الهبوط بالمظلات!
برغم تحفُّظات «أحمد» على الاتفاق الأخير بين «البيرق» و«شهيب» وافق على النزول فوق السفينة … وبرغم سعادة «البيرق» بهذا … إلا أنه كان قلقًا للغاية مما قاله له «أحمد»، فعاد إلى «شهيب» وقال له: لقد وافق الجميع على اقتراحك يا «شهيب» … ولكنهم يشكُّون في أنها خطةٌ جديدة لاختطافي مرة أخرى.
شهيب: ولكنك موافق؟
نظر له «البيرق» طويلًا قبل أن يقول له: أوافق يا «شهيب».
ابتسم «شهيب» في زهوٍ واستعلاء … وأخرج من جيبه قلمًا أو ما يُشبه القلم وأخذ يضغط على بعضِ أزراره … وفي أُذُنَيه وضَع سماعة دقيقة … وانتظر لدقائق بدَت ﻟ «البيرق» طويلة …
مرة أخرى ضغط الأزرار وانتظر … ثم حانَت منه التفاتة إلى «البيرق»… فرآه ينظر إليه في قلق … فابتسم في دهاء وقال له: إني أدبِّر لك مقلبًا إلكترونيًّا مذهلًا …
ابتسم «البيرق» ابتسامةَ استسلام …
فضحك «شهيب» وقال له ساخرًا: أريدك هكذا مبتسمًا دائمًا … حتى أُنهيَ مهمتي … أجمل شيء أن تموت وأنت مبتسم!
لم يكن لدى «البيرق» حيلةٌ أخرى غير الانتظار، فقال له: أعطيتُك حياتي وتُدبِّر لموتي؟!
صاح «شهيب» معترضًا ومستنكرًا بقوله: لا … لا … لا تَقُل إنك أعطيتني شيئًا، الله هو الذي أعطاني الحياة، وكان بإمكاني أن أقتلَك … فاتفقتُ معك وعفوتُ عنك إلى حين.
ضحك «البيرق» وهو يقول له: إلى حين … أي أنك حقًّا تُدبِّر لموتي؟!
ابتسم «شهيب» ابتسامتَه الماكرة … ونظر له بطرف عينَيه ولم يُجِب.
فأكمل «البيرق» قائلًا: ومعنى ذلك سأستمرُّ معك إلى النهاية.
أصدر القلمُ صفيرًا حادًّا متقطعًا أثار أعصاب «شهيب» … فجعل يضغط أزراره في توتُّر ملحوظ … ولاحظ «البيرق» ذلك، فقال له: هل هناك مشكلة؟!
شهيب: إنهم يطلبون مائتَي ألف دولار ثمنًا للعملية.
نظر له «البيرق» غيرَ مصدق … مما أثار أعصابه … فصاح في حنقٍ قائلًا: إنها سفينتهم ومصدر رزقهم.
البيرق: ولكني الآن ليس لديَّ مائتا ألف دولار.
وبأسلوب التاجر قال له: كم معك من المبلغ؟
البيرق: عدة آلاف … ولكنها لا تَصِل إلى عشرين ألفًا.
نظر له «شهيب» نظرةً ذاتَ مغزًى وكأنه تذكَّر منصبَه، فقال له: ألستَ عميلَهم؟
البيرق: ماذا تعني؟
شهيب: اكتب لي شيكًا.
البيرق: وهل سيقبلونه؟
شهيب: سأُعطيهم ما معك من دولارات … وستعدني بدفع الباقي عندما نَصِل.
البيرق: أَعِدُك من الآن.
شهيب: إذن أنت تُوافق على المائتي ألف دولار؟
البيرق: أوافق على أن يكونوا تحت إمرتنا.
شهيب: سأُبلغهم بذلك.
وقام «شهيب» بفتح جهاز إرساله ووضع السماعة الصغيرة في أُذُنِه … وأجرى اتصالَه في عجلة.
ولم تمضِ إلا دقائق عندما تلقَّى اتصالًا منهم عبر قلمه … ردًّا على اتصاله بهم، ورفع رأسه بعدها متهللًا … وقال ﻟ «البيرق»: السفينة سوف تُرسل إشارات … أرجو من قائد الطائرة تتبُّعَها … إنها الآن قريبة من السواحل الفرنسية … غير أنها خارجُ المياه الإقليمية ﻟ «فرنسا»، أي أنها في المياه الدولية.
