الرحلة إلى البادية
وأقدم من عرفنا ممن رحلوا إلى البادية: يونس بن حبيب الضبيّ، المتوفى سنة ١٨٣، وقد جاوز المائة فيما قيل، وخلف الأحمر المتوفى سنة ١٨٠، والخليل بن أحمد المتوفى سنة ١٧٥، وأبو زيد الأنصاري المتوفى سنة ٢١٥ عن ٩٣ سنة، وهو أكثر أهل هذه الطبقة أخذًا عن البادية، وكان له بذلك ميزة على صاحبيه: الأصمعي، وأبي عبيدة، حتى قيل: إن الأصمعي جاء يومًا إلى مجلسه فأكبَّ على رأسه وجلس، وقال: هذا عالمنا ومعلِّمنا منذ عشرين سنة؛ ولقد أراد أبو زيد هذا مرة أن يعرف بابًا من الصرف ويتبين من منطق العرب ما هو أولى بالضم وما هو أولى بالكسر من باب فَعَل (بفتح العين) الذي قالوا فيه: إن كل ما كان ماضيه بفتح العين، لم يكن ثانيه ولا ثالثه حرفًا من حروف اللين والحلق، فإنه يجوز في مضارعه ضم العين وكسرها، وليس أحدهما أولى به من الآخر ولا فيه عند العرب إلا الاستحسان والاستخفاف، كقولهم: نَفَرَ ينفِرُ وينفُرُ، وشتم يَشتِم ويشتُم … إلخ؛ فطاف أبو زيد لذلك في عُليا قيس وتميم مدة طويلة، يسأل عن هذا الباب صغيرَهم وكبيرَهم، قال: فلم أجد لذلك قياسًا، وإنما يتكلم به كل امرئ منهم على ما يستحسن ويستخف لا على غير ذلك.
ولما جاءت الطبقة الرابعة التي أخذت عن هؤلاء، أخذوا عنهم التلقِّي عن العرب في باديتهم؛ إذ صار ذلك سنة وبابًا من أبوباب الكفاية عندهم؛ ومن أقدمهم وأسبقهم إليه: النضر بن شميل المتوفَّى سنة ٢٠٤، فإنه أخذ عن الخليل بن أحمد وعن بعض الأعراب الذين أخذت عنهم الطبقة الثالثة، وأقام بعد ذلك بالبادية أربعين سنة؛ ثم الكسائي المتوفَّى سنة ١٨٩ (على الأكثر)، فإنه أخذ عن الخليل، ثم خرج إلى بوادي الحجاز ونجد وتهامة، ورجع وقد أنفد خمس عشرة قِنِّينَةً من الحبر في الكتابة عن العرب سوى ما حفظ!
واستمروا يرحلون إلى البادية إلى أواخر القرن الرابع، ثم فسدت سلائق العرب كما فصلناه في بابه، وبذلك انقطعت مادة الرواية عنهم، واكتفى الناس بآثار أسلافهم التي حوتها الكتب؛ وإنما كان العلماء بعد ذلك يسألون بعض الأعراب المتوسمين بشيء من جفاء البادية ممن لم تُنسَخ فيهم الفطرة نسخًا، وكانوا يستروحون إلى ذلك ولا يأخذون به، وبقي هذا الأمر إلى منتصف القرن السادس، ونقلوا عن الزمخشري المتوفى سنة ٥٣٨ بعض كلمات مما سألهم فيه، ولكن لم ينقلوا أن أحدًا اعتدّ هذا وأمثاله من اللغة، وأجراه مجرى الرواية، ولا يمكن أن يكون ذلك.
فصحاء الأعراب
وقد قلنا في فرق ما بين العربي والأعرابي في موضع ذلك من صدر هذا الكتاب، ورأينا العلماء وأهل اللغة في الإسلام يضربون المثل بفصاحة الأعراب وخلوص لغتهم وما لهم من بارع اللفظ وسَرِيّ المخرج والعارضة الشديدة واللسان السليط، ثم ما يحمل عليها من طبع جاف متوقِّح غير بكيء، ولا منزور، وفطرة سليمة لا تُنازع إلى غير الصواب، ولا يصرفها عنه صارف من سوء العادة أو الضعفة الحضرية، إلى ما يكون من هذا الضرب.
