علوم اللغات
عني أهل العلم في أوربا منذ القرن التاسع عشر للميلاد بالبحث في مظاهر العقل
الإنساني بحثًا علميًّا مبنيًّا على قواعد وأصول مقررة كسائر العلوم الأخرى، فدرسوا
الأديان والعادات، ولما أرادوا مقابلة ذلك بعضه ببعض لتعيين المواضع المتداخلة منه،
اضطروا إلى مراجعة اللغات والبحث فيها؛ فنشأ من ذلك علمان أحدهما: سموه علم اللغات
(La philologie). والثاني: علم الأساطير
ومعارضتها (La mythologie comparee)، وبذلك وضع
الأستاذان «كريم» و«بوب» علمًا يبين أصل اللغات وتحولها.
ثم لما وقفوا على لغات الشعب الصينية وقابلوها بلغات الأمم الفطرية التي درسها
«المرسلون» المنبئون في كل قاصية، وضع الأستاذ «همبولدت» علمًا عامًّا سماه دراسة
اللغات (Linguistique)، وأول المشتغلين بهذه العلوم
وأشهرهم من الألمان، وإن كان قد فكر فيها قبلهم بعض العلماء من الفرنساويين.
وقد أمكنهم بعد ذلك حين بالغوا في الاستقراء والتقصص، أن يرودا اللغات إلى أصول
وأنواع، حتى أوقعوا عليها أحكام «المذهب الدارويني في النشوء والارتقاء، بالتغير
والانتخاب الطبيعي»، فبحثوا في سلسلة التحول لكل لغة ودأبوا على تحصيل الصورة
المتوسطة بين الصورتين المتشابهتين، وهم لا يزالون في جد ذلك وهزله، ليردوا ما عرف
من لغات البشر كلها إلى أصول قليلة، ثم ينبشون بعد ذلك «الجد اللغوي» من قبره
القديم في مغارة التاريخ.
ولم نجد لأحد من علماء العربية في التاريخ الإسلامي كله بحثًا يشبه ما وضع من تلك
العلوم، حتى ولا في لهجات العرب أنفسهم ومعارضة بعضها ببعض؛ لأنهم لم ينظروا إلى
اللغة بالعين الزمنية «التاريخ» التي تطمح إلى كل أفق، بل أخذوها على المعنى الديني
الثابت الذي لا يتغير. وجعلوا عاليها سافلها، فاعتبروا أصل الفصاحة إسماعيل عليه
السلام، وأن لغته درست من بعده، ثم كانت في القرآن الكريم والبلاغة النبوية وهما
أفصح ما عرف من الكلام
١ إلا أن قليلًا منهم، كأبي علي الفارسي، وتلميذه ابن جني، والزمخشري؛ قد
أصابوا من ذلك محزًّا جرت فيه أقلامهم؛ وكان أسبقهم إلى الغاية ابن جني، فإنه بحث
في وضع اللغة ونشأتها وحكم اشتقاقها ومقابلة موادها بعضها ببعض، وستمر بك أشياء من
ذلك في مواضعها إن شاء الله. على أن هذا القليل الذي جاءوا به، إنما كان بعد أن
استفاضت المقالات واستحر الجدال بين أهل «الألسنة العريضة» من علماء الكلام، فتحرك
المعنى الديني الثابت الذي سبق الإيماء إليه، وكان أثر ذلك في اللغة ما عرفته، ثم
عاد الأمر كما بدأ.
وقد اختلف العلماء في عدد اللهجات التي يتكلم بها أنواع الإنسان، فهي عندهم بين
٤٠٠٠ و٦٠٠٠، وأحصاها بعضهم في قارات الأرض، فعد في أوربا ٥٨٧ وفي آسيا ٩٣٧ وفي
أفريقيا ٢٧٦ وفي أمريكا ١٦٢٤ فذلك ٣٤٢٤ لهجة.
يريدون باللهجات الأنواع التي نشأت من لغة واحدة بالأسباب الاجتماعية، كأنواع
العربية المتحضرة مثلًا، ومنها عامية مصر والشام والمغرب … إلخ.
وكذلك أحصى بعضهم عدد الكلمات في بعض اللغات المعروفة، فذكروا أن كلمات اللغة
الإنجليزية لا تقل في عهدها الحديث عن (٢٥٠ ألف) كلمة، وتليها الألمانية (٨٠ ألفًا)
فالإيطالية (٤٥ ألفًا) فالفرنساوية (٣٠ ألفًا) ثم الأسبانية (٢٠ ألفًا)؛ أما اللغات
الشرقية فأوسعها العربية، وهي تتألف من (٨٠ ألف) كلمة، ثم الصينية ويستعمل فيها
عشرة آلاف علامة يتألف منها (٤٩ ألف) كلمة مركبة، ثم التركية وهي تحتوي نحو (٢٣
ألف) كلمة، ثم لغة هاواي وفيها زهاء (١٦ ألف) كلمة، ثم لغة الكفر وذكروا أنه ليس
فيها إلا (٨ آلاف) كلمة، ثم لغة غالا الجديدة، وقالوا: إنها تتألف من ألفي كلمة لا
غير. على أن ذلك كله إنما يقال وينقل تشقيقًا للبيان، لا تحقيقًا للبرهان.
هوامش