تمهيد
(١) الأدب
الأدب — تاريخ الكلمة
تقلبت هذه اللفظة في العربية على ثلاثة أدوار لغوية، تتبع ثلاث حالات من أحوال التاريخ الاجتماعي؛ فهي لم تكن معروفة في الجاهلية وصدر الإسلام إلا بما يؤخذ من معناها النفسي الذي ينطوي فيه وزن الأخلاق وتقويم الطباع والمناسبة بين أجزاء النفس في استوائها على الجملة، وكل ما هو من هذا الباب، ومنه الحديث الشريف: «أدبني ربي فأحسن تأديبي» ولعل ذلك كان توسعًا منهم في أصل مدلول الكلمة الطبيعي، على ما هو معروف من أمرهم في اشتقاق اللغة وانتزاع بعضها من بعض؛ فإنهم يقولون: أَدَبَ القوم يأدِبُهم أدَبًا، إذا دعاهم إلى طعام يتخذه. والقوم أهل بادية مقفرة تأكل فيها الشمس حتى ظلها، وتشرب نسيمها وطلها، فإذا هلك فيها الزاد هلك حامله، وإذا لم يدفع عن نفسه بأسلحة فمه فالجوع قاتله؛ ولذلك تمدَّحوا من أقدم أزمنتهم بالقرى وعدوه من أعظم مفاخرهم؛ لأنه شريعة الطبيعة التي أدبتهم هذا الأدب، بل هو شعرها في أخلاقهم، إذ ارتقى بعد ذلك بارتقاء الشعر حتى تخرقوا فيه، كما يؤثر عن كرمائهم وأجوادهم مما استوعبته كتب المحاضرات.
فلما كان هذا الخلق مظهر الخيم الصالح فيهم، وحقيقة الأدب الطبيعي منهم، وأرقى معاني الإنسانية عندهم؛ لأنه ليس وراء إمساك الحياة على الحي غاية — توسعوا فيه بمقدار ما بلغوا من رقي الآداب، وجعلوه تعريفًا نفسيًّا كما مر؛ ولا بد أن يكون ذلك بعد أن ارتقوا في اجتماعهم، واشتبكت العلائق بينهم، حتى أخذت الفطرة الطبيعية تمتزج في أكثرهم بما يخالطها من صنعة الاجتماع، وكان ذلك سببًا في انتباههم إلى هذا الوضع؛ لأن الأدب على اختلاف معانيه إنما هو رد النفس إلى حدود مصطلح عليها اصطلاحًا وراثيًّا.
ثم لما جاء الإسلام ووضعت أصول الآداب، واجتمعوا على أن الدين أخلاق يتخلق بها، فشت الكلمة، حتى إذا نشأت طبقة المعلمين لعهد الدولة الأموية كما سيجيء، أطلق على بعض هؤلاء لفظ المؤدبين، وكان هذا الإطلاق توسعًا ثانيًا في مدلول «الأدب» لأنه اكتسب معنىً علميًّا إذ صار أثرًا من آثار التعليم.
ثم استفاضت الكلمة، وكانت مادة التعليم الأدبي قائمة بالرواية من الخبر والنسب والشعر واللغة ونحوها، فأطلقت على كل ذلك، ونزِّلت منزلة الحقائق العرفية بالإصلاح؛ وهذا هو الدور الثالث في تاريخها اللغوي، وهو أصل الدلالة التاريخية فيها.
وقال ابن خلدون في حد الأدب: «هذا العلم لا موضوع له ينظر في إثبات عوارضه أو نفيها، وإنما المقصود منه عند أهل اللسان ثمرته، وهي الإجادة في فني المنظوم والمنثور على أساليب العرب ومناحيهم، فيجمعون لذلك من كلام العرب ما عساه تحصل به الملَكَة، من شعر عالي الطبقة، وسجع متساوٍ في الإجادة، ومسائل من اللغة والنحو مبثوثة أثناء ذلك متفرقة يستقري منها الناظر في الغالب معظم قوانين العربية، مع ذكر بعض من أيام العرب ليُفهم به ما يقع في أشعارهم منها، وكذلك ذكر المهم من الأنساب الشهيرة، والأخبار العامة. والمقصود بذلك كله أن لا يخفى على الناظر فيه شيء من كلام العرب وأساليبهم ومناحي بلاغتهم إذا تصفَّحه … ثم إنهم إذا أرادوا حد هذا الفن قالوا: الأدب هو حفظ أشعار العرب وأخبارهم والأخذ من كل علم بطرف.» ا.ﻫ.
