معنى اختلاف اللغات
- (١)
ما يكون من تباين اللهجات وتنوع المنطق؛ وهذا رأس الأنواع؛ لأنه يشمل اختلافهم في إبدال الحروف وحركات البناء والإعراب واختلاف بناء الكلمة في اللغتين والتقديم والتأخير والحذف والزيادة ونحوها مما يرجع في جملته إلى صيغة الكلمة أو كيفية النطق بها. والعرب أنفسهم يعدون مثل ذلك من اللغات الأصلية التي تمثل نوعًا من أنواع الاختلاف الطبيعي فيهم؛ وقد رووا أن رجلًا قال لعمر بن الخطاب: ما ترى برجل ظحَّى بظبي؟ فعجب عمر ومن حضر، وقال: ما عليك لو قلت: ضحى بظبي؟ فقال الرجل: يا أمير المؤمنين، إنها لغة! فكان عجبهم من هذه أشد.
- (٢)
ما يكون من اختلاف الدلالة للفظ الواحد باختلاف اللغات التي تنطق به؛ ومن هذا النوع المترادف والأضداد وغيرهما مما سيأتي في محله، ورووا أن أبا هريرة لما قدم من دَوس عام خيبر، لقي النبي ﷺ وقد وقعت من يده السكين. فقال له: ناولني السكين! فالتفت أبو هريرة يمنة ويسرة ولم يفهم ما المراد بهذا اللفظ، فكرر له القول ثانيةً وثالثةً وهو يفعل كذلك، ثم قال: المدية تريد؟ وأشار إليها، فقيل له: نعم! فقال: أو تسمى عندكم سكينًا؟ ثم قال: والله لم أكن سمعتها إلا يومئذ، ودَوس بطن من الأزد.
- (٣)
ما يكون قد انفرد به عربي مع إطباق العرب على النطق بخلافه؛ وهذا أقل الأنواع. وإنما يعد من اختلاف اللغات، لجواز أن يكون ذلك وقع إليه من لغة قديمة طال عهدها وعفا رسمها؛ وقد رووا عن أبي حاتم أنه سأل أم الهيثم الأعرابية عن نوع من الحَبِّ يسمى «اسفيوش»: ما اسمه بالعربية؟ فقالت: أرني منه حبات! فأراها، فأفكرت ساعةً ثم قالت. هذا البحدق! ولم يُسمع ذلك من غيرها.
وعندنا أن لغات القبائل في اختلافها إنما هي درجات تاريخية في سلم النشوء والارتقاء، يُستقرى فيها سير التاريخ اللغوي من طبقة إلى طبقة؛ لأن هذه اللغات جرت من أول عهدها على اندماج النوع الأدنى منها في النوع الأرقى، واستمر ذلك بين العرب، فكلما انتشرت لغة أو لغات لقوم دون قوم تعاورها كلٌّ، وبهذا جعلت القبائل تدرج في سبيل الوحدة اللغوية العامة التي تقضي بها سنة الحياة، واعتبر هذا بما حصل آخرًا، فإنه لم يبق بين اللغات كلها إلا فروق جنسية، ثم لما ذهب عصر العرب وفسدت السلائق واختبل الكلام وأصبح اللسان تعليمًا، لم يبق من اللغة إلا اللغة، وأودعت تلك الفروق الجنسية في معرض التاريخ، على أن العلماء أنفسهم قد أضرحوا لهذه الفروق قبل أن تموت؛ وذلك لمكان القرآن من الوحدة اللغوية، فلم يكونوا يسمونها لغات إلا للدلالة على أنها مخالفة لما أطبق عليه أكثر العرب، وهو المعنى الاصطلاحي القديم منذ دونت اللغة.
روى أبو بكر الزبيري الأندلسي في طبقات النحويين: قال ابن نوفل: سمعت أبي يقول لأبي عمرو بن العلاء «توفي سنة ١٥٤»: أخبرني عما وضعت مما سميت عربية، أيدخل فيه كلام العرب كله؟ فقال: لا. فقلت: كيف تصنع فيما خالفتك فيه العرب وهم حجة؟ قال: أحمل على الأكثر وأسمي ما خالفني: لغات.
