لقاء البيرق!
كانت الساعة قد تجاوزَت منتصفَ الليل … عندما غادر «أحمد» المقرَّ السري ﺑ «الهرم». فقد كان لديه موعدٌ مهمٌّ للغاية مع رجل أكثر أهمية في مكان آثرَ الرجل أن يكون مكانًا عامًّا يرتادُه الجميع … وقد اقترح عليه «أحمد» أن يكون فندق «سميراميس» هو هذا المكان …
الطريق ما بين ميدان «الرماية» — حيث يقع المقرُّ السري — وفندق «سميراميس» لا يستغرقُ عبرَ الطريق الدائري أكثرَ من ثلث الساعة … هذا إذا سار بالسرعة العادية … أما إذا أطلق العنان ﻟ «اللاندكروزر» فسيصلُ إلى الفندق قبل موعده بربع الساعة.
لفحَت الرياحُ الباردة وجهَ «أحمد» وهو في طريقه من مبنى المقر إلى سيارته «اللاندكروزر»، وأحسَّ وهو يجلس خلف عجلة القيادة … بقشعريرة تَسْري في جسده … فانتابه القلقُ من أن يكون مقبلًا على نوبةِ بردٍ حادة … وقرَّر أن يستعدَّ لها بكل ما يستطيع من أدوية … فهو يشعر أنه مقبلٌ على عملية جديدة مثيرة.
عبرَت «اللاندكروزر» الممرَّ القاطع لحديقة المقر … وقبل أن تبلغ الباب الخارجي … انفتح الباب تلقائيًّا … فانطلقَت السيارة لتعبرَه مغادرةً المقرَّ … وفي انحناءة واسعة دارَت حول سورِه الخارجي واختفَت … لتظهرَ مرة أخرى على الطريق الدائري الذي كان خاليًا إلا من سيارتَي نقلِ حاويات … فانطلق يتجاوزهما … ويُطلق العنانَ لعداد السرعة الذي تقافزَت الأرقامُ على شاشته ولم تهدأ إلا أمام مدخل جراج الفندق … إلى أن توقَّفَت تمامًا … فغادر «أحمد» السيارة ولم يوافق على ترك مفاتيحها لسائس الجراج … وفي خطوات رشيقة دار حول الفندق … حتى بلغ بابَه الرئيسي … فرأى الرجل الذي أتى خصيصًا ليقابلَه … يغادر سيارة مرسيدس حديثة سوداء … وقد وقف سائقها ممسكًا له بالباب أمام مدخل الفندق، فأكمل سيرَه إلى داخل الفندق وكأنه لم يرَه، وفي ركن هادئ باللوبي جلس ينتظره شاغلًا نفسه بالحديث في تليفونه المحمول وقد كانت على الخط معه «إلهام» التي كانت تنتظر مكالمته هذه، فقالت له: أنت الآن في الفندق وتجلس وحدك في اللوبي في انتظار حضور «البيرق» … أليس كذلك؟
ضحك «أحمد» من طريقتها في الحديث، وقال لها: وكأنكِ تقفين بالباب وترصدين ما يجري هنا …
فأكملَت «إلهام» في جدية شديدة: و«البيرق» ينزل الآن من سيارته المرسيدس السوداء التي فتح له بابها السائق …
ابتسم «أحمد» لمهارتها، وقال لها: لقد رأيته وأنا في طريقي إلى هنا … أما الآن فأنا لا أرى شيئًا خارج الفندق.
فأكملَت «إلهام» قائلة: إنه يقف الآن مع موظف الاستقبال وينظر إليك … حيث أشار له الموظف.
خفض «أحمد» من صوته، وقال لها مندهشًا: إنكِ بارعة.
فخفضَت من صوتها تُقلِّده وقالت له: إنه في الطريق إليك … هل أتمنى لك التوفيق؟
فَهِم «أحمد» أنها تريد أن تُنهيَ المكالمة … فقال لها: إلى اللقاء …
نهض «أحمد» واقفًا في وقار … ومدَّ يدَه يُصافح «البيرق» … إنه رجلٌ ضخم كثيفُ شعر الرأس … أسود … مهيب الطلعة … أنيق في فخامته.
