي يغلب على المشاهد المؤثرة، ويُغْني بالتعبير الجسدي والروحي عن الألفاظ والكلمات، والمناظر تتغير فوق خشبة المسرح أو بالأحرى تختفي منها، فليست هناك تجهيزات آلية معقدة، ولا قطع ديكور ثقيلة من النوع الذي يُسْتَخْدَم في المسرحيات الطبيعية والتاريخية، بل يكاد المسرح أن يكون عاريًا من كل شيء؛ رغبةً في إثارة خيال المتفرج والإيحاء عن طريق التجريد والتعميم. إن المتفرج مدعوٌّ للاستجابة للنداء الذي يتجسد الآن أمامه، مدعوٌّ لاتخاذ موقف، ولا بد من إخراجه من تحت عباءة «الوهم» التي أسدلها عليه المسرح الكلاسيكي (الذي كان مسرح وهمٍ بالأصالة).
ومع أن المسرح التعبيري لا يزيل هذا الوهم إلا ليُحِلَّ مكانه وهمًا آخر، ولا يقضي تمامًا على «اندماج» المتفرج في المشاهد والأحداث التي تجري أمامه — وهي مشكلة المسرح الحديث والمعاصر بوجه عام؛ فلا شك أن التعبيريين قد حاولوا شيئًا مما نحاول اليوم، وسبقوا إلى نوع من «الإغراب» الذي نسمع عنه كثيرًا في هذه الأيام كلما تحدَّث الناس عن برشت أو مسرح اللامعقول أو المسرح التسجيلي أو المسرح الخالص أو العرض التمثيلي الذي يحاول التخلص من سلطان الأدب ليعطي للجسد حقه في الحركة والتعبير …
ولعل أهم ظاهرة في المسرح التعبيري هي الضوء. لقد أصبحت له وظيفة أساسية. بل لا نبالغ إذا قلنا: إنه أصبح البطل الحقيقي في المسرحية. إنه يركز على الشخصيات الرئيسية، ويخلق الظلال والأشباح الغامضة المفعمة بالأسرار، وقد يطفأ تمامًا فيخيم الظلام المطلق الذي يساعد على زيادة التأثير وتحريك عاطفة المتفرج وتفكيره وخياله، وأخيرًا فإن التمثيل يتم على مستويات مختلفة وفي وقت واحد، فيسلط الضوء على جانب آخر من المسرح دون حاجة إلى رفع الستار عن أحد المشاهد (الخالية بالطبع من الديكور) لينقلنا إلى مكانٍ أو زمان آخر. وكلها أشياء يعرفها المتفرج الذي يتردد على المسرح، وتؤكد ما يقوله بحق بعض رجاله من أن المخرج ومهندس الضوء والصوت يساهمون بدور هام في خلق العرض المسرحي أو تأليفه.
والنتيجة التي نخرج بها من هذا كله هي أن عرض الأفكار والمشاعر عرضًا مجردًا يسمح بالتحرر من قيود الوحدات الثلاث المشهورة التي أشار إليها أرسطو في «فن الشعر» (وهي الزمان والمكان والحدث)، ويسمح كذلك بتصوير ما كان من قبلُ مستحيلًا أو عسيرًا، أي بتصوير الحلم والرؤية، والسماء والجحيم، والفقير والمليونير، والمجرم والقديس. إن كل ما تهجس به النفس أو يهمس به القلب يتجسد على المسرح في صورة مرئية. وكل فنون الديكور والإخراج والإضاءة والملابس والرقص والإلقاء تُسخَّر الآن لإثارة وجدان المتفرج وإقناعه بالدعوة الجديدة للإنسانية الجديدة … أي إنها تشترك في خلق ما يسمى الآن بالمسرح الشامل.