البيرق: وما المطلوب منا؟
شهيب: تتبُّع الإشارات الإلكترونية هذه لنَصِل إلى موقع السفينة.
وهنا رأى «البيرق» أن وجودَ «شهيب» في كابينة القيادة مهمٌّ للغاية … فصحبه إلى هناك وقام بالاتصال ﺑ «أحمد»، وطلب منه أن يظلوا على اتصال بهم … لمعرفة موقع السفينة، وأخبره في نبأٍ قصير أمْرَ المائتي ألف دولار الأجر المطلوب لتنفيذ العملية؛ فطمأَنَّ هذا الخبر «أحمد» إلى أن العملية لن يكونَ بها خيانة … ما داموا سيحصلون على أجرهم كاملًا …
تتبَّع قائد الطائرة الإشارات المرسلة من قيادة السفينة … إلى أن لاحَت عن بُعد سفينة من الطراز العتيق الذي بُنيَ أثناء الحرب العالمية الثانية، وقد كانوا يهتمُّون وقتَها بالمتانة أكثر مما يلتفتون للشكل … لذا فقد بدَت السفينة صلبةً وكأنها منحوتة من جبل من الحديد.
كانت الطائرتان «الميراج» قد ابتعدتَا بناء على طلب «البيرق» وموافقة القيادة العسكرية الفرنسية.
فظهرَت الطائرة «الشارتر» وحدَها في سماء المنطقة تقترب حثيثًا من السفينة … التي أطلق بحَّارتُها الخراطيشَ بمجرد أن رأَوها.
هلَّل «شهيب» عندما رأى السفينة … وتأكَّد من غلق حزام المظلة جيدًا … وكذلك «البيرق».
وما إن أصبحَت الطائرة فوق السفينة تمامًا … انفتح بابُ الطوارئ فدخل تيارٌ خارق من الهواء. كاد يطيح ﺑ «شهيب» وﺑ «البيرق» اللذَين وقفَا على حافته ينظرون في خوف إلى سطح المياه تحتهم وهم يُحلِّقون فوقها … في ارتفاع شاهق.
صاح «شهيب» في «البيرق» الذي كان يقف أمامه، وقال له: اقفز …
وتردَّد «البيرق» … ولم ينفذ أمر «شهيب» … وكأنه لم يسمعه … فناداه مرة أخرى، ثم صرخ فيه قائلًا: اقفز وإلا تسبَّبتَ في سقوط الطائرة.
ابتعدَت الطائرة عن سماء السفينة لمسافة ثم دارَت حول نفسها … وعادَت مرة أخرى لتُحلِّق فوق السفينة … و«شهيب» يصيح في غضب قائلًا: لماذا لا تقفز يا رجل … ماذا تنتظر …
وبصعوبةٍ تحدَّث «البيرق» قائلًا والهواء يدخل فمَه وفتحات أنفه: لماذا لا تقفز أمامي لتُشجِّعَني؟
التهبَت أعصابُ «شهيب» … وتقافز على أرضية الطائرة وهو يصيح قائلًا: هل تظنني كنت ضابطَ مظلات … إنني أول مرة أتعرَّض لهذا الموقف في هذه الأثناء … كانت الطائرة المقلَّة للشياطين تحلِّق في المكان … انتظارًا لابتعاد «الشارتر» … فعلَّق قائدها قائلًا عبر الإذاعة الداخلية للطائرة … أرجو أن ننتهيَ من هذا يا سيد «بيرق» وإلا فلْنَعُد إلى حيث أتينا مرة أخرى … وفي هذه اللحظة فقط … قفز «البيرق» في الهواء … ومن خلفه — وبعد تردد قليل — قفز «شهيب»، وتسابقَا في الهواء رغم إرادتهما … والخوف يعتصرهما … وابتعدَت «الشارتر» عن سماء السفينة، واتخذَت طريقَ العودة إلى الأجواء الفرنسية.
تحرَّكَت الطائرة المقلَّة للشياطين في اتجاه السفينة حتى صارَت فوقها … ولم تمضِ دقائق عندما عادَت مرة أخرى إلى الأجواء الفرنسية … هذا في الوقت الذي كان الشياطين يسبحون في الهواء فوق السفينة.
