الرواة الوضاعون للشعر
فأما الأخباريون الوضاعون فستعرف أمرهم، وأما أهل الشعر فهم يضعون منه لثلاثة أغراض: للشواهد على العلوم — وقد مر الكلام عليها — والشواهد على الأخبار، والاتساع في الرواية.
الشواهد على الأخبار
شعر الجن وأخبارها
والقصاصون إنما قلدوا في ذلك الأعراب أيضًا وذهبوا مذاهبهم، فللأعراب شعر كثير يزعمونه للجن ويعقدون له الأخبار، وقد تناقله عنهم الرواة وتظرفوا به في الأحاديث، وأمثلته كثيرة.
وكان أبو إسحاق المتكلم، من أصحاب الجاحظ، يقول في الذي تذكر الأعراب من عزيف الجان وتغوُّل الغيلان: «أصل هذا الأمر وابتداؤه أن القوم لما نزلوا ببلاد الوحش عملت فيهم الوحشة، ومن انفرد وطال مقامه في الفلاة والخلاء والبعد من الإنس، استوحش، ولاسيما مع قلة الاشتغال والمذاكرين؛ والوحدة لا تقطع أيامهم إلا بالمنى وبالتفكير؛ والفكر ربما كان من أسباب الوسوسة، وقد ابتُلِيَ بذلك غير حاسب … وخبرني الأعمش أنه فكر في مسألة فأنكر أهله عقله حتى حموه (من الحِمْية) وداووه؛ وقد عرض ذلك لكثير من الهند، وإذا استوحش الإنسان مَثَلَ له الشيء الصغير في صورة الكبير، وارتاب وتفرق ذهنه، وانتفضت أخلاطه، فيرى ما لا يُرى، ويسمع ما لا يُسمع، ويتوهم على الشيء الصغير الحقير أنه عظيم جليل، ثم جعلوا ما تَصور لهم من ذلك شعرًا تناشدوه، وأحاديث توارثوها فازدادوا بذلك إيمانًا، ونشأ عليه الناشئ، وربي به الطفل، فصار أحدهم حين يتوسط الفيافي وتشتمل عليه الغيطان في الليالي الحنادس فعند أول وحشة أو فزعة، وعند صياح بوم ومجاوبة صدًى، تجده وقد رأى كل باطل وتوهَّم كل زور، وربما كان في الجنس وأصل الطبيعة نفَّاجًا كذابًا وصاحبَ تشنيع وتهويل، فيقول في ذلك من الشعر على حسب هذه الصفة، فعند ذلك يقول: رأيت الغيلان، وكلمت السعلاة؛ ثم يتجاوز ذلك إلى أن يقول: قتلتها! ثم يتجاوز ذلك إلى أن يقول: رافقتها! ثم يتجاوز ذلك إلى أن يقول: تزوجتها … ومما زادهم في هذا الباب وأغراهم به ومدّ لهم فيه، أنهم ليس يلقون بهذه الأشعار وبهذه الأخبار إلا أعرابيًّا مثلهم، وإلا غبيًّا لم يأخذ نفسه قط بتمييز ما يوجب التكذيب أو التصديق أو الشك، ولم يسلك سبيل التوقف والتثبت في هذه الأجناس قط؛ وأما أن يَلْقَوْا راوية شعر أو صاحب خبر، فالرواةُ عندهم كلما كان الأعرابي أكذب في شعره كان أظرف عندهم، وصارت روايته أغلب ومضاحيك حديثه أكثر!»
والأمر قريب مما قاله أبو إسحاق؛ فإن أخبار الجن لا تُعرف إلا عن رجل من الأعراب أو رجل من الرواة الذين يقصُّون للعامة وأشباه العامة، وقد يأتي القليل من ذلك عن الراوية الثقة يريد به الإغراب في حديث إن جاء به، وشعر إن أنشده، ليدير الكلام على روعة تُوَكِّد معناه وتجعله ظريفًا غريبًا؛ فكأنه يستعين على بيان غرضه بضرب من التخييل، كما يستعين الكاتب أو الشاعر بمثل من المجاز.