ولعل التعبيريين هم أول من حاول إقامة المسرح الشامل الذي يتردد الحديث عنه في هذه الأيام، وهو مسرح يجمع بين عناصر مختلفة كالكلمة والنغم والرقص والإضاءة والحركة والفن التشكيلي. ويشترك الممثل — الذي يُطْلَب منه أن يكون راقصًا كذلك! — مع المؤلف والمخرج والمثَّال والرسام والموسيقي ومصمم الأزياء والأقنعة ومهندس الإضاءة بنصيب متساوٍ. إنه مسرحٌ مثاليٌّ مجرد، أو هو في صميمه تجربة لا تقوم على الكلمة بكل ما تحمله من معانٍ وآراء وفلسفات، بل على الإيقاع الشامل الذي يؤلِّف بين هذه الفنون المختلفة. وقد قدمت أول تجربة له مع تقديم مسرحية الرسام والكاتب المسرحي النمسوي الشهير أوسكار كوكوشكا «أبو الهول ورجل من القش» (وقد غير عنوانها بعد ذلك فظهرت سنة ١٩١٧ بعنوان أيوب على مسرح زيورخ، واستخدمت فيها معظم الوسائل التعبيرية السابقة)، ثم تُوِّجت هذه التجارب جميعًا في محاولات المخرج الشهير أرفن بسكاتور الذي بدأت فكرته عن المسرح الشامل تحت تأثير التعبيرية، ولا زالت حية إلى الآن فيما يسمى بمسرح الطليعة والمسرح السياسي (الذي تعاون الأستاذان: ألفريد فرج وسعد أردش على نجاحه في بلادنا عندما قدَّما مسرحية النار والزيتون على المسرح القومي).
غير أن هذا المسرح ظل أقرب إلى الفنون التشكيلية منه إلى الدراما، وإلى العرض منه إلى التعبير؛ ولذلك أراد الأدباء أن يخلقوا مسرحهم الشعري الذي يختلف عنه ويستفيد منه في آن واحد، ويقوم على الكلمة المتفجرة التي تُلْقَى من على خشبة المسرح حاملةً رسالة هؤلاء الشباب وسخطهم على عالمٍ ليس كما ينبغي له أن يكون! وكانت مسرحيات «الابن» (١٩١٤) — وسيأتي الحديث عنها — لفالتر هازنكليفر، والشاعر لرينهارد زورجه (١٩١٢) من أوائل هذه المسرحيات، ثم ظهرت المسرحيات السياسية بعد ثورة ١٩١٨ الاشتراكية الفاشلة، في كتابات عدد من التعبيريين الغاضبين على الحرب المنادين بمجتمع إنساني جديد، وظهرت معها الحاجة إلى المسرح السياسي الذي ينقذ المجتمع ويستثير الجماهير إلى العمل والتغيير والكفاح، فكان مسرح بسكاتور السياسي، ومن بعده مسرح برشت الملحمي.
وإذا انتقلنا للكلام عن بعض كُتَّاب المسرح التعبيري وجدنا أسماء عديدة ونماذج مغرية لا حصر لها.
يمكننا أن نبدأ بكارل شتيرنهيم (١٨٧٨–١٩٤٢) الذي تميز بكوميدياته «الجيدة الصنع» التي هاجم فيها المجتمع البرجوازي وتقاليده ومُثُله هجومًا ساخرًا مُرًّا لا رحمة فيه، ووضعها تحت هذا العنوان الطريف: «مشاهد من الحياة البطولية للبرجوازية»، ومن أهمها: «السراويل» و«المتحذلق»، وهما من أنجح كوميدياته وأكثر رواجًا إلى اليوم.
ونذكر كذلك أكبر كُتَّاب المسرح التعبيري وأخصبهم إنتاجًا وأكثرهم قدرة على البناء الدرامي وهو جورج كايزر (١٨٧٨–١٩٤٥) الذي سيطر على المسرح الألماني في العشرينيات، كما تذكر مسرحياته الفكرية والاجتماعية البارعة مثل «مواطني كاليه»، و«من الصباح إلى منتصف الليل» وثلاثيته «غاز».
ثم نذكر رينهارد زورجه (١٨٩٢–١٩١٦) الذي سقط في عنفوان شبابه في الحرب العالمية الأولى، وتميَّز شعره بالثورة على النزعة الطبيعية والمادية. كما تميزت مسرحياته الرمزية الحالمة التي توشك أن تقوم على المونولوج بالدعوة إلى تجديد الإنسان وإحياء العقيدة في نفسه والعودة إلى تمثيليات الأسرار في العصور الوسطى.
وأوضح مَثَلٍ لهذا هو مسرحيته «الشحاذ» التي تتحول قرب نهايتها إلى قدَّاس يُنْشَد على المسرح (ولا ننسى بهذه المناسبة أن معظم المسرحيات التعبيرية قريبة من أشكال التأليف الموسيقي وبخاصة الأوبرا).