ورغم السرعة الرهيبة التي يسقطون بها في الهواء … إلا أن فكرة رهيبة جالَت بخاطرهم جميعًا … إنه تساؤل يقول: ماذا لو لم تلتقط إلا «شهيب» ثم غادرَت المكان وانطلقَت عائدةً من حيث أتَت؟
أليس هذا واردًا حدوثه … بالذات وقد أخبرهم «البيرق» أنه أعطاه حوالي عشرين ألف دولار وشيكًا بمائتي ألف …
ولو حدث هذا فسيُصبحون طعامًا للأسماك.
ونفس الفكرة جالَت في خاطر «البيرق» … فلو وصل «شهيب» قبله إلى السفينة فلن يَصِل هو إلا إلى الماء.
وكَبِرَت الفكرة في رأس «البيرق» وكَبِر معها الوهمُ والخوف من أن يصيرَ هذا حقيقة تكاد تُنسيه أمرَ المظلة … وأنه يجب أن يفتحَها لاقترابه من سطح السفينة … حتى تصايَحَ رجالُها يصرخون فيه قائلين: اجذب الحزام … شُدَّ الحبل … افتح المظلة … لا نريدك أن تموت هنا أيها الغبي!
تنبَّه «البيرق» للأمر … وجذب حبلًا مدلًّى من المظلة … فانفتحَت في اللحظة الحرجة … فساعدَت على اعتداله … وأصبحَت قدماه لأسفل … فتمكَّن من النزول واقفًا على سطح المركب … ومن خلفه «شهيب» يهبط واقفًا … فأحاط به رجالُ السفينة ورحَّبوا به بحرارة … فعرَّفهم على «البيرق»، فنظروا إلى «شهيب» في تساؤل قلق … فقال لهم: إنكم تُقدِّمون خدمة جليلة ﻟ «البيرق» ورجال الرئيس.
تقدَّم كبيرُهم جمْعَ الواقفين وربَّت على كتفه، وقال له: نحن ليس لنا شأنٌ بالرئيس ولا برجاله … نحن نريد نقودنا.
قدَّم لهم «شهيب» العشرين ألف دولار … فاحتدَّ عليه القائد، وقال في حنَقٍ: أتهزأ بي يا «شهيب»؟
شهيب: إن معي شيكًا بالمبلغ كاملًا من «البيرق».
القبطان: سيبقى «البيرق» هنا حتى تأتيَ النقود.
في هذه الأثناء كان الشياطين قد اقتربوا من أجواء المنطقة … فقال لهم القبطان عندما رآهم: مَن هؤلاء؟
– إنهم زملاؤنا.
القبطان: نحن لم نتفق على هذا العدد.
وأشار بيده إلى بحَّارته … وارتفع خوارُ محرك السفينة … وهدرَت الماكينات.
وشعر الشياطين أن في الأمر خدعة … وأن ما حسبوا حسابه يحدث الآن.
وانزعج «البيرق» وصرَخ فيهم وفي «شهيب» قائلًا: ستتركون هؤلاء لمَن؟
فصاح القبطان قائلًا: ليس لنا شأنٌ بهم … فنحن لم نتفق على حملِ كلِّ هؤلاء.
البيرق: أتحصلون على مائتَي ألف نظيرَ حملي أنا و«شهيب» فقط …
نظر له القبطان نظرةً سيئة … وقال له في وقاحة فجَّة: وهل أخذتُ منك سنتًا؟!
البيرق: لقد أخذتَ عشرين ألف دولار وشيكًا بمائتَي ألف …
القبطان: أنا لم أحصل إلا على العشرين … أما هذا الشيك فلا يساوي دولارًا واحدًا …
انتحى «شهيب» جانبًا بالقبطان ولم تمرَّ دقيقتان … إلا وكان الشياطين يتوافدون على السفينة سقوطًا.
لقد كانت «ريما» أولَ النازلين … وما إن حطَّت على سطح السفينة … حتى أحاط بها البحَّارة يُعينونها في خلعِ أحزمة المظلة … وقتَها شعرَت بسوءِ ظنِّها فيهم … وكذلك فعلوا مع «بو عمير»، إلا أن مظلة «إلهام» أبَى القبطان أن ينزعَها عنها أحدٌ غيره.
وقتَها شعر «أحمد» بالقلق … فهذا الرجل غير أمين على ركَّابه هذا ما يبدو من تصرفاته …
وأخيرًا هبط «أحمد» واقفًا بجوار القبطان … وتمكَّن وحدَه دون معاونة أحد من خلعِ أحزمة المظلة … والقبطان يُراقبه بنظرات مريبة.