فهذا كما ترى ثبت لما قررناه؛ لأن كل ما عدُّوه من موضوع الأدب إنما هو مادة الرواية، وعلى ذلك يستحيل أن يكون معنى الأدب الاصطلاحي جاهليًّا، ولا أن يكون من مصطلحات القرن الأول؛ لأن الكلمة لم تجئ في شيء من شعر المخضرَمين ولا المحدَثين، وقد كانوا أهلها ومورثيها من بعدهم لو أنها اتصلت بهم أو كانت منهم بسبب. والعجيب أنك تجد لهم القوافي الطويلة على الباء وقد استوعبوا فيها الألفاظ، إلا مادة الأدب ومشتقاتها، مع أنه ليس أخف منها عند المتأخرين ولا أعذب ولا أطرب ولا أعجب، والسبب في ذلك ما ذكرناه وما نذكره.
وقد تناقل المتأخرون هذه الرواية عن العقد الفريد دون أن ينتبهوا لما فيها من فساد الدلالة التاريخية، ولكن الصحيح أن الكلمة لمحمد بن علي بن عبد الله بن عباس، كما أسندها إليه الجاحظ في كتاب البيان. ومحمد هذا هو أصل الدولة العباسية؛ لأنه أبو السفاح أول الخلفاء العباسيين، وتوفي سنة ١٢٥ وقيل ١٢٦، ومما يرجح فساد تلك النسبة إلى ابن عباس، قول عمرو بن دينار فيه: ما رأيت مجلسًا كان أجمع لكل خير من مجلس ابن عباس: الحلال والحرام، والعربية، والأنساب، والشعر. ولو كان لفظ الأدب معروفًا يومئذ لاجتزأ به وطوى فيه الثلاث؛ فالكلمة إذن من موضوعات القرن الثاني، أي بعد أن بلغت الدولة الأموية مبلغها من المجد العربي.
فلما فشت أسباب التكسب بين الشعراء في القرن الثالث، وبطلت العصبية التي كانت تجعل للشعر معنىً سياسيًّا فاتخذوه حرفة يكدحون بها، وجعلوه مما يُتَذَرَّعُ به إلى أسباب العيش، من جائزة خليفة أو منادمة أمير أو ما دون ذلك من الأسباب أيها كان — انتقل إليهم لقب الأدباء، للمناسبة بين الفئتين في الحرفة، ولم يلبثوا أن استأثروا به لتوسعهم في تلك الأسباب.
ثم جاء ابن بسام الشاعر المتوفى سنة ٣٠٣، فجعل «الحرفة» نَبْزًا، وأخرجها عن وضعها اللغوي إلى معنى مجازي غلب على حقيقتها واستبدَّ بها فأرسلها مثلًا. وذلك فيما رثى به عبد الله بن المعتز حين قتل في سنة ٢٩٦ ودفن في خربة بإزاء داره بعد جلال الإمارة وعزة الملك إذ يقول:
وهذا هو أصل الكلمة التي تعاورها الأدباء، واعتبرها الشعراء ميراثًا دهريًّا إلى اليوم، وإنما تناولها ابن بسام من لغة العامة، وطبعها على شيء من عبث أخلاقه التي بلغت من هجاء الأمراء والوزراء وذوي المكانة من الناس إلى هجاء أبيه وإخوته وسائر أهل بيته حتى سنَّها طريقة، فيقال لمن يقفو أثره في عبث اللسان: «إنه يجري في طريق ابن بسام.»
