الأسباب اللسانية
أومأنا في الفصل السابق إلى هذه الأسباب، وأن العرب قد خُصوا بها لتكون معدلًا لألسنتهم، وهي أسباب طبيعية فيهم ما دامت اللغة بالقياس، وما دام قياس العربي قريحته، فهي تجعل حركات الألسنة على مقادير مضبوطة توزن الحروف التي تجرى عليها كما تميل كفة الميزان بمقدار ما يوضع فيه ثقلًا وخفةً.
وقد كان يسبق إلى ظننا أن هذه الجارحة اللسانية في العرب قد تكون ممتازةً في أصل تركيب الخلقة كما امتازت أدمغتهم عن أدمغة السلائل الأخرى؛ وكنا نعلل بذلك ما في منطقهم من الفخامة وما في حروفهم من لطيف الحس وسري المخرج وعجيب التركيب والترتيب؛ بيد أننا لما تتبعنا لغات القبائل واستقرينا لهجتها الباقية في كتب العربية، رأينا أنهم ليسوا سواء في هذه الميزة فإن لبعضهم لهجات رديئة وطرقًا شاذة في سياسة المنطق، كما سنبينه في موضعه، فرجح عندنا أن ذلك من عمل التنقيح وأنه صنعة وراثية في الألسنة جرت بها اللغة مجرى الكمال؛ وهي في بعض القبائل أظهر منها في البعض الآخر، وعلى حسب ذلك قسموها درجات في الفصاحة كما ستعلم.
غير أنه مما لا ريب فيه أن كل قبيلة كانت تهذب في منطقها باعتبار ما ألفته وعلى مقدار يكافئ طبيعة أرضها، راجعة في كل ذلك إلى الثقل والخفة؛ فكل ما رفضه العرب في الجملة أو عدلوا عنه إلى غيره من هيئات المنطق، فإنما فعلوه استثقالًا؛ وكل ما قبلوه أو عدلوا إليه فلخفته على ألسنتهم؛ وهذا مذهب كل من يستبطن أسرار لغتهم ويتتبع هيآتها وتراكيبها، حتى جعلوه في تقدير الكلام علة ما لا تظهر له علة.
قال ابن جني في فصل من كتابه «الخصائص» بعد أن ذكر علة عدل عامر وجاشم إلى عمر وجشم، مع تلك الأسماء المحفوظة التي تمنع من الصرف للعلَمية والعدل دون أن يكون هذا العدل في مالك وحاتم ونحو ذلك، ووجَّهها على أنهم لم يخصوا ما هذه سبيله بالحكم دون غيره إلا لاعتراضهم طرقًا مما طفَّ لهم — أي أمكن — من جملة لغتهم كما عنَّ وعلى ما اتجه، لا لأمر خص هذا دون غيره مما هذه سبيله، قال: «وعلى هذه الطريق ينبغي أن يكون العمل فيما يرد عليك من السؤال عما هذه حاله، ولكن لا ينبغي أن تُخلد إليها إلا بعد السبر والتأمل والإنعام والتصفح، فإن وجدت عذرًا مقطوعًا به صرت إليه واعتمدته؛ وإن تعذر ذلك جنحت إلى طريق الاستخفاف والاستثقال فإنك لا تعدم هناك مذهبًا تسلكه ومأمًّا تتورده.»
وبعد فالثقل والخفة أمران معنويان في اللغة لا يقدرهما إلا الذوق، وهو ليس من الصفات التي يُجمع عليها الناس؛ ثم إن الذين دوَّنوا اللغة لم يجمعوها إلا بعدما انطبعت الألسنة على لغة القرآن وجرت في نهجه، وبعد تنقُّل هذه اللغة في أدوار التهذيب حتى بلغت نهايتها من الكمال؛ فمن هاهنا تألف ذوق عام في تقدير لهجات القبائل المختلفة والتمييز بينها خفةً وثقلًا. وليس يخفى أن العلماء إنما دونوا لغات بعينها وتناولوا من اللهجات الأخرى نتفًا قليلة مما كان باقيًا لعهدهم، وذلك للحاجة إليه في العربية، ثم أغفلوا ما عداه فضلًا عن كثير لم يقع إليهم علمه؛ ولذلك تأتى لهم أن يحصروا أبنية الكلام وأنواع المستعمل منها والمهمل، وأن يضعوا قوانين وضوابط لتأليف الحروف حتى توافق «منطق العرب»، ومثل هذا لا ينهض به الدليل على أن ذلك كان شأن اللغة في كل القبائل جاهليةً وإسلامًا؛ فلغات العرب مختلفة، وكلهم كانوا يدأبون في تهذيبها متابعةً لسنة الكمال، راجعين في ذلك إلى موازين القرائح التي لا تميل بطبيعتها إلا مع الاستثقال والاستخفاف على ما يكون بين مقاديرها من التفاوت.
