الوضع والصنعة في الرواية
المراد بالموضوع والمصنوع: ما كان كذبًا مصمتًا أو صدقًا مشوبًا ببعض التلبيس. والصدق والكذب من أخلاق الناس، تبعث على كليهما البواعث، وهذا في رأي أهله متى صادف موضعه وتعلق بأسبابه، كذاك في رأي أهله متى أصاب حقه وقرَّ في نصابه؛ وإن كان الصادق يرى أنه قد استبرأ لدينه وأمانته، والكاذب يرى أنه قد حمل على ذمته ما لا حيلة له في التقصي منه، وأنه قد تابع هواه، وأضلّه الله على علم. وإنما يدور هذا الأمر بين العلماء وأهل الرواية على الاستهتار بالغريب، والولوع كلَّ الولوع بالطُّرف والنوادر، وعليهما يكون إقبال العامة، وبهما تكون كثرة الأتباع؛ وما زال هوى الناس في كل جيل معقودًا بأطراف الطرائف، وإن فسد بها العلم واتهمت الكتب الصحيحة، ومن كان ذلك شأنه لا يقف على فرق ما بين التصحيح والتصحيف، والتوكيد والتوليد؛ فهو يُداخل الغَثَّ في السمين، والممكن في الممتنع، ويتعلق بأدنى سبب إلى ما يشبِّهه حقًّا، ثم يدفع عنه كل الدفع، كما يدفع أهلُ الحق عن الحق، ومن ثم لا تتهيأ له الدلالة التي تقوم بأمره، ولا الشهادة التي تقطع فيه، إلا بعد أن يضرب حق ذلك بباطله، ويُموه بصفات حاليه أمر عاطله؛ وبين ذلك إلى أن يبلغ مبلغه ما يكون قد تورّك عليه وتكلف له وذهب فيه مذاهب البواطيل كلها. ومن شؤم الكذب أنه لا يستغني منه شيء بنفسه إلا افتضح، ولذا تحتاج الكذبة الواحدة في إثباتها إلى كذب كثير!
وضربٌ آخر من الرواة يرجع أمرهم في الوضع إلى التلبيس على الناس، تعنتًا وتكلفًا للأثرة! أو مكابرة في إقامة الحجة وإنهاض الدليل؛ فهؤلاء يتقذَّرون من الكذب استغناءً بأنفسهم وصونًا لأقدارهم، ولكنهم يكدّون أنفسهم للمنافسة، ويستكرهونها على الظهور والغلبة، وتلك سَورة تذهب بالتحفظ، وتصدّ عن التوقي، وهيهات أن يكون الأمر فيها مقدارًا عَدْلًا مع تلك الرغبة الجائرة. ومن هذا بكى الكسائي وهو ما هو في علماء هذه الأمة، حتى قال فيه الشافعي: من أراد أن يتبحر في النحو فهو عيال على الكسائي. قال الفراء: دخلت عليه يومًا وكان يبكي، فقلت له ما يبكيك؟ قال: هذا الملك يحيى بن خالد يوجه إليّ ليحضرني فيسألني عن الشيء، فإن أبطأت في الجواب لحقني منه عتب، وإن بادرت لم آمَنْ من الزلل! قال الفراء: فقلت له: يا أبا الحسن، من يعترض عليك؟ قل ما شئت فأنت الكسائي …؟ فأخذ لسانه وقال: قطعه الله إذن إذا قلتُ ما لا أعلم.
وبالجملة فإن آفة الرواية رقة الأمانة؛ وللعلم طغيان لا يقوم له شيءٌ إذا كان سبب ذلك في طبع النفس ومذهبها؛ ولذا جعلوا أهل العربية كأهل الحديث، فعدّوا منهم أهل الأهواء وأهل السنّة؛ وسيمر بك تفصيل لهذا المعنى.
وقد تناول الوضع مأثور اللغة والشعر والخبر، ونحن قائلون في ثلاثتها، ونجعل لكل فصل من القول بحسبه.