وقد بدأ حياته بكتابة مسرحيات تعبيرية خالصة اتَّبع فيها أسلوب المونولوج والمشاهد المتوالية، وتناول مشكلات الشباب الحائر الباحث عن نفسه، ثم تطرَّق منها إلى المسرحيات التاريخية، وأصبح كاتب المسرح الأول في ظل النازيين وداعيتهم الأكبر إلى التفوق العنصري، وبذلك سقط السقطة التي لا تُغْتَفر.
وأخيرًا نذكر فرانز فيرفل ومسرحيته «رجل في المرآة» وإعداده «لنساء طروادة» ليوروبيدز، وفرتزفون أنروه (١٨٨٥) الذي عُرِفَ بمسرحياته التي وقف فيها من الحرب والاستبداد موقفًا شجاعًا، ودافع دفاعًا بليغًا عن السلام والمحبة والأخوة بين البشر، كما في مسرحيته «جيل» و«مكان» ومسرحياته التاريخية التي صودرت في عهد القيصر وليم الثاني. ثم «رينهارد جيرنج» (١٨٨٧–١٩٣٦) — (وهو غير مارشال الطيران النازي المفزع!) وقد عمل طبيبًا في ميادين الحرب العالمية الأولى وهزَّته تجاربها الأليمة، فكتب مسرحياتٍ شاعريةً معتمة تدور حول فكرة البطولة التي تنتصر على القدر، ومن أهمها: «المعركة البحرية»، «المنقذون».
أما مسرحية «المعركة البحرية» فهي أشهَر ما كتب المؤلف، وهي كذلك من أشهر المسرحيات التي تعبِّر عن الاحتجاج على الحروب. إن لغتها الغنائية المفعمة بالجمال والجلال أشبه بلغة الكورس (الجوقة) في المسرح اليوناني القديم، وهي تصوِّر سبعة بحارة على سفينة أو بارجة حربية يمزقهم الصراع بين أداء الواجب الذي سيدفعهم حتمًا إلى القتل، وبين العصيان الذي سيعرِّضهم حتمًا للموت. وتبدأ المسرحية بصرخة عالية؛ والصراخ علامة دالة على الروح التعبيرية كلها!
ونجِد البحارة يشْكُون ويتذمرون ويصرخون «كالخنازير التي تنتظر الجزار أو العجول التي تنتظر الذبح أو القطعان التي تسحقها الصاعقة». وهم يقاتلون عندما تبدو سفينة الأعداء في الأفق، ويتأملون في معنى الموت والحياة، والوطن والحكام، والطاعة والعصيان، ويشتركون في بكائيةٍ أشبه بقدَّاسٍ جنائزي ينشدونه على أصوات المدافع، وتساقُط جثثهم واحدًا بعد الآخر، أو أشبه بجوقة يونانية مليئة بالفجيعة والعذاب.
وليست «المعركة البحرية» مسرحيةً فحسب، وإنما هي — في صميمها — تعبير عن وجود الإنسان حين يتأمل نفسه وضميره في ساعة القدر والخطر، وفي موقفٍ لا مفر فيه من الموت ولا مفر أيضًا من السؤال عن المعنى والقيمة، وعن المعتقدات الموروثة والكلمات الضخمة والأخطاء والأكاذيب التي دفعت هؤلاء البحارة إلى أتون الحرب.
وقد نجحت المسرحية نجاحًا هائلًا عندما عُرِضَت لأول مرة (سنة ١٩١٨) على المسرح الألماني في برلين. وقام بإخراجها المخرج التعبيري الشهير ماكس رينهارت.
وأخيرًا فلا يمكننا أن نُغفل تلك الشخصية الثورية الحالمة التي يوشك صاحبها أن يكون نبيًّا ملهمًا من أنبياء الثورة الاشتراكية في العصر الحديث، أولئك الذين «تعذَّبوا وضحَّوا وذاقوا في سبيلها مرارة البؤس والسجن والتشرد والحرمان»؛ وأعني به إرنست تولر (١٨٩٣–١٩٣٩) الذي كتب أعنفَ مسرحيات التعبيريين هجومًا على الحرب، وأشدَّها سخطًا على عبودية الإنسان الحديث للآلة، وأخْلَصَها دعوةً إلى نظامٍ اشتراكي يحقق السلام والعدالة وينصف العمال والفقراء. ومن أهم المسرحيات التي كتبها وأشهرها: «الإنسان والجماهير»، «محطِّمو الآلات» و«هنكمان» و«العدالة» وغيرها من الأعمال التي أعانت المخرج المشهور أرفين بسكاتور على خلق مسرحه السياسي، إذ ألهمته أن يستعين في إخراجها بمكبرات الصوت والصور السينمائية واللافتات، واستخدام المجاميع البشرية الهائلة وغيرها من الوسائل المعروفة اليوم في المسرح السياسي والتسجيلي.