أمثلة من هذه الأسباب
- (١)
من العرب من يحرك آخر الكلمة بحركة الحرف الذي قبله مطلقًا في الفتح والضم والكسر، فيقول في «رُدَّ مالي»: «رُدُّ مالي» كما يقول: «عَضَّ» يحرِّك الضاد كتحريك العين، ويقول في نحو فِرَّ يا غلام واطمئنَّ واستعدَّ: «فِرِّ واطمئنِّ واستعدِّ» وهلم جرًّا.
- (٢)
وكذلك يفعلون إذا اتصل الفعل بضمير غير الهاء؛ فإن جاءت الهاء والألف فتحوا أبدًا؛ لأن الهاء خفيفة فكأنها لا تنطق، فيقولون: رُدَّها وأمِدَّها؛ يعتبرون أنفسهم لخفة الهاء المفتوحة عندهم كأنهم قالوا: رُدَّ وأمدَّ، والألف بالطبع تقتضي الفتحة.
وأما إن كانت الهاء مضمومة فإنهم يرجعون لطبيعتهم فيضمون ما قبلها، وعلى ذلك يقولون في «مَدَّهُ وعَضَّهُ» — كلغة العامة — وسمع الأخفش ناسًا من بني عقيل يقولون: «مَدِّه وعَضِّه».
- (٣)
زعم الخليل أن ناسًا من بكر بن وائل يقولون في نحو رددن ومرون ورددت ومررتُ: ردَّن ومَرَّنَ ورَدَّتُ ومَرَّتُ. وهذا الفعل المضاعف إذا كان آخره مفتوحًا نحو ردَّ ومدَّ، فالعرب مجمعون على الإدغام وذلك فيما زعم الخليل أولى به؛ لأنه لما كانا — أي الحرفان اللذان صارا حرفًا مشددًا — من موضع واحد، ثقل عليهم أن يرفعوا ألسنتهم من موضع ثم يعيدوها إلى ذلك الموضع للحرف الأخير؛ فلما ثقل عليهم ذلك أرادوا أن يرفعوا رفعة واحدة، وذلك قولهم: ردِّي وضارِّي، إلى سائر تصريف الفعل.
- (٤)
قال سيبويه: فإذا كان حرف من هذه الحروف — المدغمة — في موضع تُسكن فيه لامُ الفعل نحو رُدَّ «فعل الأمر»، فإن أهل الحجاز يضاعفون «لا يدغمون»؛ لأنهم أسكنوا الآخر، فلم يكن بد من تحريك الذي قبله لأنه لا يلتقي ساكنان؛ وذلك قولهم: اُردُدْ، وإن تُضارِرْ أُضارِرْ، وإن تستعدد أستعدد؛ يدعونه على حاله ولا يدغمونه. وأما بنو تميم فيدغمون المجزوم كما أدغموا إذا كان الحرفان متحركين، فيقولون: رُدَّ يا فتى، وإن تضارَّ أُضارَّ … إلخ. وهي اللغة المأنوسة في الفصيح.
- (٥)
قال سيبويه في باب ما شذ من المضاعف: إنهم يقولون: أحَسْتُ يريدون أحْسَسْتُ؛ وأحَسْنَ، يريدون أحْسَسْنَ. قال: وكذلك تفعل في كل بناء تُبنى اللام من الفعل فيه على السكون ولا تصل إليها الحركة: شبهوها بأقمت … فإذا قلت: لم أحس، لم تحذف؛ لأن اللام — أي آخر الفعل — في موضع قد تدخله الحركة ولم يبن على سكون لا تناله الحركة — أي كقولهم أحَسْتُ — فهم لا يكرهون تحريكها. وأورد من شاذ اللغة: ظِلْتُ، ومِسْتُ، وظَلْتُ ومَسْتُ، في ظَلِلْتُ ومَسَسْتُ: شبهوا الأولى بِخِفْتُ والثانية بِلَسْت، قال: ولم يقولوا لِسْتُ، ألبتة.