وقد ألَّف كشاجم الشاعر الرقيق، الذي كان طباخ سيف الدولة ابن حمدان، كتابه «أدب النديم» أودعه ما لا يستغني عنه شريف، ولا يجوز أن يخل به ظريف، وهو مطبوع مشهور. وعلى هذه الجهة قال أبو القاسم إسماعيل بن أحمد الشجري من شعراء القرن الرابع أيضًا، وقد جمع «حرَفَ» الآداب:
وكل ذلك إنما كان في تاريخ البلدين، أما الأعراب فلم يجر عليهم حكم الأدب، ولم يتناولوا الكلمة على اصطلاحها، وإنما اتخذ بعضهم لقب الأديب يتمدَّح به على جهة ما ينشأ عنه من معاني الرقة الحضرية التي تقابل في طباعهم الجفاء، ولوثة الأعرابية، كقول بعضهم، أنشده الجاحظ:
المؤدِّبون
وقد أشرنا إلى المؤدِّبين فيما سبق، ونحن ذاكرون طائفة منهم تتبعنا أسماءهم فيما بين أيدينا من كتب الأدب والتاريخ؛ لأنهم كانوا مادة هذه الكلمة، وإنما قيل لهم المؤدبون تمييزًا لهم من المعلمين الذين اختصوا بإقراء صبيان العامة في الكتاتيب، فإن هؤلاء لم يكن يطلق على أحدهم إلا لقب المعلِّم، وقد جعلوهم مثلًا في الحمق حتى قالوا: «الحمق من الحاكة والمعلمين والغزالين.» ثم جعلوا الحاكة والغزالين أقل وأسقط من أن يقال لهم حمقى … لأن الأحمق هو الذي يتكلم بالصواب الجيد ثم يجيء بخطأ فاحش، وليس عند هؤلاء صواب جيد في مقال ولا فعال، فبقي الحمق في عرفهم خاصًّا بالمعلمين.
أما المؤدِّبون فهم الذين ارتفعوا عن تعليم أولاد العامة إلى تعليم أولاد الخاصة أو أولاد الملوك المرشحين للخلافة، وأخذِهم بفنون الآداب: كالخبر والشعر والعربية ونحوها، ولذا كانوا يسمونها «علوم المؤدِّبين».
وكان المفضل الضبي يؤدب الواثق، وألزم المتوكل يعقوب بن السكيت المتوفى سنة ٢٤٤ تأديب ابنه المعتز، قالوا: فلما جلس عنده قال له: يا بني، بأي شيء يحب الأمير أن يبدأ من العلوم؟ قال: بالانصراف … ثم اختار المتوكل لتأديب المعتز وأخيه المنتصر — أبا جعفر بن ناصح، وأبا جعفر بن قادم، ومن ذلك العهد بدأ لقب المؤدِّب ينزل عن رتبته، إذ كانت العجمة قد فشت وضعفت النزعة العربية في الدولة، فختم تاريخ الأدباء — كما قيل — بثعلب والمبرِّد اللذين تخرَّج عليهما عبد الله بن المعتز، أما مؤدبه فكان أبا جعفر بن عمران الكوفي.
وقد ضربنا صفحًا على أدباء المعلمين ممن دارسوا أولاد الخاصة والأمراء؛ لأن فيما قدمناه كفاية على برهان ما ذهبنا إليه.
حالة الإنشاد
ولما شاع الغناء بعد الإسلام ووضعت قواعده صار تلحين الشعر مقصورًا على ما يغنى به منه في بعض أبيات من الرقائق إلا ما كان في بعض شعراء الأندلسيين، وسيأتي ذلك في موضعه.
(ولعل فعل أبي الحسن هذا على بساطته أول ما عرف من صنعة التمثيل في الإسلام، فإن الأصل في التمثيل على ما حققه علماء النفس هو تأدية المراكز العصبية المحركة للوظيفة العضوية لأن الأعصاب الممتدة من ظاهر الجسد إلى مراكز الجهاز العصبي، وكذلك هذه المراكز نفسها والأعصاب الممتدة منها إلى العضل، تكون جميعها آلة واحدة علائق أجزائها بعضها ببعض عضوية آلية، فمتى حركت من أي موضع تسرد سائر أجزاء وظيفتها الآلية سردًا.
وهم بذلك يحققون وجود ارتباط قوي بين الصور الذهنية والحركات العضلية، ويثبتون تفاعل الصور في الحركات والحركات في الصور.
فإذا مثلت هيئة الحزين، أي الحركات التي تبدو بها تلك الحالة النفسية وهي الحزن، وحركت العضلات الخاصة بها من الإطراق والدمع، أثرت هذه الحركات فيك حتى لتحزن حقيقةً، وبالعكس إذا جرت في ذهنك صورة مضحكة لا تلبث أن ترى عضلات الضحك والابتسام قد انفعلت بهذه الصور فتضحك أو تبتسم).
•••
وإنما عدت هذه الأربعة أصولًا لأنها تدور على فنون الرواية، وقد وضعت كتب كثيرة، وأشهرها كتاب العقد الفريد لابن عبد ربه الأندلسي وكتاب الأغاني لأبي الفرج الأصبهاني، وهو الكتاب الذي استوعب فيه أخبار العرب وأنسابهم وأشعارهم وأيامهم ودولهم، فكان أفضل ما يُتَأَدَّب به في العربية، وكثرت كذلك كتب الأمالي والتذاكر، وأعظمها أمالي ابن الشجري، وتذكرة الصلاح الصفدي، وللكلام في ذلك موضع نتولى فيه بسطه ونوفِّيه قسطه إن شاء الله.