ولا يكاد أحد من المهتمين بالمسرح التعبيري ينسى اسم المثَّال والرسام إرنست بارلاخ (١٨٧٠–١٩٣٨) الذي كتب مجموعة من المسرحيات الغريبة بأسلوبٍ شاعريٍّ غامض ولغة مفعمة بعاطفة دينية صادقة ورغبة مخلصة في البحث عن الله وسط حطام هذا العالم. وما دمنا لا نملك الحديث بالتفصيل عن هذه المسرحيات فلا أقلَّ من التنويه بأسماء بعضها مثل: «اليوم الميت» و«اللقيط» وأفراد أسرة زيد يموند الأصلاء، وبول الأزرق، والطوفان.
ثم نصِل إلى هذا الكاتب العبقري السيئ الحظ الذي أشرت إليه من قبلُ وهو «هانز هيني يان»، وقد كتب مسرحيات غريبة محمومة «كالراعي إفراييم ماجنوس»، و«الطبيب وزوجته وابنه»، و«الإله المسروق»، و«ميديا»، و«الفقر والثروة» و«الإنسان والحيوان» … إلخ.
•••
وأخيرًا فلا بد من الإشارة إلى الكاتب المسرحي الذي استطاع أن يصوِّر المشكلة الحقيقية التي شغلت التعبيريين، وهي مشكلة الصراع بين الآباء والأبناء. هذا الكاتب هو فالتر هازنكليفر (١٨٩٠–١٩٤٠) الذي نجحت مسرحيته «الابن» في تجسيد أزمة الجيل الجديد وثورته على سلطة الآباء وحنينه إلى الأخوة والسلام والمحبة بين البشر.
ويوشك «الابن» أن يكون صورة تعكس حياة المؤلف نفسه وتجاربه في لوحات كثيفة متقنة، ولغة دقيقة مركزة تبلغ أحيانًا ذروة التوتر والتفجر.
ونحب أن نقف وقفةً أخيرة عند هذه المسرحية؛ لنلمس منها روح الحركة التعبيرية، ونعيش لحظات في جوها الحافل بالصور والرؤى والرموز والشعر والهتاف والصراخ …
كُتِبَت المسرحية سنة ١٩١٤، وعُرِضَت لأول مرة على المسرح في مدينة براغ سنة ١٩١٦، ومُنِعَ تقديمها في أثناء الحرب العالمية الأولى. وهي تشترك مع معظم المسرحيات التعبيرية في أن جميع شخصياتها شخصيات عامة غير محدودة بأسماء معينة … وذلك باستثناء أربع منها فحسب، فهناك الأب، والابن، والصديق، والآنسة، ومندوب الشرطة، والمعلم، وكلهم يتحدث بأسلوب شاعري تلعب فيه الصورة والاستعارة والرمز دورًا كبيرًا، ويدخل فيه المونولوج والقصيدة في مواضع عديدة، وتكثر به الإشارات الثقافية التي تتطلب من القارئ دراية واسعة بالتراث الغربي. وتتألف المسرحية من خمسة فصول، وتستغرق أحداثها ثلاثة أيام تصل فيها المأساة إلى ذروتها عندما يقتل الابن أباه في نوبة غضب مجنون.
تبدأ المسرحية بحوارٍ بين الابن ومعلِّمه الخصوصي، تعرف منه أن الابن أخفق في امتحان المدرسة، وأنه يُرْجِع سبب هذا الإخفاق إلى أبيه الطبيب الثري الذي فرض عليه حياةً قاسيةً تشبه حياة الحبس الانفرادي. والابن سعيد بهذا الفشل الذي سيحرره فيما يعتقد من طغيان الأب ويزيد من غضبه عليه، ويطلب من المعلم أن يُبرِق إليه بالنبأ لكي تكون فرصة لحضوره والحديث معه وجهًا لوجه يقول المعلم: لست أفهم أباك.
