العامية في العرب
قد علمت كيف بدأت العامية وكيف خرجت من اللحن، وأن ذلك لم يكن إلا في أوائل الإسلام؛ فلا عبرة بما يهجس به بعض أولئك الذين تراهم في مجازفتهم وتخرصهم كأنما يشرحون للناس (علم) الغيب. فيزعمون أن العامية كانت لغة بعض العرب في الجاهلية الأولى، وأن القوم كان لهم فصيح وعامِّي، معتلين لذلك بما عُثِر عليه من آثار بعض رعاة تلول الصفا وغيرهم مما يرجع إلى غابر أزمانهم، ثم ما وجدوه من المخطوطات التي جرت فيها كلمات تشبه الفصيح. ونحن نقول: إن كل ذلك لا يلحق العرب من سيئه شيءٌ؛ لأن أطراف الجزيرة لم تكن خالصة العروبة في القديم، بل كان أهلها مغلوبين على أمرهم؛ فلم يكن لهم من معنى اللغة إلا تعاور المنطق والاستبداد بالكلمات يتلقفونها ممن حولهم؛ لأن ملكات الوضع العربي فيهم غير صحيحة، وشروطه غير تامة، وليس كل عربي الجنس عربي اللسان: وإلا فما بال الحميريين ومن قبلهم من الأمم السالفة؟ فكما أن لهؤلاء لغة متميزة عن العربية الفصحى نشأت عن أسباب خاصة، كذلك يقال في غيرهم ممن تميزت لغتهم عن المضرية؛ ولا يذهبنَّ عنك أن هذه المضرية الفصحى لم تُخلق مضرية فصحى، بل مرت في أطوار زمنية هذَّبت منها وأخلصتها كما بيناه في موضعه، فلا يمكن أن يقال إنه كان للعرب فصيح وعامي، إلا إذا أجرينا عليهم أحكامنا وألزمناهم ما لزمنا من ضعف النظر وسوء التأول، واعتبرنا ما بيننا وبينهم من تقادم التاريخ كأنه سوادُ ليل خُتِم به الأمس!
وكل ما صح من ذلك قبل الإسلام حين فشت المضرية؛ أن الذين كانوا يسكنون الريف من العرب ويضربون على حدود الأعاجم، كانت ترق طباعهم وتلين ألفاظهم ويكثير الدخيل فيها، ومن ثَم لا يكون لهم جفاء الخُلَّص قوةُ ملكاتهم، واعتبر ذلك بعديِّ بن زيد العبادي الشاعر الذي نشأ في ديوان كسرى؛ فكل شعره فصيح لا لحن فيه، إلا أن رقة ألفاظه سوَّغت للرواة أن يحملوا عليه شعرًا كثيرًا مما يسهل وضعه ولا يباين ديباجته الحضرية فيصعب تمييزه في النسبة.
ومما نذكره ثبتًا لما نحن فيه، أن الرواة قد جاسوا خلال البادية بعد الإسلام بقليل، وضربوا في أطرافها، وشافهوا القبائل، ونقلوا عنهم كثيرًا من الشاذ والدخيل والوحشي والمتروك، ورأيناهم عدُّوا ذلك جميعه لغات، بل كانوا يجعلون الاحتجاج بلغاتهم على نسبة بُعدهم من قريش التي هي سُرَّة العرب، فاعتبروا لغة قريش أصلح اللغات وأصرحها، لبعدهم عن بلاد العجم من جميع جهاتهم، ثم من اكتنفهم من ثقيف وهذيل وخزاعة وبني كنانة وغطفان وبني أسد وبني تميم، ثم تركوا الأخذ عمن بَعُدَ عنهم من ربيعة ولخم وجذام وغسان وإياد وقضاعة وعرب اليمن؛ لمجاورتهم الفرس والروم والحبشة، فاعتدوا لغاتهم غير صريحة لذلك؛ وهم على كونهم أغفلوا أمرها قد نقلوا منها أشياء كما مر في لهجات العرب؛ فلو أنهم عرفوا لهم عامية أو ما هو في حكمها، لأشاروا إليها في بعض الروايات، ولما صح أن يعدُّوا ما نقلوه عنهم في باب اللغات؛ هذا على أنهم أدركوهم وقد تتابعت أجيالهم وانثالوا أواخر على أوائل في مخالطة الأعاجم وملابستهم، فلأن ينزهوا عن العامية في جاهليتهم أوْلى.
وما زالت لغات العرب جارية على سنن الفطرة، معتبرة في حكم اللغات المستقلة — على ما يكون في طبقات كلامهم من الجزل والسخيف والمليح والحسن والقبيح والسميج والخفيف والثقيل، وذلك كما قال الجاحظ: كله عربي، وبكلٍّ قد تمادحوا وتعايبوا — ما زالت لغاتهم على ذلك حتى خالطوا السوقة في الأمصار الإسلامية، ونشأت أجيالهم على سماع العرب والعامة، فأخذوا من هؤلاء وهؤلاء، وكان ذلك سريعًا في ألسنتهم؛ ففسدت السليقة العربية فسادًا عربيًّا أحال منطقهم، وقد كانت مخالطتهم للأعاجم أبقى على فطرتهم، لأنهم إنما يعربون وينقلون عنهم، ولكنهم لا يحكمونهم في المنطق، بخلاف أمرهم مع العامة؛ ولكل شيء آفة من جنسه؛ لهذا رأينا الجاحظ يعد أقبح اللحن في زمنه لحن الأعاريب النازلين على طرق السابلة وبقرب مجامع الأسواق؛ ومن هنا دب الفساد في ألسنتهم بما يدور على مسامعهم من رطانة السوقة ولحن البلديين، ثم ما يتعاطونه من هذا الشأو في مخاطبتهم التي بها قوام المعاملات.
فلا سبيل إلى القول إذن بأن للعرب فصيحًا وعاميًّا، إلا بعد فشوِّ هذا الفساد العربي في منطقهم منذ القرن الخامس، أما ما وراء ذلك في بادية العرب فلحن أو لغة لا أكثر.