ولقد أفرط رواة الإسلام من أهل الأخبار في مزاعمهم عن الجن، ونسبوا إليها كل غريب وكل عظيم؛ لأنها مظنة كل ذلك في أوهامهم؛ وقفّى على أثارهم جماعة من المتصوفة، حتى عينوا أول من أسلم من الجن، وهو بزعمهم (هامةُ بن الهام بن لاقيس بن إبليس …) وأول نبي أرسل إلى الجن فيما قالوا (عامر بن عمير بن الجان)، فقتلوه وقتلوا بعده ٨٠٠ نبي!
على أن نادرة النوادر من ذلك، في التاريخ العربي كله، إنما هو ما جاء به أبو السري سهل بن أبي غالب الخزرجي الشاعر المفلق الذي كان في أواخر القرن الثاني، فإن نشأ بسجستان، ثم ادعى رضاع الجن وأنه صار إليهم، ووضع كتابًا ذكر فيه أمر الجن وحكمتهم وأنسابهم وأشعارهم، وزعم أنه بايعهم للأمين بن هارون الرشيد بالعهد، فقرّبه الرشيد وابنه الأمين وزبيدة أم الأمين، وبلغ معهم وأفاد منهم؛ ثم جعل يتنفَّق عندهم بما يضعه من الشعر الجيد على ألسنة الجن والشياطين والسعالي، وقال له الرشيد: إن كنتَ رأيتَ ما ذكرت فقد رأيت عجبًا، وإن كنت ما رأيته فقد وضعت أدبًا!
ولكل ما أومأنا إليه في هذا الفصل أمثلة كثيرة من الشعر والخبر، أضربنا عنها خوف الإطالة بما لا طائل تحته، ولو كان فيها شيء غير إنسي لجئنا به … أما ما يتعلق بزعمهم في شياطين الشعراء فقد أمسكنا الكلام عنه إلى بابه، فإن له ثمة موضعًا.
الاتساع في الرواية
وكان حماد أول من جمع أشعار العرب وساق أحاديثها، فلا جرم أنه كان رأس الوضاعين لما يُقتضى لصنعة الجمع الذي يراد به الاتساع والاستئثار من الزيادة في شعر المقلِّ حتى يكثر، ونسبة ما يكون للخامل من الشعراء إلى المشهور حتى يُروى شعره، ونحو ذلك.
وأخذ في مذهب حماد خلفُ الأحمر المتوفى سنة ١٨٠، وهو أول من أحدث السماعَ بالبصرة فيما سمعه من حماد كما مر؛ وقد سلك في البصريين مذهب حماد في الكوفيين؛ غير أن أكثر ما وضعه من الشعر إنما خص به أهل الكوفة فرووه عنه؛ وكان خلف أفرس الناس ببيت شعر، وأعلمهم بمذهب الشعراء ومعانيها، وأبصرهم بوجوه الاختلاف بين ما يتميز به شاعر وشاعر؛ فإذا عمد إلى المحاكاة فيما يضعه أشبه كل شعر يقوله بشعر الذي يَصْنَعُ عليه؛ حتى لا يتميز منه، وحتى لا يكون من الفرق بينهما إلا فرق التعدد الطبيعي الذي لا يُدرك في الجوهر الواحد، كالفرق بين الروح والروح. وكان نفاذه في ذلك سريعًا بمقدار ما أوتي من سرعة البديهة ودقة الحسن البياني، حتى ضربوا به المثل؛ وهو في باب معاني الشعر ومذاهب الشعراء معلِّمُ أهل البصرة جميعًا. لا يُصدرون الرأي في شعر دونه، حتى إن مروان بن أبي حفصة لما مدح المهدي بشعره السائر الذي أوله:
أراد أن يعرضه على نقاد البصرة، فدخل المسجد الجامع فتصفّح الحِلق، فلم ير حلقة أعظم من حلقة يونس النحوي، فجلس إليه فعرّفه خبره، ثم استأذنه أن يسمعه، فقال يونس: يا ابن أخي، إن هنا خلفًا، ولا يمكن أحدنا أن يسمع شعرًا حتى يحضر؛ فإذا حضر فأسمعه.