والبلغاء في الصدر الأول إنما كانوا يتكلفون أن يحكوا الأعراب في مقامات الكلام، يبتغون من وراء ذلك بعضَ ما يردُّه التقليد والحكاية من تلك الصفات؛ وكان أفصح الناس إنما يرى منزلته منهم أن يجري على ما سبق إليه من أعراقهم؛ فهو منهم بطبيعته دون موضع الغاية وعلى حدّ المقربة في منزلةٍ بين المنزلتين. ولا نفيض هنا في هذا المعنى وأدلته، فقد أسلفنا منه أشياء، وسنأتي على بقيته في باب الخطابة، وإنما نكتفي بهذا الإيماء لأنه سبيل ما نحن فيه.
كان الأعراب يطرءون من البادية على الحضر، فيتلقّاهم الرواة بما اختلفوا فيه، يعترضون حجته في منطقهم، ويتلقفون أدلته من أفواههم، ويتحملون عنهم بالنوادر وما إليها، ومنهم طائفة كانوا ينزلون الأمصار العربية ويقيمون بها، فيأنسون إلى الرواة ويسكنون إلى مسألتهم، ثم ينتهي الأمر بهم إلى أن يصيروا أساتذة القوم في الفُتيا ومَرْجِعَهم في الخلاف، لا يتبرمون بذلك بل يتصدرون له، لأنهم يخشون على ألسنتهم من طول المكث في الحضر، فلا ينفكون يذاكرون الرواة؛ إذ لا يجدون غيرهم من سائر الناس، وهم الذين يسمونهم فصحاء الأعراب.
ويبتدئ تاريخهم منذ مسّت الحاجة إليهم في الطبقة الثانية من الرواة عند تفريع النحو وقياسه كما أشرنا إليه، ولذا لم نَرَ لأحد من هؤلاء الأعراب اسمًا مذكورًا قبل أبي خيرة، وأبي الدّقَيش، ورؤبة بن العجاج الراجز، وأبي المهدي، وأبي المنتجع وأضرابهم ممن أخذت عنهم تلك الطبقة.
ولما كثر تردد الأعراب على الرواة ومذاكرتهم إياهم، أقبل بعضهم على الطلب والرواية عن العلماء والتلمذة لهم؛ ولم نقف على أحد فعل ذلك قبل أبي مِسحَل الأعرابي الذي قدم من البادية، وأخذ النحو عن الكسائي المتوفَّى سنة ١٨٩، وروى شعراً كثيرًا في الشواهد عن علي بن المبارك، ثم صنَّف في النوادر والغريب؛ أما قبل ذلك فكان فصحاء الأعراب إنما يُلِمُّون بالرواة إلمامًا، كالذين كانوا يقصدون منهم حلقة يونس بن حبيب بالبصرة، وكان بعضهم يقف على حلقة أبي زيد الأنصاري يسأله عن أشياء من العربية تظرفًا لا حاجةً.
ومتى طال مكث الأعرابي في الحضر ضعفت طبيعته ورَقَّ لسانه؛ فإذا آنس منه الرواة ذلك وضعوا له الأقيسة الفاسدة يمتحنونه بها كما مَرَّ في موضعه، وإذا وجدوه قد صار يفهم الكلام على لحن أهل الحضر — فضلًا عن أن يحكيه مثلهم — نبذوه؛ لأن الأصل أن لا يفهم هذا اللحن إلا من زاوله ودار على سمعه حتى ألفه؛ وقال الجاحظ (توفي سنة ٢٥٥): «إنهم لا يفهمون قولهم: ذهبت إلى أبو زيد، ورأيت أبي عمرو …» ثم قال: «ومتى وجد النحويون أعرابيًّا يفهم هذا وأشباهه، بهرجوه ولم يسمعوا منه؛ لأن ذلك يدل على طول إقامته في الدار التي تُفسِد اللغة وتنقض البيان؛ لأن تلك اللغة إنما انقادت واستوت واطّردت وتكاملت، بالخصال التي اجتمعت لها في تلك الجزيرة، وفي تلك الجيرة، ولفقد الخلطاء من جميع الأمم، ولقد كان بين يزيد بن كثوة يوم قدم علينا البصرة وبينه يوم مات بَوْنٌ بعيد؛ على أنه قد كان وضع منزله في آخر موضع الفصاحة وأول موضع العُجمة (تأمل)، وكان لا ينفك من رُواةٍ ومذاكِرين.»