فيرد الابن قائلًا: إذا أصبحت أبًا فسوف تصير مثله، الأب هو قدَر الابن. إن خرافة الصراع من أجل الحياة لم تعُد لها قيمة، فالحب الأول والكره الأول يبدآن في بيت الأسرة. ويسأل المعلم: ولكن ألست الابن؟
فيقول الابن: أجل، وأنا لهذا على حق! لا يستطيع أن يفهم هذا سواي. يا عزيزي الدكتور، ربما لا نتقابل بعد اليوم، فاسمع هذه النصيحة الدامية التي تأتي من القلب. إن رُزِقْتَ بولد فأَهْلِكْه أو مِتْ قبله؛ لأنه لا بد أن يأتي اليوم الذي تصبحان فيه أنت وابنك أعداء. وليرحم الله عندئذٍ مَن ينهزم.
ويحاول المعلم عبثًا أن يحوِّله عن حقده على أبيه، وسخطه على جبروته، ويذكِّره بقسوة الحياة على الأحياء، وتعاستها الطبيعية التي لا تحتمل أن نزيدها بالكُرْه والعداء، يا صديقي العزيز، نحن جميعًا سنضلُّ في هذا العالم، لِمَ إذن تريد أن تكون بهذه القسوة؟! انزل إلى الشارع وانظر إلى حيوانٍ يرتعش خوفًا من الرعد. أتعرف شيئًا عن إحساس المومسات الجائعات؟ أرأيت في حياتك مشوَّهًا يضطر للبحث عن الخبز في السادسة صباحًا؟ هنالك ينبغي أن تشعر بالامتنان لأن لك أبًا. كلنا مظلوم وظالم. فمَن الذي يقذف بأول حجر؟ لقد كنت كلبًا شقيًّا، وكان أبي يكدح من أجلي. رأيت كيف مات. وبكيت، مَنْ جرَّب هذا فلن يُدِين غيرَه.
ولكن الابن يستمر في عناده وسخطه على أبيه ورغبته في الانطلاق من قيوده لمعانقة الحرية والحياة. ويدخل صديق يضع حطبًا جديدًا على ناره المشتعلة بالغضب والشوق، ويزيِّن له تجربة الحب مع المربية الصغيرة التي عيَّنها أبوه لترعاه وتُعِد له الطعام، لا بل يزين له الهروب إلى العالم الواسع، ويختلس الابن القُبلة الأولى مع هذه الفتاة التي لم يفطن إلى جمالها وطُهْرها من قبل، والتي فتحت له الباب لكي يعانق الحياة ويضم الخلود إلى صدره. وتخشى الفتاة عليه وعلى نفسها فتقول له في بداية الفصل الثاني: نحن نسقط ونزداد سقوطًا كل يوم وأبوك يضع ثقته فيَّ. فيقول الابن: ما أمتع أن أغشَّه وأخدعه! لقد انتشيت بهذه السعادة عندما قبَّلتك بالأمس في حجرته. والأريكة التي تعانقنا فوقها قد أحسَّت برغبتي في الانتقام، وقِطع الأثاث الميتة الشامتة التي طالما ضربني أمامها قد شهدت كلها، كلها المعجزة. لم أعد ذلك الشيء المحتقَر. لقد أصبحت إنسانًا.
كل ما يريده إذًا هو أن يصبح إنسانًا بالمعنى الوجودي المطلق لهذه الكلمة. ولا بد له أن يزيح الطاغية المستبد من طريقه ويفلت من سوطه وجبروته ليحلم كما يشاء؛ وهو لذلك مصمِّم على أن يواجهه مواجهةَ النِّدِّ للنِّدِّ، ويفجِّر أمامه قنابل الكلمات التي حبسها في صدره طوال حياته.
ويركع الابن الضائع أمام أبيه ويتشبَّث بيده. ولكن الأب ينتزع يده ويأمر بالنهوض قائلًا: لا أستطيع أن أمدَّ يدي لإنسانٍ لا أحترمه! فينهض الابن على قدميه في بطء ويقول: أنت تحتقرني. وهذا حقك؛ فما زلت أعيش من مالك. لقد كسرت حدود البنوَّة لأول مرةٍ بعاصفة قلبي. هل أخطأت في هذا؟ أيُّ قانون يجبرني على الخضوع لنِير العبودية؟! ألست أنت أيضًا مجرد إنسان؟! وأنا، ألست إنسانًا مثلك؟! لقد ركعت أمام قدميك وحاولت أن أنال بركتك، ولكنك تخلَّيت عني وتركتني في قمة ألمي. هذا هو حبك لي. هنا تنتهي مشاعري.