وما أشبه أن تكون القصيدة أو أكثرها كذلك. وقال الأصمعي: سمعت خلفًا يقول: أنا وضعت على النابغة هذه القصيدة التي فيها:
وهو من أبيات الشواهد؛ وله قصائد أخرى نص على بعضها العلماء، وبينوا أنها مصنوعة، وقد وضع على شعراء عبد القيس شعرًا كثيرًا. وقال الجاحظ: إنه هو الذي أورد على الناس نسيب الأعراب، وهذا النسيب من أرق الشعر قاطبة وما أحراه أن يكون مصنوعًا!
ثم قالوا: إن خلفًا نسك في آخر أيامه فخرج إلى أهل الكوفة فعرّفهم الأشعار التي أدخلها في أشعار الناس، فقالوا له: أنت كنت عندنا في ذلك الوقت أَوْثَقَ منك الساعة! فبقيت الأشعار على حالها؛ إذ كان الأمر قد مضى لوجهه، وهكذا لا يملك الإنسان من آخرة الكذب ما يملك من أولاه.
وإنما امتاز أهل الكوفة بكثرة الشعر والاتساع في روايته؛ لأن ذلك ميراثٌ فيهم منذ نزلها العرب، حتى إن عليًّا كرم الله وجهه لما رجع بهم من قتال الخوارج على أن يستعدوا لقتال أهل الشام، ثم تخاذلوا عنه — لم ير أبلغ في ذمهم من صفة التشاغل بالشعر، فقال في خطبته حين خطبهم: «إذا تركتكم عدتم إلى مجالسكم حلقًا عزين (جماعات)، تضربون الأمثال، وتَنَاشَدُون الأشعار؛ تَرِبَتْ أيديكم وقد نسيتم الحرب واستعدادها. وأصبحت قلوبكم فارغة من ذكرها، وشغلتموها بالأباطيل والأضاليل …»
وكان الشعر عِلْمَ أهل الكوفة حين كانت العربية عِلْمَ أهل البصرة؛ لأن العربية لم تكثر عند أولئك إلا بآخرة كما سنبيته بعد، وللكوفيين رواية قديمة في الشعر، وكان الخثعمي راويتَهم فيه قبل حماد، ومعه أبو البلاد الكوفي، وهما في خلافة عبد الملك بن مروان، ولم يشتهروا برواية الشعر إلا في أيامهما.
ولما اشتغل هؤلاء الكوفيون بعلم العربية، وكان في طبعهم الشذوذ كما ستعرفه، سَهُل عليهم قبول الشواذ، ولم يتحرجوا من الصنعة للاستشهاد؛ لأن الصنعة من شذوذ الرواية أيضًا، فزاد ذلك في الشعر عندهم، ومن أشهر رواتهم بعد حماد، خالد بن كلثوم الكلبي، وله صنعة في الأشعار المدونة على القبائل، وقد ألف فيها كتابًا، وأبو عمرو الشيباني المتوفى سنة ٢٠٦. وقد جاوز المائة بعقد، وعنه أخذت دواوين أشعار القبائل كلها، وقد جمع نيِّفًا وثمانين قبيلة.
