افتعال اللغة
قال الخليل بن أحمد: إن النحارير ربما أدخلوا على الناس ما ليس من كلام العرب، إرادة اللَّبْس والتعنيت.
ومن هذه الأشياء ما يُقرُّه الرواة إذا لم يجدوه مخالفًا لأبنية العرب ولم يعلموا على حامله سوءًا، ولا كان ممن يتديّنون بالكذب، كبعض فرق الروافض؛ فإن منهم من يضع الشعر ويضمِّنه شيئًا من الغريب، ليقيم به حجة واهية، أو رأيًا متداعيًا، كما ستعرفه.
ولا يجيء بالغريب على أنه بسبيل من الكلام المجمع عليه إلا من أراد أن يستبد بشروط الرواية فيُلبس على الناس أمرهم، وهو يرمي بذلك إلى التزيُّد في علمه والتكثُّر بالباطل والتنبُّل عند الناس، وتراه إذا أورد الكلمة المفتعلة جعلها من سماعه وزيّنها بوجوه من الرواية، آمنًا أن تردّ عليه أو يدَّعي فيها مدّع؛ لأن البيِّنة عليها منه، والحكم فيها إليه، إذ كان له سلف صدق من الرواة الذين انفردوا بالغرائب والنوادر، وقُبِل ذلك منهم وألحق بمادة اللغة، ولهذا وأشباهه من العلل كانوا يرجعون إلى الأعراب كما علمت.
وأول من رُمِيَ بافتعال اللغة وأنه يتعمد الصنعة فيها، محمد بن المستنير المعروف بقطرب، المتوفى سنة ٢٠٦، وكان يرى رأي المعتزلة النَّظَّامية، فأخذ عن النَّظَّام مذهبه: ولذا طرحوا لغته ولم يوثِّقوه في الرواية؛ قال يعقوب بن السكيت: كتبت عنه قِمَطْرًا (أي ملء صندوق)، ثم تبينت أنه يكذب في اللغة فلم أذكر عنه شيئًا.
وكذلك اتهموا أبا عمرو الزاهد المعروف بغلام ثعلب، المتوفى سنة ٣٤٥، وكان واسع الحفظ جدًّا، حتى قيل: إنه أملى من حفظه ثلاثين ألف ورقة في اللغة، وتلك لعمر الله مظنَّة، وكان بعض أهل الأدب يطعنون عليه، ويضربون به الأمثال لوضعه وتلبيسه؛ فيقولون: لو طار طائر في الجو قال: حدثنا ثعلب عن ابن الأعرابي، ويذكر في معنى ذلك شيئًا! ولكن أبا بكر بن الخطيب جعل مَرَدّ التهمة إلى سعة حفظه، ثم أثبت هذا الحفظ فنفى التهمة وقال: رأيت جميع شيوخنا يوثقونه ويصدِّقونه، وكان يُسأل عن الشيء الذي يقدّر السائل أنه وضعه فيجيب عنه، ثم يُسأل عنه بعد سنة فيجيب بذلك الجواب. ويُروى أن جماعة من أهل بغداد اجتازوا على قنطرة الصراة وتذاكروا كذبه، فقال بعضهم: أنا أُصَحِّفُ له القنطرةُ وأسأله عنها فإنه يجيب بشيء آخر؛ فلما صرنا بين يديه قال له: أيها الشيخ، ما القنطرة عند العرب؟ فذكر شيئًا قد أنسيته، فتضاحكنا وأتممنا المجلس؛ فلما كان بعد شهر ذكرنا الحديث فوضعنا رَجُلًا غير ذلك فسأله فقال: ما القنطرة؟ قال: أليس قد سألتَ عن هذه المسألة منذ كذا وكذا، فقلتُ هي كذا؟ فما دَرَيْنَا من أي الأمرين نعجب من ذكائه: إن كان علمًا فهو اتساعٌ طريف، وإن كان كذبًا في الحال فَحَفِظَهُ، فلما سئل عنه ذكر الوقتَ والمسألةَ فأجاب بذلك الجواب — فهو أطرف.
وكان معز الدولة قد قلد شرطة بغداد غلامًا تركيًّا مملوكًا يعرف بخواجا، فبلغ أبا عمرو هذا، وكان يملي كتاب (الياقوتة)، فلما جازه قال: اكتبوه (ياقوته خُواجا)، الخواج في أصل اللغة الجوع؛ ثم فرع على هذا بابًا بابًا وأملاه؛ فاستعظم الناس كذبه وتتبعوه. وله مثل ذلك أشياء أضربنا عنها؛ فإن بين العلم المستطيل والحفظ المتسع موضعًا لبسط اللسان إذا أراد قائل أن يقول.
وأشهر من عُرف بافتعال اللغة في الإسلام قاطبة، أبو العلاء صاعد بن الحسن اللغوي البغدادي الذي ورد الأندلس في حدود سنة ٣٨٠ على المنصور بن أبي عامر؛ وكان يأخذ في طريق أبي عمرو المومأ إليه؛ لأنه نشأ والألسنة لا تزال تحكي عنه؛ ولذا نظّروه في الأندلس في سرعة الجواب وقوة الاستحضار بأبي عمرو هذا في العراق؛ وادعى في الأندلس علمَ الغريب؛ وتنفق به عند المنصور بن أبي عامر، وعرّض ما شاء من دعواه في الرواية والسماع من أئمة الرواة بالعراق، لضعف ذلك في الأندلسيين.
قالوا: ودخل مرة على المنصور وفي يده كتاب ورد عليه من عامل له في بعض البلاد اسمه ميدمان بن يزيد يذكر فيه (القلب والتزبيل)، وهي أسماء عندهم لمعاناة الأرض قبل الزرع؛ فقال له المنصور: أبا العلاء! قال: لبَّيك مولانا! قال: هل رأيت فيما وقع إليك من الكتب كتاب (القوالب والزوالب) لميدمان بن يزيد؟ قال: إي والله يا مولانا، رأيته ببغداد في نسخة لأبي بكر بن دريد يخط كأكرع النمل، في جوانبها علامات الوضاع؛ هكذا هكذا! فقال له: «أما تستحيي أبا العلاء؟ هذا كتابُ عاملي ببلد كذا … إلخ، وإنما صنعتُ لك هذه الترجمة مولَّدة من هذه الألفاظ التي في هذا الكتاب ونسبته إلى عاملي لأختبرك!» فجعل يحلف له أنه ما كذب وأنه أمر وافق. وله من هذا كثير.
وتوفي صاعد سنة ٤١٧.
وإنما كان كل ذلك قبل أن تجمع مفردات اللغة وتؤلفَ فيها الأمهات والأصول وتشيع في أيدي الناس: كالصحاح للجوهري، والتهذيب للأزهري؛ ولم يوضع قبله كتاب أكبر ولا أصح منه؛ وذلك في أواخر القرن الرابع في المشرق؛ لأن الرجوع في اللغة كان إلى الرجال، وفيهم مَن علمت؛ أما بعد ذلك فلم يؤثِّر الافتعال شيئًا في اللغة، لسقوط الرواية فيها إلا من الكتب، كما أومأنا إليه في محله؛ وبهذا بطلت الصنعة وبطل تاريخها اللغوي.
هوامش
والمحدثون يرون أن كلام الأقران بعضهم في بعض لا يقدح في العدالة، وقد جاراهم أهل الأدب حتى قالوا: «إن المعاصرة حجاب.»