(٢) العرب
هم جيل من الناس تدلت عليه الشمس منذ القدم في هذه الجزيرة التي كأنها قطعة انخزلت من السماء مع الإنسان الأول، فلا يزال أهلها أبعد الناس منزعًا في الحرية الطبيعية، وأشدهم منافسةً في مغالبة الهمم، كأنما ذلك فيهم ميراث الطبيعة الأولى، فهم منه ينبتون وعليه يموتون.
سكان الفيافي وتربية العراء، ينبسطون مع الشمس ويفيئون مع الظل ويطيرون في مهب الهواء؛ بل أولاد السماء، ما شئت من أنوف حمية، وقلوب أبية، وطباع سيالة، وأذهان حداد، ونفوس منكرة؛ وقد أصبحت بقاياهم الضاربة في بوادي العربية ومصر وسورية لهذا العهد، موضع العجب لأهل البحث من علماء الطبائع، حتى أجمعوا على أنه لا ند لهذا الجنس في جميع السلائل البشرية، من حيث الصفات التي تتباين فيها أجناس البشر خَلقًا وخُلُقًا، وحتى صرح بعضهم بأن هذه السلالة تسمو على سائر الأجيال، بالنظر إلى هيئة القحف وسعة الدماغ وكثرة تلافيفه وبناء الأعصاب وشكل الألياف العضلية والنسيج العظمي وقوام القلب ونظام نبضاته. فضلًا عما هي عليه من ملاحة السحنة وتناسب الأعضاء وحسن التقاطيع ووضوح الملامح، وفضلًا عما في طباعها من الكرم والأنفة والأريحية وعزة النفس والشجاعة.
لا جرم كانوا أهل هذه اللغة المعجزة التي ناسبتهم بأوضاعها في معاني التركيب، حتى كأنما كتب لها أن تكون دين الألسنة الفطري، لتصلح بعد ذلك أن تكون لسان دين الفطرة.
بلاد العرب
فالعربية عندهم خمسة أقسام كبيرة؛ اليمن: وهو إلى الجنوب، يحده البحر من ثلاث جهات، ويُحد من الجهة الرابعة بتهامة واليمامة والبحرين. ومن هذا القسم حضرموت وعمان والشَّحر ونجران.
وتهامة: وهي شمال اليمن وإلى شرق البحر الأحمر وغرب الحجاز.
والحجاز: وهو جبال انتثرت فيها المدن والقرى، وأشهر مدنه مكة والمدينة.
ونجد: وهو بين الحجاز والعراق العربي غربًا وشرقًا، وبين اليمامة والشام جنوبًا وشمالًا، وهذا القسم أطيب أرض في بلاد العرب، ولذا كانت بواديه من معادن الفصاحة.
واليمامة، وهي بين اليمن ونجد جنوبًا وشمالًا، وبين الحجاز والبحرين غربًا وشرقًا.
وأحسن ما انتهى إلينا مما هو خاص بوصف البلاد العربية على نحو عهدها الجاهلي، هو كتاب «صفة جزيرة العرب» للهمداني المعروف بابن الحائك المتوفى سنة ٣٣٤، فقد رحل إليها ووصفها كما رآها واستقصى في ذلك وبالغ إلى حد التحقيق.
أصل العرب
ليس من شأننا في هذا الكتاب أن نستغرق ما قيل عن العرب وأصلهم ومنشئهم، وما حققه من ذلك علماء البحث من المتأخرين الذين استثاروا الدفائن واستنطقوا الآثار واستخرجوا تاريخ الحياة من القبور، ولا أن نستوفي معاني الاجتماع العربي مما يدخل في العادات والأديان ونحوها، فذلك مما يحتمل المجلدات الكثيرة، وهو منحى تبعد الصلة بينه وبين ما نحن بسبيله من آداب اللسان، ولذلك نلم بهذا المعنى مكتفين منه بما تمس إليه حاجة التحديد وما تُوفَّى به فائدة هذا التمهيد.
العرب أحد الشعوب السامية، نسبة إلى سام بن نوح، وهي الأمم التي ذكرت التوراة أنها من نسله، وتسمى لغاتها باللغات السامية أيضًا، كالعربية والعبرانية، والسريانية، والحبشية، والآرامية، وغيرها، وهي تسمية استحدثها بعض المتأخرين من علماء اللغات.
