طبائع الأعراب
فأفكر فيه ثم قال: رُدَّ عليَّ ذِكرَ (المسحوب)، حتى قالها مرات، فعلمت أن فصاحته باقية. ولا تجد الأعرابي ينطق بمثل هذا إلا إذا ضعفت فصاحته وبدأت سليقته تتحضر، فكأنما انصدع مفصل العربية من لسانه.
وقال في موضع آخر من (الخصائص): سألته يومًا — يعني الشجري — كيف تجمع دُكانًا؟ فقال دكاكين. قلت: فسرحانًا؟ قال سراحين … قلت: فعثمان؟ قال عثمانون، فقلت له: هلَّا قلت عَثامين؟ قال: أيْش عثامت؟ أرأيت إنسانًا يتكلم بما ليس من لغته؟
كذلك نقل عن أبي حاتم سهل بن محمد السجستاني (توفي سنة ٢٥٥) في كتاب الكبير في القراءات، قال: قرأ على أعرابي بالحرم: (طِيبي لهُم وحسْن مَآب) فقلت له: طُوبى … فقال: طيبي، فأعدت فقلت: طوبى، فقال: طيبي؛ فلما طال عليَّ قلت: طوُطوُ … فقال طي طي … وهكذا نبا طَبْعُ هذا الأعرابي إلا عن لحن قومه وإن كان غيره أفصح منه، ولم يؤثِّر فيه التلقين، ولا ثنى طبعه هزٌّ ولا تمرين!
على أن طبع العربي قد يجذبه إذا توهم القياس، ومن ذلك ما رواه صاحب الأغاني أن عُمارة بن عقيل الشاعر (في القرن الثالث وهو الذي يقال: إن الفصاحة خُتمت به في شعراء المحدثين) أنشد قصيدة له جاء فيها (الأرياح والأمصار) فقال له أبو حاتم السجستاني: هذا لا يجوز، إنما هو الأرواح، فقال: لقد جذبني إليها طبعي … أما تسمع قولهم رياح؟ فقال له أبو حاتم: هذا خلاف ذلك! قال: صدقت! ورجع إلى الصحيح. وقبله كان الفرزدق يلحن، وكان عبد بن يزيد الحضرمي البصري مُغرًى باعتراضه ونسبته إلى اللحن الحضري، حتى هجاه بقوله:
فقال له الحضرمي: لحنت … ينبغي أن تقول: مولى مَوالٍ، والفرزدق هو القائل:
قال ابن قتيبة: وأتعب أهل الإعراب في طلب العلة، فقالوا وأكثروا ولم يأتوا بشيء يُرتضى، ومن ذا يخفى عليه من أهل النظر أن كل ما أتوا به احتيال وتمويه؛ وقد سأل بعضهم الفرزدق عن رفعه هذا البيت، فشتمه وقال: عليَّ أن أقول وعليكم أن تحتجوا …!
•••
وبعد أن فشت العامية وغلبت على أكثر الجيل، لم يعد الأعراب الفصحاء يفهمون إلا عن أهل البصرة بسؤالهم من الرواة والعلماء، وكذلك كانوا لا يخاطبون العامة إلا بمحضرهم ومساعفتهم في (الترجمة)؛ والآثار من ذلك كثيرة نكتفي منها بما رواه الجاحظ في البيان، قال: رأيت عبدًا أسود لبني أسد قدم عليهم من شق اليمامة، فبعثوا ناطورًا، وكان وحشيًّا لطول تغرُّبه فى الإبل، وكان لا يلقى إلا الأكرة (الحراثين)، فكان لا يفهم عنهم ولا يستطيع إفهامهم، فلما رآني سكن إليَّ، وسمعته يقول: لعن الله بلادًا ليس فيها عرب … أبا عثمان، إن هذا العريب في جميع الناس كمقدار القرحة في جميع جلد الفرس؛ فلولا أن الله رق عليهم فجعلهم في حاشية لطمست هذه العجمان آثارهم!
وقد بقيت أشياء مما يصلح لهذا الباب أمسكنا عنها حتى يقتضيها مكانها في بحث الرواية.