اللغة العامية
وهذه هي اللغة التي خلفت الفصحى في المنطق الفطري، وكان منشؤها من اضطراب الألسنة وخبالها وانتقاض عادة الفصاحة، ثم صارت بالتصرف إلى ما تصير إليه اللغات المستقلة بتكوينها وصفاتها المقومة لها، وعادت لغةً في اللحن بعد أن كانت لحنًا في اللغة.
ولا بد للكلام على تأريخ العامية وشيوعها، من التوطئة ببعض القول في تاريخ اللحن؛ إذ هو أصلها ومادتها، بل هو العامية الأولى، لأنه تنويع في الفصيح غير طبيعي، بخلاف ما قد يشبهه من اللهجات العربية المختلفة كما ستعرفه.
اللحن وأوَّليته
والذي عندنا أن ذلك من (خرفشة النحاة) كما يقول ابن خلدون في تحذلقهم وتنطسهم، والصواب رأي الفريق الأول، لأن ما ذكره ابن جني في معنى التعليم والتلقين، فإذا ثبت أنهم يتصفحون وجوه الكلام ويتأملون مواقعه، لم يجز أن ينتقل لسان العربي عن لغة إلى لغة أخرى، ولا أن يُستدرج في بعض الكلام، ولا أن تضعف فصاحة الفصيح منهم، للزومهم طريقًا واضحًا ومَهْيَعًا معروفًا، وما كان بالتعليم لا يكون بالفطرة. وقد جاءت الروايات بكل ذلك عنهم، ولا سبب له غير الاختلاف الفطري الذي تبتدئه الوراثة وتكمله الطبيعة كما أومأنا إليه في محله.
فالصحيح أن الطباع العربية مختلفة قوةً وضعفًا. فمنها المتوقح الجافي، ومنها الرخو المضطرب، وبحسب ذلك تكون اللغة فيهم؛ وقد نقل ابن جني نفسه في موضع من كتابه أن العرب أشد استنكارًا لزيغ الإعراب منهم لخلاف اللغة، فقد ينطق بعضهم بالدخيل والمولَّد ولكنه لا ينطق باللحن. ثم قال في موضع آخر: إن أهل الجفاء وقوة الفصاحة يتناكرون خلاف اللغة تناكُرهم زيغَ الإعراب. ولم يأت هذا التفاوت — كما ترى — إلا من اختلاف الطباع الذي أشرنا إليه، فأحْرِ بما اتفقوا عليه أن يكون سببه في الطبع أيضًا؛ لأن الاختلاف في جهات من الشيء إنما يتميز بالاتفاق على جهات أخرى منه.
وبهذا الاعتبار نقطع بأن اللحن لم يكن في الجاهلية ألبتة، وكل ما كان في بعض القبائل من خَوَر الطباع وانحراف الألسنة فإنما هو لغات لا أكثر؛ وسنزيد هذا الموضع بيانًا في الفصل التالي.
هذه أوَّلية اللحن، كانت كما عرفت على عهد النبي ﷺ، وقد رووا أن رجلًا لحن بحضرته فقال: «أرشدوا أخاكم فقد ضل.» — ويروى: فإنه قد ضل — فلو كان اللحن معروفًا في العرب قبل ذلك العهد، مستقِرَّ الأسباب التي يكون عنها، لجاءت عبارة الحديث على غير هذا الوجه، لأن الضلال خطأ كبير، والإرشاد صواب أكبر منه في معنى التضاد. بل إن عبارة الحديث تكاد تنطق بأن ذلك اللحن كان أول لحن سمعه أفصح العرب ﷺ.
رقعة عبد الرازق
انتشار اللحن
ولما نشأ الجيل الثاني في الإسلام اضطربت السلائق، وذلك بعد أن كثر الدخيل، وعلِقتْه الألسنة لدورانه في المعاملات وتنزُّله من الاجتماع منزلة المعاني الثابتة، فانحرفت به ألسنة الحضر عن نهجها العربي، وخيفَ من تمادي ذلك على لسان العرب من الفساد؛ فوضع أبو الأسود الدُّؤَلي أصولَ النحو؛ ثم كان الناس يختلفون إليه يتعلمونها منه، وهو يفرِّع لهم ما كان أصَّله — وسنأتي على ذلك في موضعه — ومن خشيتهم فساد اللسان، كانوا يأخذون أولادهم بالإعراب أخذًا شديدًا، حتى كان ابن عمر (رضي الله عنهما) يضرب بنيه على اللحن تقويمًا لهم.
ثم فشا النحو بعد ذلك وتناوله الموالي والمتعربون، وصار يُعلَّم في المساجد، فانحصر اللحن القبيح الذي هو مادة العامية في الزعانف من الطبقات الوضيعة، كالمحترفين وأهل الأسواق. وكان الخطيب البليغ خالد بن صفوان — توفي في أوائل الدولة العباسية — يدخل على بلال بن أبي بُردة يحدثه فيلحن، فلما كثر ذلك على بلال قال له: أتحدثني أحاديث الخلفاء وتلحن لحن (السقاءات)؟ فكان خالد بعد ذلك يأتي المسجد ويتعلم الإعراب.
واشتهر النحو وغيره من العلوم التي وضعت لذلك العهد بأنها علوم الموالي؛ فكان يرغب عنها الأشراف لذلك؛ وقد روى المبرد في الكامل أن المنتجع قال لرجل من الأشراف: ما علَّمت وَلدك؟ قال: الفرائض. قال: ذلك (علم الموالي) لا أبا لك! علمهم الرجز فإنه يُهرِّت أشداقهم. ومر الشعبي (سمير عبد الملك بن مروان) بقوم من الموالي يتذاكرون النحو فقال: لئن أصلحتموه إنكم لأول من أفسده. وسنقول في الموالي بعد.