وقد اختلف الباحثون في منشأ تلك الشعوب الذي امتهدته وتفرقت منه، فذهب بعضهم إلى أن مهد الساميين الحبشة في أفريقيا، وقال آخرون: بأن مهدهم جزيرة العرب. والقائلون بهذا الرأي أكثر نفرًا وأعز أنصارًا، ولهم في ذلك آراء أخرى متنوعة الأدلة، ولكن مما لا يمترون فيه أن العربية كانت أبعد آفاق التاريخ التي أضاء فيها كوكب الحضارة المشرق، وقد تحققوا ذلك بما اكتشفوه سنة ١٩٠١ للميلاد في بلاد السوس من آثار دولة حمورابي، وهي المسلة التي دونت عليها الشريعة البابلية في ٢٨٢ نصًّا، وما ثبت لهم من أن هذه الدولة عربية، وهي تبتدئ سنة ٢٤٦٠ق.م. وبهذا الاكتشاف قُضي للجنس العربي أنه أسبق الأمم إلى وضع الشرائع، وأنه بلغ طبقة عالية في الحضارة سقطت دونها الشعوب القديمة؛ بل يذهب الأستاذ صموئيل لاينج في كتابه «أصل الأمم» إلى أن الساميين استوطنوا بلاد العرب، وأنهم حيثما وجدوا في غيرها فهم غرباء، وأن تقدمهم في الحضارة مُعرِق في القدم، ربما كان زمن تحول العصر الحجري، فتحولوا يومئذ عن الصيد والقنص إلى الزراعة والصناعة، وهو يشير بذلك إلى «الدولة المعينية» التي جاء ذكرها في سفر الأخبار الثاني — الإصحاح ٢٦ عدد ٧؛ وقد عثر الباحثون على أمة بهذا الاسم ذكرت في أقدم آثار بابل سنة ٣٧٥٠ق.م. على نصب من أنصاب النقوش المسمارية.
وبالجملة فإن أصل العرب من أصول التاريخ الإنساني التي ألحقها الله بغيبه، فلا يجليها لوقتها إلا هو، وفوق كل ذي علم عليم.
طبقات العرب
المؤرخون على أن العرب قسمان: بائدة، وباقية؛ ويسمون البائدة بالعرب العاربة، على التأكيد للمبالغة — كما يقال: ليل لائل، وصوم صائم، وشعر شاعر، يؤخذ من لفظه فيؤكد به — وذلك لرسوخهم في العروبية كما يقولون.
ويقسمون البقية إلى قسمين: يسمون الأول بالعرب المستعربة؛ لأنهم ليسوا بصرحاء في العروبة ولا خلَّصًا، بل هم استعربوا بانتقال الصفات العربية إليهم ممن قبلهم، وهم من بني حمير بن سبأ؛ ويسمون القسم الثاني بالعرب التابعة للعرب، وهم قضاعة وقحطان وعدنان وشعبيها العظيمين: ربيعة ومُضر.
وقد يطلقون على القسم الأول من قسمي العرب الباقية: القحطانية، والسبئية، والحميرية، والكهلانية، واليمنية، والكلبية. وعلى القسم الثاني: الإسماعيلية، والعدنانية، والمعدِّية، والمضرية والقيسية.
العرب البائدة
وقد حقق أهل البحث من المتأخرين شيئًا من تاريخ بعض القبائل البائدة، وعينوا أزمنتها، مستندين في ذلك إلى التوراة، وما ذكره قدماء الجغرافيين، ثم إلى ما اكتشفوه آخرًا من الآثار في طرفي الجزيرة؛ وليس ذلك من غرضنا فنكتفي بالإيماء إليه.
القحطانية
وهم عرب اليمن، ينسبونهم إلى يعرب بن قحطان، وهو المذكور في التوراة باسم «يارح بن يقطان»، وقحطان — عند نسَّابة العرب — بن عابر بن شالح بن أرفخشذ بن سام بن نوح.