- (٦) وقال أيضًا: اعلم أن للعرب لغة مطردة تجري فيها فُعِل «المبني للمجهول» من رددت ونحوه، مجرى فُعل من قلت — أي على وزن قيل — وذلك قولهم: قد رِدَّ وهِدَّ. ورحبُت بلادُك وظلَّت — وأصل ذلك كله بالضم — وقد قال قوم قد رِدَّ فأمالوا الفاء — يريد أنهم ينطقون كسرة الراء كحرف e — ليُعلِموا أن بعض الراء كسرة قد ذهبت — لأن أصله على فُعل — كما قالوا للمرأة أُغزى، فأشموا الزاي «وجعلوا في كسرتها صوت الضمة» ليعلموا أن هذه الزاي أصلها الضم.
- (٧)
الواو إذا كانت مضمومة في أول الكلمة، فإن من العرب من يبدل مكانها الهمزة، فيقول: في نحو وُلد ووجوه: أُلد وأُجوه؛ وإذا اجتمع الواوان في كلمة فمنهم من لا يهمز فيقول في قؤول ومؤونة: قووُل ومووُنة: يجري الحركة على الواو الأولى؛ والذين يهمزونها إنما يرونها حرفًا ضعيفًا فيضعون مكانها حرفًا أجلد منها وهو الهمزة.
- (٨) إذا كانت الواو في أول الكلمة مفتوحة، فمنهم من يبدلها بالهمزة ولكن هذا في كلمات معدودة: كوجم، ووناة، يقولون: أجَم، وأناة؛ وهو ليس مطردًا. قال سيبويه: ولكن ناسًا كثيرًا يجرون الواو إذا كانت مكسورة مجرى المضمومة، فيهمزونها إذا كانت أولًا؛ من ذلك قولهم: إساءة، وإعاء، في وسادة ووعاء، وهكذا.١
- (٩)
من لغة بعضهم إدغام الهاء في الحاء — أي إخفاؤها عندها، وهذا الإخفاء يسميه سيبويه إدغامًا — وذلك كقول الراجز يصف ناقة:
كأنها بعد كلال الزاجرومَسحى مرُّ عقابٍ كاسريريد (ومسحه)، وشبيه بذلك قول بني تميم: محُم، ومحاؤُلاء: يريدون (معهم ومع هؤلاء) فيحولون العين حاءً ثم يدغمون الهاء فيها، وذلك لاستثقالهم أصله وإن كان خفيفًا على ألسنة مَن عداهم.
- (١٠) من نوادر باب الإدغام في كتاب سيبويه — وهذا الباب صفحة ممتعة من تاريخ الأسباب اللسانية عندهم واعتبارهم في التأليف مخارج الحروف ومرور الصوت وما هو أندى وأفشى وأخفى في السمع ابتغاء الخفة على ما ألفه كل قبيل من لغته الموروثة — قول بعضهم: ذهبَسَلمى وقسَّمعت، يريد ذهبت سلمى وقد سمعت، ويقولون: مزَّمان، ومسَّاعة، في (مذ زمان ومذ ساعة)، وأغرب من ذلك قول بعضهم: حدَّتُّهم، في حدثتهم (وهي العامية المعروفة اليوم) ومنهم من يقول: هشِّيء، في هل شيء. وهتُّعين في هل تعين، وقد وردت الكلمتان في الشعر.٢
ومراتب الثقل متفاوتة عند العرب، فقد يقل الشيء من الصحيح في كلامهم وإن كان له بعض نظائر من المعتل مثلًا، كراهية أن يكثر في كلامهم ما يستثقلون، وقد يطَّرِحونه لهذا السبب؛ وقد يقل عندهم ما هو أخف مما يستعملونه لتوهمهم فيه سببًا من أسباب الثقل، وقد يطَّرحونه وغيرُه أثقلُ منه في كلامهم لهذا التوهم عينه؛ وقد يدعون البناء من الشيء وهم يتكلمون بمثله في لفظ آخر. وذلك كله راجع إلى قياس القريحة المستقلة، فلا يتقيد العربي بمتابعة غيره ولا تقليده في منطقه ناظرًا إلى حقيقة المتابعة والتقليد، بل ذلك أمر طبيعي في جميعهم، يرجعون فيه إلى السليقة، وينزلون منه على حكم الغريزة؛ وقد رأينا سيبويه يقول في باب الإمالة من كتابه بعد أن أشار إلى اختلاف العرب، وأن منهم من يوافق غيره في الإمالة وقد يخالف كل واحد من الفريقين صاحبه، وأن تلك الموافقة ليست تقليدًا من بعضهم لبعض ولكنها طبيعية — قال: «فإذا رأيت عربيًّا كذلك «يخالف أو يوافق»، فلا تَرَيَنَّهُ خلَّط في لغته، ولكن هذا من أمرهم.»