اللغة العامة وأصلها العربي فيما يقال
لا يفكر عاقل في اختلاف اللغات وتعددها — مع وحدة الإنسان في أصله، وفي تركيب هذه الجارحة اللسانية، التي تختلف ألوان المنطق فيها كما يختلف الشجر الذي يسقى بماء واحد — إلا خطر له أمر التوحيد واجتماع الناس على لغة عامة؛ لأن هذا هو الأصل في حكمة النطق، ولكن الفكر في الشيء غير معاناته، فلم ينقل إلينا تاريخ الأمم التي سلفت أن أحدًا عمل لهذه الغاية البعيدة. ولا جرم أن هذا إنما يكون عند اشتباك العلائق بين الأمم، واختصار المسافات التي تفصل فصلًا طبيعيًّا بين الآفاق، على نحو ما هو في العصور الحديثة؛ فإن الإنسان في هذه الحالة يحتاج إلى اختصار المسافات بين الألسنة أيضًا، فلا يفصل بين كل لسانين لسان ثالث للنقل والترجمة؛ ولما كانت الحاجة أم الاختراع، فقد ولدت تلك الحاجة هذه اللغة العامة.
ويقال: إن أول من عانى هذا الضرب من الوضع، الإمام محيي الدين بن العربي الأندلسي من أهل القرن السادس للهجرة، وكان من أعلام الحقيقة وأئمة المتصوفة، فذكر بعض علماء المشرقيات من الفرنسيس أنه عثر على أن الشيخ وضع لغة خاصة باستعمال المتصوفة، أخذ ألفاظها من العربية والفارسية والعبرانية وسماها «بَلَيْبَلان» قال: وهذا الاسم من أوضاع اللغة نفسها، ومعناه «لغة المحيي».
وقيل: «إن تيمور لنك» الفاتح التتري الشهير الذي كان في القرن الثامن، لما رأى جيشه طوائف من أجناس مختلفة متناكري الألسنة واللغات، تقدم إلى قوم من خاصته بإنشاء لغة عامة تقتبس من لهجاتهم جميعًا، فأنشأوا لغة «أوردو» أي الجيش، وهي التي يتكلم بها الهنود اليوم على اختلاف جهاتهم، وقد ذكروا أن هذا الخبر التاريخي كان من جملة البواعث التي حملت على وضع اللغة العامة المعروفة في هذه الأيام «بالاسبرانتو».
على أنه قبل أن توضع هذه اللغة، عني بأمرها عدة من العلماء، حتى بلغ ما وضعوه من نوعها بضع عشرة لغة، وأقدم من حاول ذلك «باكون» الفيلسوف الشهير من أهل القرن السادس عشر للميلاد، ولكن أول من أفرد هذا الوضع بكتاب، إنما هو «الأستاذ بشر» فإنه صنع كتابًا استقرى فيه المعاني، فوضع بإزاء كل معنى اللفظ الدال عليه؛ ووضع أحكام الصيغ الصرفية والتركيبية، ثم انسحب على أثره كثيرون، حتى جاء الأستاذ اللغوي «شِلبير» الألماني، فوضع كتابًا نشره سنة ١٨٧٩م بعد أن صرف في تأليفه عشرين سنة، وسمى لغته «الفولابوك»، وهو لفظ من أوضاعها معناه «اللغة الجامعة»، ولكن هذه اللغة لم تنتشر إلا قليلًا، ثم ذهبت مع القرن التاسع عشر في مدرجة واحدة من التاريخ. وفي أثناء ذلك كان الأستاذ «زامنهوف» المشهور يشتغل بوضع لغته المتداولة، فقضى اثنتي عشرة سنة ثم نشر رسالة عرض فيها أصول تلك اللغة، وجعل عنوانها «دكتورو اسبرانتو» أي الأستاذ المؤمل؛ إشارة إلى يأس العلماء قبله من النجاح في هذه الأوضاع، على أن هذا الاسم ما لبث أن لزم لغته ولا تزال تعرف به إلى اليوم.
والاسبرانتو تتألف من ٣٢٠٠ مادة، مقتبسة من جميع لغات أوربا على نحو اقتباس هذه اللغات نفسها من اللاتينية والجرمانية واليونانية، وكلها في سبيل واحد من السلاسة والانقياد واطراد القواعد بلا شذوذ ولا استثناء؛ وقد ألحق بها واضعها ثلاثين لفظة تركب مع سائر ألفاظها فيدل بها على نوع المعاني الوصفية، وسبع عشرة زيادة صيغية تدل على المعاني التصريفية فصارت بذلك من الثروة في ألفاظها بحيث تنتهي في التركيب إلى عشرة ملايين من الكلمات.
وقد انتشرت هذه اللغة في أوربا واطرد استعمالها وكثر أهلها والقائمون عليها، وكأنها لم تكن إلا حاجة في نفس الإنسان قضاها، وإنه لذو علم مما علمه الله.