البقايا الأثرية في اللغة
الألفاظ في كل لغة من اللغات إنما هي أدوات الحياة الذهنية الخاصة بالنفس، كما أن مدلولاتها أدوات الحياة المادية الخاصة بالحواس؛ فالذهن يشبه أن يكون في علم الحياة كتابًا موضحًا بالرسوم: يقرر الحقيقة ويمثلها ويداخلها بين أجزائها، ولكنه لا يعطيها؛ فقد تعلم لذة الطعام إذا كنت جائعًا وتتصوره أقرب من فَوت ما بين اليد إلى الفم، وتتخيل منه كل ما تشتهي النفس، بل قد تجد طعمه ورائحته إذا كنت شاعرًا دقيق موضع الاتصال بين الحواس الظاهرة والباطنة؛ ولكن تلك المائدة الذهنية على كثرة ما وَسِعت وطيب ما احتوت، لا تعدل عندك لقمةً واحدة تلجْلج الفكين!
فالألفاظ مقصِّرة دائمًا عن بيان معانيها بيانًا يطابق نوع الخَلق ويوافق حالة الوجود، فإذا قيل أمامك: جاء زيد، وكنت لا تعرف مَن زيدٌ هذا، لم تعدُ أن تتمثل رجلًا من الرجال، ولكنك إذا عرفته تمثلت نوعًا من الخَلق متميزًا بحالة خاصة من أحوال الوجود؛ ومن هنا كان التاريخ — الذي هو بيان نفسي محض لا يؤدَّى إلا بالألفاظ — من المعاني الكلية المبهمة التي تثبت على قياس واحد من الحقيقة، بل لا بد فيها من الزيادة والنقص، لأن مرجعها إلى التصور، وهو مجموع ظلالٍ متقلِّبة على النفس.
ولو ذهبنا إلى المعارضة بين ألفاظ الحياة العربية الأولى وما اختصت به من المعاني. وبين هذه الحياة الحضرية ومستحدثاتها، لرأينا قسمًا كبيرًا من اللغة يتنزل منها منزلة البقايا الأثرية؛ لأننا لا نحتاجه ولا هو مما يعد فضلًا عن الحاجة فينتظر به وقتها؛ وذلك كأسماء الإبل وصفاتها الكثيرة، وكأسماء كثير من الحشرات وما جاءت به اللغات المتعددة، وهو كثير تطفح به معاجم اللغة؛ ولقد نرى أن ذلك مما يصح أن يسمى «لاتين العربية» قياسًا على اللغة اللاتينية التي لا يستعملها الأوربيون ولكن يشتقون منها أسماء المصطلحات التي تمس إليها الحاجة فيما يستحدثون من أمورهم؛ لولا أن «لاتيننا العربي» يحتاج منا إلى عربية تلائمه؛ فإن استحياء الماضي لا يكون إلا بالملاءمة بينه وبين روح الحاضر.
السبت | الأحد | الإثنين | الثلاثاء | الأربعاء | الخميس | الجمعة |
شيار | أول أهون | وأوهد | جُبار | دُبار | مونس | عَروبة |
المحرم | صفر | ربيع الأول | ربيع الآخر | جمادى الأولى | جمادى الآخرة |
المؤتمر | ناجر | خوان | وبصان | الحنين | ربى |
رجب | شعبان | رمضان | شوال | ذو القعدة | ذو الحجة |
الأصم | عاذل | ناتق | وعل | ورنة | برك* |
ومن الْمُمات عندهم لغاتٌ في التصريف: كقول الكسائي: محبوب، من حبَبْت، وكأنها لغة قد ماتت، كما قيل أدوم، ومِت أموت، وكان الأصل أن يقال: أماتُ وأدامُ في المستقبل — المضارع — إلا أنها قد تركت. ومن ذلك «ليس» الفعل الناقص؛ فإن بعضهم يظن مضارعه وأمره من الأفعال الْمُمات؛ وما عدوه متروكًا من أسماء العادة العربية لزوال معانيه في الإسلام: المِرباع: وهو ربع الغنيمة، وكان خاصًّا بالرئيس، ثم صار في الإسلام، الخمس. والنشيطة: وهي أن ينشط الرئيس عند قسمة المتاع الشيء النفيس يراه، إذا استحلاه. والفُضول: وهي فضول المقاسم كالشيء إذا قُسم وفضلت فضلة منه: كاللؤلؤة والسيف والدرع والبيضة والجارية؛ فكان ذلك من قسم الرئيس. وقد جمع هذه العادات كلها ابن غنمة الضبي في مرثيته لبسطام بن قيس إذ يقول:
أما الصفايا فبقيت في الإسلام، وخص بها النبي ﷺ، لأنه اصطفى في بعض غزواته من المغنم أشياء: كالسيف اللهذم والفرس العتيق، والدرع الحصينة، والشيء النادر؛ وذلك يسمى الصفيَّ، قالوا: وقد زال هذا الاسم بعد وفاته ﷺ.
والْمُمات من أسماء العادات شيء كثير يستجر الكلام إلى قسم من تاريخ العرب لا يسعه هذا الموضع؛ فقد كانوا أهل مُغاورات وإغرام بالمعاقرة والمياسرة ونحوها، ولكل ذلك أسماء وصفات، فنجتزئ بما ذكرناه، ولكن لا بد من التنبيه على شيء دقيق من هذا الباب، وذلك أنا لو تدبرنا الكلام الذي نستعمله لرأينا أشياء كانت من عادات العرب الخاصة بها ثم نقلتها الحضارة إلى معنى يناسبها بعد أن انتزعت منها الأصل التاريخي، فمن ذلك أن الواحد يقول: نحن فعلنا، وليس معه غيره، فلا يظن إلا أنه أراد تعظيم نفسه، وأنه ليس لهذا الاستعمال من أصل تاريخي في الكلام. وإنما الأصل أن العرب كانوا قبائل وجماعات، فكان الرئيس الذي له أتباع يغضبون لغضبه ويرضون لرضاه ويتداعون لألمه، كأنهم أجزاء من شخصه، يقول: أمرنا، ونهينا، وغضبنا، ورضينا لعلمه بأنه إذا فعل شيئًا فعله تُبَّاعه لا يخذلونه ولا يخالفونه، ثم كثرة استعمال العرب لهذا الجمع ملحوظة فيه تلك الدلالة، ثم استفاض في الكلام حتى صار الواحد من عامة الناس يقول وحده: قمنا، وقعدنا، لا يريد إلا المعنى الحضري المصنوع، وهو التعظيم الحقير …