ويعرُب هذا هو الذي يزعم العرب أنه أصل اللغة الفصحى، قال حسان بن ثابت:
وفي تاريخ هذه الطبقة القحطانية عند العرب تخليط كثير لا سبيل إلى تخليص الحقيقة منه، وقد عرف أهل البحث من علماء المتأخرين — بما أصابوه من الآثار في أطلال اليمن وبعض أطلال أشور وغيرها — أنه قامت في اليمن ثلاث دول كبرى كلها ذات شأن: وهي المعينية، والسبئية، والحميرية. والمعينيون أبعد في القدم من قحطان، ولم يعرفهم مؤرخو العرب ولا عرفوا الدولة السبئية؛ وهم يرمون مع ذلك تاريخ الحميرية بالسقم والتفكيك لأنهم كانوا في عصور متعاقبة وأحقاب متطاولة.
الإسماعيلية
ويبدأ تاريخهم في القرن التاسع عشر قبل الميلاد، ولكن العرب لم يقبضوا في أخبارهم إلا حوالي التاريخ المسيحي، أي من نحو سبعة قرون قبل الهجرة؛ ومنازلهم شمالي بلاد اليمن في تهامة والحجاز ونجد وما وراء ذلك شمالًا إلى مشارف الشام وإلى العراق، وهم ينسبون إلى إسماعيل عليه السلام، وخبر نزوله بالحجاز مذكور في التوراة، وقد تزوج هناك برعلة بنت مضاض أحد ملوك جرهم، وهي القبيلة التي ذكر جدها في التوراة باسم «الموداد».
وأشهر من يعرفه العرب من أعقاب إسماعيل: «عدنان»، وهم مختلفون في عدد الآباء بينهما، فيعدون من خمسة عشر إلى أربعين أبًا؛ وإلى عدنان ينتهي النسب الصحيح المجمع عليه الذي لا يتجاوزونه في عمود النسب النبوي.
وكان عدنان في القرن السادس قبل الميلاد، إذا صحت رواية ابن خلدون من أنه لقي بختنصَّر في غزواته للعربية بذات عرق، وقد خرج منه عك ومعد، وهما فرع العدنانية، ونزلت عك نواحي زُبيد إلى جنوبي تهامة، وبقيت منها بقية إلى الإسلام.
أما معد فهو البطن العظيم الذي تناسل منه عقب عدنان على ما هو مفصل في مواضعه من كتب الأنساب، فارجع إليها إن شئت الاستيعاب.
العرب والأعراب
لعلماء اللغة كلام مسهب في وجه تسمية العرب بهذا الاسم، وقد استوفى الزبيدي قسمًا منه في شرحه على القاموس، ولا فائدة في جميعه؛ لأن مداره على اشتقاق اللفظة من «عَرَبَة» التي قالوا إنها باحة العرب — واختلفوا بين أن تكون مكة أو تهامة — أو ارتجالها كغيرها من أسماء الأجناس؛ أو هم سموا كذلك لإعراب لسانهم، أي إيضاحه وبيانه، لأنه أوضح الألسنة وأعربها عن المراد بوجوه من الاختصار.
والصحيح أن اللفظة قديمة يراد بها في اللغات السامية معنى البدو والبادية، وتلك خصيصة العرب في التاريخ القديم. وقال بعض الباحثين: إنهم سموا بذلك حين نزحوا عن أرضهم الأولى — جهة العراق — إلى الجزيرة؛ لأن نزوحهم كان إلى الغرب؛ واللغة السامية الأصلية ليس من حروفها العين، فأصل اللفظة على ذلك «غرب»، وهو تخريج على النسبة كالذي خبط فيه علماء اللغة.
ثم حدثت من هذه اللفظة لفظة الأعراب، وذلك حين تحضرت القبائل فخصوا الكلمة بأهل البادية.
وقد صار لفظ الأعرابي بعد الإسلام مما يراد به الجفاء وغلظ الطبع، وكانوا يسمون ذلك في الرجل أعرابية، فيقولون للجافي منهم: ألم تترك أعرابيتك بعدُ؟ وبذلك خرجت الكلمة عن مطلق معنى البادية إلى معنى خاص يلازمها.
والأعراب يومئذ هم أهل الفصاحة، يلتمسهم الرواة ويحملون عنهم ويرون فيهم بقية اللغة ومادة العرب كما ستقف على تفصيله؛ وبهذا نزلوا من تاريخ الإسلام منزلة العرب من تاريخ الجاهلية في المعنى اللغوي.
هوامش
وابن قتيبة يعد العرب العاربة هم اليمن، ويسمي غيرهم المتعربة: أي الداخلة فيهم والمتعلمة منهم، ويقول أيضًا: إن القبائل القديمة تسع: طسم، وجديس، وعهينة، وضجم — بالجيم والحاء — وجعم، والعماليق، وقحطان، وجرهم، وثمود.