شدَّ الرجل على يد «أحمد» بحرارة … وانحنى ليجلس، فتهدل شعرُه على جبينه وكان «أحمد» يرمقه بإمعان … وقد لاحظ هو ذلك … فنظر له مبتسمًا قبل أن يستويَ جالسًا …
جاوب «أحمد» ابتسامتَه بسؤال مفاجئ قائلًا: أشعر أننا التقَينا قبل ذلك …
لم تفارق الابتسامةُ وجهَ «البيرق» وهو يقول: كنت أتمنَّى ذلك …
«أحمد»: تقصد أنه لم يحدث؟
سوَّى الرجلُ خصلاتِ شعره بأصابعه وهو يقول: هل التقينا لقاءً عابرًا لا أذكره أنا؟
رمقه «أحمد» متأملًا وهو يقول: لم يكن لقاءً عابرًا.
ابتسم الرجل ثم قطَّب ما بين حاجبَيه وقال في لهجة حاسمة محاولًا إنهاء الموقف: أنا لا أذكر أني قابلتُكَ من قبل.
اعتدل «أحمد» في جلسته ثم شبَّك أصابعَ يدَيه ونظر إلى الأرض مفكرًا … ثم رفع رأسَه ونظر إلى «البيرق»، وقال له: لقد طلبتَ مقابلتي … هل يمكنني مساعدتُك؟
البيرق: بالطبع … وإلا ما طلبتُ مقابلتك …
أحمد: أعرف أنك رجلٌ مهمٌّ في بلدك.
البيرق: أَرْأسُ أحدَ الأجهزة الأمنية في بلدي.
أحمد: وهل للقائنا علاقة بعملك؟
البيرق: نعم … فهو عملية اغتيال.
رجع «أحمد» إلى الخلف واستند بظهرِه على مسند المقعد الجالس عليه، وقال وهو يرمق الرجل بنظراتِ الشك: اغتيال مَن؟!
البيرق: اغتيالُ رئيسِ أكبرِ مجموعة شركات تمَّ دمجُها حديثًا.
تقلَّصَت عضلاتُ وجهِ «أحمد» وهو يسأل في اهتمامٍ وجدية شديدة قائلًا: وهل تعرفون سببًا لذلك؟!
وفي اندفاع قال «البيرق» وصوتُه يملؤه الأسى: هناك قوًى خارجية لا تريد لبلدنا أن يستقرَّ وأن ينموَ ويزدهر … هناك قُوًى خارجية لا تريد لسياستنا الخارجية أن يكون لها توجُّه قومي.
أحمد: تقصد التفريق بين العرب؟
البيرق: نعم … إنهم يريدون لبلدنا أن تنكبَّ على مشاكلها الداخلية … وأن تنشغلَ بمواجهة الإرهاب وحوادث الاغتيال والصراعات السياسية والعِرْقية والدينية.
أحمد: كلُّ هذا مفهوم … لكن أن يتطورَ الأمرُ إلى التخطيط لاغتيالِ رئيسِ المجموعة … فهذا هو الجنون بعينه!
البيرق: إنهم مجموعة كبيرة من العاملين بشركات المجموعة، قام الرئيس الجديد بتسريحهم … استقطبَتهم مؤسسةٌ أجنبية … ووفَّرَت لهم الدعم المادي والتدريب والسلاح … وقد وصلَتنا وتَصِلنا عنهم معلومات دائمة …
صمت «أحمد» لثوانٍ … وهو ينظر إلى «البيرق» الذي كان ينتظر منه ردًّا إيجابيًّا … وتسرَّب التوتُّر شيئًا فشيئًا إلى الرجل … فتململ في قعدته … ثم انتفض واقفًا … فلم يرفع «أحمد» رأسَه إليه، فأخذ يذرع المكان جيئةً وذهابًا إلى أن توقَّف فجأةً أمام «أحمد» واضعًا يدَيه في جيبَي بنطلونه وقال منفعلًا ولكن بصوت خفيض: أما ستُساعدنا أم لا …
باغتَه «أحمد» قائلًا: أليسَت هذه شئونًا داخلية … وليس لنا أن نتدخل فيها؟
البيرق: هذا إذا لم نطلب نحن منكم ذلك …
أحمد: ماذا تقصد بنحن؟!
البيرق: أقصد الرئيس وأنا وبعض المسئولين.
أحمد: وهل سأقابل الرئيس؟
البيرق: غدًا إن شئت …
أحمد: لا … لا … ليس الآن … سأحتاج لبعض الوقت لدراسة الأمر.
البيرق: هل يعني هذا أنك توافق على مساعدتنا؟
أحمد: بالطبع … ولكن بعد أن أقرأَ ملف العملية … أليس لديك ملفٌ للعملية؟
البيرق: نعم … نعم.