وقد نبهنا فيما سبق إلى أن العلماء إنما يريدون بلغات العرب ما كان باقيًا لعهدهم في ألسنة مَن أخذوا عنهم من القبائل، وهم أقوام يمكن حصرهم والإحاطة بلهجاتهم؛ ولذا ترى سيبويه يقول في مواضع من كتابه: هذا عربي كثير في جميع لغات العرب، وهذا عربي كثير في كلامهم، وذلك قول العرب سمعناه منهم؛ ونحو هذا مما يحقق أنهم يريدون باللغات ما بيناه؛ وكذا نقلنا عن صاحب المخصص في بعض المواضع أنهم يعتبرون لغة الحجازيين الأصل عند اختلاف اللغات، لأن أصل العربية إسماعيل عليه السلام؛ وهذا المعنى قد كشفه سيبويه في باب الإدغام من كتابه حين ذكر أن أهل الحجاز دعاهم سكون الآخر في المثْلين أن يبينوا في الجزم، فقالوا: ارْدُدْ ولا تَرْدُدْ، بخلاف بني تميم فهم يدغمون — قال: «وهي اللغة العربية القديمة الجيدة.» وسنشير إلى هذا المعنى ببيان أوسع فيما يلي.
ومما يريدونه: أن الخليفة الواثق المتوفى سنة ٢٣٢ لما قدم عليه أبو عثمان المازني سأله: ممن الرجل؟ فقال: من بني مازن. قال: أي الموازن أمازن تميم أم مازن قيس، أم مازن بيعة؟ قال: من مازن ربيعة. فكلمه الواثق بكلام قومه وقال: «باسبُك»؟ يريد: ما اسمك؟ لأنهم يقلبون الميم باءً والباء ميمًا، قال المازني فكرهت أن أجيبه على لغة قومي كيلا أواجهه بالمكر — لأن اسمه بكر — فقلت: بكر يا أمير المؤمنين! فأعجبه ذلك وقال لي: اجلس فاطبئن. يريد: اطمئن …
وبديه أن مثل هذه الاختلاف لا يتدارس ويجعل من رياضة اللسان ما لم يكن أهله في شباب أمرهم؛ لأن هرم لغة من اللغات لا يكون إلا بوشك انقراض أهلها أو تغير تاريخهم بما يشبه الانقراض، إذ تُفقد أكثر مميزاتهم الاجتماعية الأولى فكأنهم غير من كانوا.
تحقيق معنى اللغات في الاصطلاح
رأينا علماء اللغة وأهل العربية قد طرحوا أمثلة اختلاف اللغات في كتبهم فلا قيمة لها عندهم إلا حيث يطلبها الشاهد وتقتضيها النادرة في عُرض كلامهم، لأنهم لم يعتبروها اعتبارًا تاريخيًّا، فقد عاصروا أهلها، واستغنوا بهذه المعاصرة عن توريث تاريخها لمن بعدهم؛ ولو أن منهم من نصب نفسه لجمع هذه الاختلافات وإفرادها بالتدوين بعد استقصائها من لهجات العرب، وتمييز أنواعها بحسب المقاربة والمباعدة، والنظر في أنساب القبائل التي تتقارب في لهجاتها والتي تتباعد، وتعيين منازل كل طائفة من جزيرة العرب والرجوع مع تاريخها إلى عهدها الأول الذي يتوارث علمه شيوخ القبيلة وأهل أنسابها، لخرج من ذلك علم صحيح في تاريخ اللغة وأدوار نشأتها الاجتماعية، يُرجع إليه على تطاول الأيام وتقادُم الأزمنة؛ ولكان هذا يعد أصلًا فيما يمكن أن يسمى تاريخ آداب العرب، يفرِّعون منه ويحتذون مثاله في الشعر وغيره من ضروب الأدب.
ولكن القوم انصرفوا عن هذا وأمثاله لاعتقادهم أصالة اللغة، وأنها خلقت كاملة بالوحي والتوقيف، وأن أفصح اللهجات إنما هي لهجة إسماعيل عليه السلام، وهي العربية القديمة الجيدة كما قال سيبويه.