ويستمر الابن في ضراعته للأب كي يطلقه ويردَّ إليه حريته، ويوجِد جسر المودة الذي يصله به، ويقضي على الصراع الذي أقامته الطبيعة بين الآباء والأبناء فيعترف برجولته وإنسانيته. ولكن الأب يصر على عناده وإيمانه بأنه يؤدي واجبه نحوه ويمارس حقه الطبيعي في تربيته.
ويطالب الابن بمال أبيه الذي يجد من حقه أن يَرِثه ليحيا حياته بعد أن عاش الأب واستمتع بحياته، فيسأل الأبُ: هكذا! وماذا تريد أن تصنع بمالي؟
وهنا يتقدم الأب من الابن ويلطمه على وجهه لطمة قاسية. ويهدأ الابن لحظات قبل أن يقول: ها أنت ذا لم تدَّخر أبشع ما عندك في هذا المكان الذي لا تزال سماء طفولتي تظلله. لقد صفعتني أمام هذه المائدة وهذه الكتب، ومع ذلك فأنا أكبر منك! إني أَشْمَخ بوجهي فوق بيتك في كبرياء ولا أحمرُّ خجلًا من ضعفك. لقد كرهتَ فيَّ الإنسان الذي لم تستطع أن تكونه. إني أنتصر عليك. اصفعني مرة أخرى. فالرجولة تتملكني، لا دمعة ولا غضب. كم تغيرت الآن وأصبحت أعظم منك. أين ذهب الحب؟! أين انتهت أواصر الدم؟! حتى العداوة لم يعد لها وجود. إني أرى أمامي رجلًا جرح جسدي. ومع هذا فقد خرجت من جسده بلورة حددت حياتي ذات يوم. هذا اللغز الذي لا يُفْهَم! تدخَّل القدر بيننا. حسنًا. إن حياتي أطول من حياتك! ويترنح الابن من هول اللطمة، وتتحرك عاطفة الأبوة في قلب الطاغية فيسرع إليه ليسعفه. ولكن الصدام لا يلبث أن يتجدد. ولا يلبث الأب أن يذكِّره بأنه إنما يقوم بواجبه ولن يتخلى عن القيام بهذا الواجب الذي تفرضه الطبيعة والتربية نحو الولد العاق، ويذكِّره الأب كذلك بأنه طالما انحنى على مهده وطالما أحبه، وما يزال يسهر الليالي بسببه، فكيف يمكنه أن يحبه أو يثق به وهو يأتي إليه عاصيًا متمردًا. ويرد الابن بأنه قد أصبح غريبًا عنه، وليس هناك شيء يجمعه به. لقد أراد له الخير، ولكن هذا الخير لم يصل إليه. ربَّاه في حدود مفاهيمه العقلية، ولكن الزمن غيَّر هذه المفاهيم؛ لذلك فهو يلح عليه أن يُطلِق حريته. ويقول الأب: إن عفن هذا الزمن قد أفسده وسمَّم عقله ودمه. ويقترب منه ويضع يده على كتفه ويدعوه لنسيان ما حدث، ولكن الابن يجفل منه ويقول: لا يا أبي. إنني أحب زمني ولا أخجل منه. لا أريد عطفًا منك. كل ما أريده هو العدل. أريد أن أنطلق إلى بحار المغامرة وأتجرر بالنور من صحراء بيتك، وأواجه أرضًا سعيدة أكون نبيَّها. وتُفْزِع الأب هذه اللهجة فيسأله: كيف يجرؤ أن يحطم هذا القيد المقدَّس النبيل؛ قيد الأمومة والأبوَّة؟! وهل يدرك حقًّا ماذا يترك وراءه وإلى أين يذهب؟! ومن الذي يطعمه في الصباح ومن يقف بجانبه في الشدة؟! وهل مات حتى يخاطبه بهذا الكلام؟! فما يكون من الابن إلا أن يؤكد ما قاله: أجل يا أبي. لقد مِتَّ بالنسبة لي. اختفى اسمك. لم أعد أعرفك. لم تعد حيًّا إلا في ألواح الوصايا. أردت أن أبحث عنك في الريح والسحاب. ركعت أمامك على ركبتيَّ فصفعتني على وجهي وسقطت في الهاوية … أصبحت عدوِّيَ الوحيد المخيف … عليَّ الآن أن أتسلح للدخول في هذا الصراع … ولا بد أن ينتصر أحدنا على الآخر! ويطلب منه الأب أن يسمعه للمرة الأخيرة ويسأله: ألم يبقَ على شفتيك المزبدتين بالغضب نفثة شكر ولا خشوع؟ ألا تعرف من أنا؟