قال هذا … ثم أخرج أسطوانة مدمجة من الجيب الداخلي للجاكت الذي يرتديه، وناولها ﻟ «أحمد» الذي دسَّها بنعومة في جيبه ثم انتفض واقفًا وهو ينقل مفاتيح سيارته من اليد اليمنى إلى اليد اليسرى ثم مدَّ يده إلى «البيرق» فحيَّاه … على وعد باللقاء قريبًا …
غادر «أحمد» «الفندق» وحده … فقد عرَف أن «البيرق» ينزل في نفس الفندق … غير أنه وبعد أن عبَرَ كوبري «قصر النيل» تذكَّر أنه لم يَقُم بواجب الضيافة نحو الرجل، فقام بالاتصال به في الفندق … فاستمهله الموظف لثوانٍ إلى أن حوَّل له المكالمة … فأتاه صوتُ «البيرق» يقول: مرة أخرى أسعد بسماع صوتك سيد «أحمد».
ابتسم «أحمد» في ودٍّ وقال له: أهلًا بك سيد «بيرق»، لقد نسيتُ شيئًا مهمًّا للغاية.
البيرق: وما هو سيد «أحمد»؟
أحمد: أرجو أن أراك على الغداء غدًا …
البيرق: هل أعتبره غداءَ عمل؟
أحمد: لا، بل غداء ترحيب.
همس «البيرق» وتورَّد صوتُه، وقال شاكرًا معتذرًا: سيدي، دَعْني أشكرك كثيرًا على هذه الدعوة الكريمة … ولكني مرتبطٌ غدًا بمواعيد … أما عن ترحيبك فأنا أشعر به وأشكرك كثيرًا عليه.
كان «أحمد» قد اعتلى كوبري «مايو» عندما وضع الأسطوانة المدمجة في غرفتها الخاصة بكمبيوتر السيارة … وبالضغط على بعضِ الأزرار تداعَت بياناتُ ملفات نظام التشغيل … تَلَتْها سلسلةٌ لا تنقطع من الرموز الشفرية.
ومن وسط دهشته … همَّ بالاتصال بهذا «البيرق» وسؤاله عما يراه أمامه … إلا أنه آثر التروِّي حتى يرى نهاية هذا العرض الممل لهذه الرموز التي لا تنتهي ولا معنًى لها … وفي غيظٍ مدَّ يدَه ليُغلقَ الكمبيوتر ويُنهي هذه المهزلة … فاستوقفه مشهدٌ مثيرٌ لمجموعة من الرجال ترتدي رءوسَ حيوانات كاملة … وتُطلق على نفسها اسمَ «فهود الصحراء» … فقد كانت الأقنعة التي يرتدونها على شكلِ رأسِ فهد.
وكان زعيم هذه الجماعة يحمل لافتةً مكتوبًا عليها: «الموت هو الحل»! اندهش «أحمد» لما شاهده … وأغلق الكمبيوتر والحنق يخنقه … فها هي الأسطوانة لا تَشِي بشيء … فهل هذه الفهود هي كلُّ المعلومات التي يريد «البيرق» أن يُوصلَها له … من المؤكد أن هناك خطأً ما … نعم وعليه أن يكلِّم الرجل في الفندق مرة أخرى ليعرف منه كيف حدث هذا.
وعندما استدعى رقم تليفون الفندق من ذاكرة المحمول وظهر على شاشته انطلقَت الموسيقى الرقيقة تُعلنه أن هناك مَن يتصل به … إذن عليه أولًا أن يستقبل هذا الاتصال. وعبثًا حاول معرفةَ رقم الطالب … فلم يَصِل … فضغط زرَّ الاستجابة … ووضع التليفون على أُذُنِه منتظرًا سماعَ صوت طالبه … فلم يسمع إلا صفيرًا متقطعًا. مرة ثانية شرع في طلب الفندق … فانطلقَت موسيقى تليفونه من جديد … فظن أن سببَ ما جرى هو الشبكة، وقام بضغطِ زرِّ الاستقبال في صبر … فأتاه صوتُ «عثمان» قائلًا: هل ما زلتَ مع «البيرق»؟
أحمد: لا … أنا في طريقي إلى مقرِّ القيادة …
عثمان: هل المهمة لم تتحدَّد بعد؟
أحمد: العمليةُ كلُّها ما زالت في علم الغيب …
عثمان: وماذا كنت تفعل مع «البيرق»؟
أحمد: كان يختبر نوايانا …
عثمان: وهل اطمأنَّ لنا؟
أحمد: لا أظن …
عثمان: لماذا؟!
أحمد: لأنه سلَّمني أسطوانة مدمجة بها تفاصيل العملية … فوجدتُها فارغة …
عثمان: تقصد أن الأسطوانة الأخرى معه؟!
أحمد: نعم.