وفي الدولة المرْوانية العربية كان يعتبر اللحن من أقبح الهجْنة؛ لأن العرب يومئذ كانوا لا يزالون على حَميَّتهم الأولى، وكانت جماهيرهم تحضر مجالس الخلفاء والأمراء وتُنادي كل طائفة منهم باسم قبيلتها، فيقال مثلًا: لتقم همدان، ولتقم تميم، ولتقم هوازن، ونحو ذلك؛ وهم يريدون من حضر من هذه القبائل؛ فكان عبد الملك يستسقط من يلحن، قال العُتبي: استأذن رجل من عِلْية أهل الشام عليه وبين يديه قوم يلعبون بالشطرنج، فقال: يا غلام، غطِّها؛ فلما دخل الرجل فتكلم لحن، فقال عبد الملك: يا غلام، اكشف عنها الغطاء؛ ليس للاحن حُرْمة. ولحن محمد بن سعد بن أبي وقاص لحنة، فقال: حَسَّ! — كلمة تقال عند الألم — إني لأجد حرارتها في حلقي! وقد أحصوا الذين لم يُسمع منهم لحن قط في ذلك العهد، فعدوا منهم عبد الملك بن مروان، والشعبي، والحسن البصري، وأيوب بن القرية، وقال الحسن يومًا لبعض جلسائه: توضيت، فقيل له: أتلحن يا أبا سعيد؟ فقال: إنها لغة هذيل؛ وكان هذا الجواب أبْيَن عن فصاحته من الفصاحة نفسها.
وما صار الأمر إلى العباسيين حتى كانت العُجْمة قد فشت في الحضر وغلبت على السليقة، وأصبحت السلامة من اللحن لا تتهيأ إلا بالتصوُّن والتحفظ وتأمل مواقع الكلام، ولذا صاروا يشبِّهون اللسان الفصيح بأنه لسان أعرابي قح، وكانوا يسمون عثمان البتي النحوي (معاصر للأصمعي) عثمان العربي، من فصاحته واستقامة لسانه؛ ولكن أذى اللحن بقي ثابتًا في الغرائز القوية، حتى ذكروا أن الرشيد كان مما يعجبه غناء الملاحين في الزلالات إذا ركبها، وكان يتأذى بفساد كلامهم ولحنهم؛ فقال يومًا: قولوا لمن معنا من الشعراء يعملوا لهؤلاء شعرًا فيغنون فيه؛ فقيل له: ليس أحدٌ أقدر على هذا من أبي العتاهية، وهو في الحبس. قال أبو العتاهية: فوجه إليَّ الرشيد أن قل شعرًا حتى أسمعه منهم؛ ولم يأمر بإطلاقي، فغاظني ذلك؛ فقلت: والله لأقولن شعرًا يحزنه ولا يُسَرُّ به. ثم عمل شعرًا رقيقًا في الموعظة والتذكير بانصراف الدنيا وانصرام لذتها، يقول فيه:
ودفعه إلى من حفظه من الملاحين، فلما سمعه الرشيد جعل يبكي وينتحب، وكان من أغزر الناس دموعًا في وقت الموعظة، وأشدهم عسفًا في وقت الغضب والغلظة.
نقول: ولو أن أبا العتاهية لم يطرح ظل نفسه على ذلك الشعر وقتئذ وعمل على أن يصيب حقيقة غرض الرشيد، لكان أوَّل وضع في الإسلام للشعر الذي يسمى أغاني الشعب، ولجاء بعده من يأخذ في طريقه ويفتنُّ فيها حتى توضح أغاني الشعب الاجتماعية والسياسية على حقيقتها، ويكون ذلك من أرقى أبواب الأدب العربي، ولكن ظِلَّ الشاعر كان في ذلك الغضب ثقيلًا باردًا كأنه قطعة من ظلمة حبسه، أو كأنه ظل شيطاني لا ينبسط إلا ليطوي الأشعة المنبعثة من الأفكار الصالحة.
وكان المأمون يقول: أنا أتكلم مع الناس كلهم على سجيتي، إلا علي بن الهيثم، فإني أتحفظ إذا كلمته؛ لأنه يعرف في الإعراب. وعليٌّ هذا كان كاتبًا في ديوانه، وكان كثير الاستعمال لعويص اللغة، وله نوادر عجيبة في التشادق: دخل مرة سوق الدواب، فقال له النَّخَّاس: هل من حاجة؟ قال: نعم؛ أردت فرسًا قد انتهى صدره، وتقلقلت عروقه، يشير بأذنيه، ويتعاهدني بطرف عينيه، ويتشوف برأسه، ويعقد عنقه، ويخط بذنبه، وينقل برجليه، حسن القميص، جيد الفصوص، وثيق القصب، تام العصب، كأنه موج لجة، أو سيل حدور. فقال النخاس: هكذا كان فرسه ﷺ …!
لا جرم عُدَّ أمثال هؤلاء في الثقلاء؛ لأن هذا الفصيح في العامة أقبح من اللحن في مخاطبة الأعراب الفصحاء.
وقد ألَّف أبو الفرج النحوي المتوفى سنة ٤٩٩ كتابًا جمع فيه أخبار المتقعِّرين وساق نوادرهم.
على أن النحويين لم يكونوا كلهم من الفصحاء، بلهَ المتقعرين، ولا الرواة أيضًا، فقد كان حماد الراوية وهو في شباب الدولة العربية لحَّانة، حتى اعتذر عن ذلك في مجلس الوليد بن عبد الملك بأنه رجل يكلم العامة ويتكلم بكلامها.