وقد سُقنا مُثلًا من أسئلة الأعراب في بعض الفصول التي تقدمت، ونسوق هنا بعضها توفيةً لفائدة هذا الفصل.
روى المبرد في الكامل، أن الأصمعي شك في لفظ اسْتَخْذَى (خضع)، وأحب أن يستثبت: أهي مهموزة أم غير مهموزة، قال: فقلت لأعرابي: أتقول استخذيت أم استخذأت؟ قال: لا أقولهما! فقلت: ولمَ؟ قال: لأن العرب لا تستخذي (لا تخضع)!
وقال الجاحظ: سمعت ابن بشير وقال له المفضل العنبري: إني عثرت البارحة بكتاب وقد التقطته وهو عندي، وقد ذكروا أن فيه شعرًا، فإن أردته وهبته لك. قال ابن بشير: أريده إن كان مقيَّدًا (مشكولًا)، قال: والله ما أدري أكان مقيدًا أو مغلولًا … قال الجاحظ: ولو عرف التقييد لم يُلْتَفَتْ إلى روايته.
ومهما جهدْتَ بالأعرابي أن ينطق بغير لحن قومه وإن كان أفصح منه، فإنه لا يستطيع إلا مِنْ ضَعف؛ لأن تقليده في الصواب كتقليده في الخطأ، واللغة إنما تؤخذ عن السليقة، وهي سنَّة واحدة.
قال الأصمعي: جاء عيسى بن عمر الثقفي ونحن عند أبي عمرو بن العلاء فقال: يا أبا عمرو، ما شيء بلغني عنك تجيزه؟ قال: وما هو؟ قال: بلغني أنك تجيز: ليس الطيب إلا المسكُ (بالرفع)، قال أبو عمرو: نمتَ وأَدْلَجَ الناس! ليس في الأرض حجازي إلا وهو ينصب، ولا في الأرض تميمي إلا وهو يرفع، ثم قال: قم يا يحيى، يعني اليزيدي، وأنت يا خلف، يعني خلف الأحمر، فاذهبا إلى أبي المهدي (أعرابي الحجاز)، فلقِّناه الرفع فإنه لا يرفع، واذهبا إلى أبي المنتجع (أعرابي تميم)، فلقناه النصب فإنه لا ينصب.
قال: فذهبا فأتيا أبا المهدي فإذا هو يصلي، فلما قضى صلاته التفت إلينا وقال: ما خطبكما؟ قلنا: جئنا نسألك عن شيء من كلام العرب، قال: هاتيا، فقلنا: كيف تقول: ليس الطيب إلا المسك (بالرفع)؟ فقال: «تأمراني بالكذب على كبر سني»! فقال له خلف: ليس الشراب إلا العسل، قال اليزيدي: فلما رأيت ذلك منه قلت له: ليس ملاك الأمر إلا طاعة الله والعمل بها، فقال: هذا كلام لا دَخل فيه، ثم أعادها بالنصب، فرفعا ثانية، فقال: ليس هذا لحني ولا لحن قومي. قالا: فكتبنا ما سمعناه منه، ثم أتينا أبا المنتجع فلقَّنَّاهُ النصب وجهدنا به، فلم ينصِب، وأبى إلا الرفع.
وإذا قال الأعرابي شعرًا وأخطأ فيه على مصطلح أهل العروض، وإن كان قد ذهب في نفسه مذهبًا، فهيهات أن يفهم الصواب أو يذكر الوجه الذي ذهب إليه إلا بالتلطف في سؤاله والحيلة على إفهامه.
قال ابن جني في الخصائص: أنشدنا أبو عبد الله الشجري لنفسه شعرًا مرفوعًا يقول فيه يصف البعير:
ومطلت الصوت (أي مَدّ الهمزة)، ثم يقول مع ذلك:
فأحسن حينئذ وقال: أهذا …؟ أين هذا من ذاك؟ إن هذا طويل وذاك قصير. فاستروح إلى قِصَر الحركة في (حاجبه)، وأنها أقل من الحرف في (أسماءُ، والسّماء).