ويستمر الجدل المحموم بينهما حتى يقرر الأب أن يحبسه في غرفته إلى أن يتم شفاؤه من مرضه. ويفرض عليه أن يبقى في مدرسته ويتم امتحانه وإلا حرَمَه من الإرث وبدَّده بنفسه قبل أن يقع في يد ابن يلطخ اسمه بالعار. ثم يتركه ولا ينسى أن يغلق الحجرة بالمفتاح قبل أن يتمنى له نومًا سعيدًا! ولكن الصديق لا يلبث أن يظهر وراء النافذة، ويزيِّن له الهروب إلى العالم الواسع حيث يعانق الحياة والأبد، وينضم إلى جيش الثورة الزاحف لإسقاط الآباء من فوق عروشهم! ويُخْرِج الابن من دولابه بذلة سوداء يستقبل بها الحياة الجديدة، بينما تشتعل أنوار المدينة خلفه، وترتعش الجملة الأخيرة من سيمفونية بيتهوفن التاسعة، ويغني الكورس هذا المقطع من أنشودة شيلر إلى الفرح: أيها الأخوة سيروا على طريقكم، فرحين كما يسير البطل إلى النصر … وتأتي المربية الشابة لتُحضر له الطعام فيُعلنها بعزمه على الانطلاق إلى الآفاق المضيئة والليل المصطخب بالعطر والموسيقى، والمواكب الزاحفة إلى مستقبل لا يتحكم فيه الآباء (الموت للآباء الذين يحتقروننا!) ولكن تنهار فيه كل السجون؛ ويختفي من النافذة بعد أن تُشيِّعه المربية بالإشفاق والدعاء.
ولكن رحلة المغامر الصغير لا تستمر سوى يوم واحد! فالفصل الثالث يقدِّم لنا شخصيات غريبة، تتزعَّم جمعيةً لا تقل غرابة يسميها أصحابها «جمعية المحافظة على السعادة»، وزعيمها يتدبر الخطبة التي سيفاجئ بها زوار الحفلة التي يقيمها، ويستعد لإعلان صيحاته المُنذرة بتحطيم كل القيود وإطلاق كل الشهوات من جحورها وإسقاط كل السُّلطات عن عروشها! يحدِّث زميله عن مخاوفه من «الصديق» وشكوكه في أمره.
ولا يلبث الصديق أن يَظْهَرَ فيهدد بإفساد الخطبة الموعودة ويهزأ بالجماعة كلها، ثم يلح عليه الأعضاء فيرضى بشرط أن يُلْقِي هو خطبته أو يسمح لثالثٍ بإلقاء خطبته. ولا يكون هذا الثالث غير «الابن» الذي يدخل الحفل دخول الوسيط الذي أخضعه المنوم المغناطيسي لتأثيره الفظيع، ولم يكن هذا المنوِّم إلا الصديق نفسه. ويلقي الابن خطبته الهائلة التي يعلن فيها الحرب على كل الآباء ويطالب بمحاكمتهم والتحرر منهم! ويهلِّل الحاضرون ويصفقون، ويغمرون يديه بالقبلات، ويحمله الشباب فوق أكتافهم ويخرجون به إلى الشوارع في موكب الأبطال. وتنشر الجرائد في اليوم التالي أخبار الحادث الرهيب على صفحاتها الأولى … ونعرف بعد ذلك أن الابن قد جرَّب تجربته الأولى والأخيرة مع النساء؛ فقد قضى الليلة في حضن مومس ذكية سمعها تُوصي الآباء أن يرسلوا أبناءهم ليتعلموا الحياة في أحضان المومسات! ويأتي الصديق فيوقظ الابن الحالم من غيبوبته، ويتحدث إليه كما كان يوحنا المعمدان يتحدث عن المخلِّص الذي سيأتي بعده، وينبئه بأنه هو النبي الذي كُتِبَ عليه أن يقود مواكب الثورة على الآباء؛ ليبدأ عصر الشباب والحرية والحياة بغير حدود أو قيود. ثم يكشف له الصديق عن سرِّه المخيف؛ فرجال الشرطة في طريقهم للقبض عليه، وهو الذي أخبرهم! فإذا فزع الابن قال له الصديق: إنه تعمَّد ذلك لكي يدفعه إلى تقديم الضحية التي ستُقَدَّم على مذبح الإله الجديد. وليست هذه الضحية غير أبيه الذي يحرِّضه على قتله!