مع أن الرواة قد وضعوا كتبًا كثيرة ومصنفات ممتعة في قبائل العرب ومنازلها وأنسابها وأسمائها واشتقاق الأسماء وألقابها ومدحها وأشعارها وفرسانها وأيامها، ونحو ذلك مما يرجع إلى التاريخ المتجدد، فلو أنهم اعتقدوا اللغات بسبب من ذلك ولم يعرفوها بالوصف الديني الثابت الذي لا يتغير في حقيقته، لأجروها مجرى غيرها من آثار التاريخ ولكن ذلك الزمن قد طُوي بأهله، ولحق فرعه بأصله، فبقي ذلك الخطأ التاريخي كأن صوابه من بعض التاريخ الذي هو حديث الغيب!
نقول هذا وقد قرأنا ما بين أيدينا من كتب الفهرست والتراجم والطبقات على كثرتها، وتبينَّا ما يسرد فيها من أسماء الكتب والأصناف، عسى أن نجد من آثار أحد الرواة أو العلماء ما يدل على وضع كتاب في تاريخ لهجات العرب وتمييز لغاتها على الوجه الذي أومأنا إليه، أو ما عسى أن نستدل به على أنهم كانوا يعتبرون ذلك اعتبارًا تاريخيًّا؛ ولكنا خرجنا منها على حساب ما دخلنا فيه: صفر في صفر؛ ولم يزدنا تعداد أسماء الكتب علمًا بموت هذا العلم وأنه لا كتب له، للسبب الذي شرحناه من اعتبارهم أصالة العربية.
بيد أننا استفدنا تحقيق معنى اللغات في اصطلاحهم بما يقطع الريب ويمتلخ عِرق الشبهة فيما أيقنا به، فقد وجدنا كتَّاب التراجم والطبقات مجمعين في صنيعهم على أن اللغات إنما هي الشواذ والنوادر واختلاف المعاني للكلمة الواحدة باختلاف المتكلمين بها، وما يتعاور الأبنية من الاختلاف الصرفي والنحوي، لأن كل وجه من ذلك إنما هو أثر من لغة، وعلى هذا السبيل يقولون مثلًا: كان منفردًا في حفظ اللغات والآداب، وكان من شيوخ العلم عارفًا باللغات والإعراب، وكان حافظًا للتفسير والحديث ذاكرًا للأدب واللغات، وكان مبرزًا في علم العربية حافظًا للغات. وأوضح من هذا أننا رأينا لعمر بن شبة النحوي المتوفى سنة ٢٦٢ كتابًا سماه (الاستعانة بالشعر وما جاء من اللغات) ورأينا ياقوتًا يقول في ترجمة عمر ابن جعفر الزعفراني: «إنه متخصص بمعرفة علم الشعر والقوافي والعروض، وله كتاب — اللغات.» ونهاية البيان ما ذكره ياقوت أيضًا في ترجمة أبي مالك الأعرابي الراوية المشهور، من أنه يقال: إن أبا مالك هذا كان يحفظ لغات العرب. وقد فسر أبو الطيب اللغوي ذلك بأن المراد التوسع في الرواية والفتيا؛ لأن الأصمعي مثلًا كان يضيِّق ولا يجوِّز إلا أصح — اللغات — وغيره كأبي مالك يتوسع في ذلك ولا يرى حرجًا في نقل ما شذ وندر — كما سيأتي في بحث الرواية — وقرأنا كذلك أن لكثير من الرواة: كأبي عبيدة، وأبي زيد، والأصمعي، والفرَّاء، وغيرهم، مصنفات يتواردون جميعًا على تسميتها «بكتاب اللغات»؛ فهذا الإجماع دليل على تعيين المعنى وتحديده كما أسلفنا؛ ولكنا رأينا فيما استقريناه من أسماء المؤلفات، أن للحسين بن مهذب المصري اللغوي كتابًا سماه «كتاب السبب في حصر لغات العرب»؛ والذي يبادر الظن من معنى هذه التسمية — إن لم تكن لفظة «السبب» قد جيء بها للسجع — أن الكتاب يتناول الكلام عن تأثير القرآن في حصر اللغات وتغليب القرشية عليها؛ فإن كانت اللفظة للسجع فالكتاب في حصر ما يسمونه باللغات، من نحو المصنوع والضعيف والمنكر والمتروك والرديء والمذموم والحوشي والنوادر، إلى أمثال ذلك مما بوَّب على أكثره السيوطي في «المزهر»، وهو نفس ما تواضعوا عليه من معنى «اللغات» كما علمت، والله أعلم.