وتأتي الشرطة حقًّا بعد قليل. ولكن بعد أن يكون الابن — تحت تأثير هذا الصديق العجيب الذي سيُسلم نفسه للموت بالسمِّ بعد أن يتأكد من أنه حقق رسالته في الحياة — قد اقتنع بأنه يتزعم جيش الخلاص من «الأموات»، ويرفع في يده علم الثورة، ويحقق حلم ملايين الشباب الذين وضعوا مصيرهم بين يديه، وينقذ هذا الجنس التعيس المعذَّب المظلوم على مر العصور.
ويساق الابن مكبَّلًا بالحديد إلى أبيه، ويحاول رجل الشرطة — وهو الوالد الرحيم الذي يحمد السماء على نعمة الأبناء التي تهبها دائمًا للآباء بغير استحقاق — يحاول عبثًا أن يُقنِع الأب بأن للأبناء حياتهم التي تختلف عن حياة الآباء. ولكن الأب يصرُّ على حقه في القيام بواجبه نحو ولده العاصي، كما يصرُّ على أن هذا الواجب يقتضيه أن يعامله بمنتهى الشدة والقسوة حتى يمنعه من السقوط وينقذ اسمه من العار.
ويؤتى بالابن ليقف في حضرة أبيه فيواجهه مواجهة النِّدِّ للنِّدِّ. إنه لم يعد يخاف من السوط الذي يُقلِّبه الأب بين يديه؛ لأنه يضع يده في جيبه ويلمس المسدس الذي أعطاه له الصديق وحشاه أيضًا بالرصاص! لم يأتِ الابن ليسمع من أبيه القاسي موعظة الأخلاق، بل ليتحدَّاه ويُخبره بأنه قضى ليلته مع امرأة، وأنه لم يأتِ إليه كما كان طفلًا ذليلًا يتحمل تعذيبه وضربات سوطه، بل جاء ليُعلن إليه أن ثورة الأبناء قد بدأت، وأنه هو الذي بدأها بالأمس في خطبته الرهيبة التي تحدثت عنها الصحف؛ ولذلك فهو يطلب منه أن يُطلِق حرِّيته، ويُحِلَّه من رباط الأبوَّة الذي لم يربطه به أبدًا. أما عن ماله فهو يعلن زهده في الميراث ويوصي به للفقراء. ويستجيب الأب، ويخبره في قمة يأسه وغضبه أنه لم يعد ابنه، ويقذف السوط أمامه؛ لأنه لم يعد يستحق أن يلمسه، ويخبره بأن يستطيع أن يذهب. فإذا سأل الابن إن كان قد أصبح حرًّا أجابه بأنه سيصبح كذلك، ولكن بعد أن يقضي سنة كاملة تحت إشرافه وسلطانه، حتى يحمي الإنسانية من شرِّه. ويطرده من أمامه، فيأمره الابن ألا يتحرك من مكانه؛ لأنه أغلق الحجرة ووضع مفتاحها في جيبه! ويحاول الأب أن يستنجد بالشرطة عن طريق التليفون فيسدد الابن المسدس إلى صدره وهو يقول كلمة واحدة معناها: الموت. ويبدأ صراع صامت يستمر لحظاتٍ خاطفة، قبل أن تُنْهِيه طلقة يسقط الأب على أثرها جثة هامدة. وتدخل المربِّيَة الحبيبة فتكتشف جثة الأب وترى شبح المحبوب ذاهلًا على كرسيِّه. ويدور بينهما حوارٌ شعريٌّ يفاجئنا بهدوئه وبروده وعذوبته. ونسمع الصديقة الوحيدة التي تواسي صديقها المسكين وهو يخطو إلى الحياة والنجوم فوق جثة لم يعد يربطه شيء بصاحبها. ويسلِّم نفسه للعدم والفراغ المخيف بعد أن تحدَّى الموت واتَّحد بالحياة … ويمد يده إلى صديقته ويسيران خطواتٍ قبل أن يفترقا ويخرج كل واحد من باب، تاركَيْنِ الأب الميت وراءهما …