وليس في الرواة جميعًا من يُداني حمادًا وخلفًا في الصنعة وإحكامها، فهما طبقة في التاريخ كله، وإنما يكون لغيرهما البيت الواحد والأبيات القليلة مما لا تفتضح صنعته، يضعونه لتوجيه الحجة وتزيين الخبر ونحو ذلك، ومن هؤلاء أبو عمرو بن العلاء، قال: ما زدت في شعر العرب إلا بيتًا واحدًا، يعني ما يُرْوَى للأعشى من قوله:
وهو من أبيات الشواهد — ومنهم الأصمعي، وأبو عبيدة، واللاحقي، وقطرب، وغيرهم.
وقد يجد الرواة للشاعر الأبيات الحسنة في المعنى الجيد وهي تحتمل الزيادة، فيصنعون عليها ويولِّدون حتى تبلغ قصيدة، كأبيات الطِّيَرَة للحارث بن حلزة، وهي أربعة أبيات، ولكنهم جعلوها قصيدة طويلة. قال أبو عبيدة: أنشدنيها عمرو، وليست إلا هذه الأبيات وسائر القصيدة مصنوع مولّد، وتلك قوله:
وقد يزيدون في القصيدة ويبعدون بآخرها متى وجدوا لذلك باعثًا، كقصيدة أبي طالب التي قالها في النبي ﷺ، وهي مشهورة، أولها:
قال ابن سلام: زاد الناس في قصيدة أبي طالب وطُوِّلت بحيث لا يُدرى أين منتهاها، وقد سألني الأصمعي عنها فقلت صحيحة، فقال: أتدري أين منتهاها؟ قلت: لا، قلنا: وإنما طُوِّلت هذه القصيدة معارَضةً للطوال المعروفة (بالمعلقات) حتى لا يكون من شعر الجاهلية ما هو خير مما قاله عمُّ النبي ﷺ؛ ولكن في أصلها أبياتًا هاشمية تفي بكثير من الطوال.
ولما كان علمُ العرب كله في البصرة والكوفة بعد أن نشأت الرواية لم يكن الناس يأبهون لما يظهر في غيرهما؛ فكانت تسقط أخبار الوضاعين في الأمصار لذلك، إلا قليلًا يأتي عن بعض علماء البلدين، كالذي ذكره الأصمعي، قال: أقمت بالمدينة زمانًا ما رأيت بها قصيدة واحدة صحيحة، إلا مصحَّفة أو مصنوعة؛ وكان بها دأب يضع الشعر وأحاديث السَّمَر وكلامًا ينسبه إلى العرب، فسقط وذهب علمه وخبت روايته؛ وهو عيسى بن يزيد، يكنى أبا الوليد، وكان شاعرًا، وعلمه بالأخبار أكثر.
ولما فشا أمر الصنعة في الشعر، جعل المتأخرون يضعون القصيد والرجز وينسبونه لمن اشتهروا بالوضع من المتقدمين، كخلف؛ أو بالاتساع في الرواية، كالأصمعي؛ لأن من أجاز على الناس أجاز الناس عليه.
وأخذ القُصاص أيضًا في هذه الناحية، فصنعوا الأخبار الكثيرة، وأسندوها إلى علماء الأنساب والإخباريين، ليعطوها بذلك معنى التاريخ الذي تثبته الرواية.
ضرب من الوضع
التعليق على الكتب
وههنا نوع من الرواية الموضوعة كان يذهب إليه بعض المتأخرين؛ وذلك أن الواحد منهم ربما ألحق الأبيات للشاعر المتأخر ببعض العرب ويعلِّق ذلك على كتاب عنده، أو ينحل الشاعر أبياتًا لغيره ثم يدسها في ديوان شعره، على أن يكون هذا مما يُكاد به لذلك الشاعر، حسدًا له، ونفاسة عليه، أو عبثًا يلهو به من يفعل ذلك، أو لسبب مما يجري هذا المجرى، وقد اختلف العلماء في أشباه من هذا الجنس، قال المعري في كتاب (عبث التوليد)، وحكى بعض الكتاب أنه رأى كتابًا قديمًا قد كُتب على ظهره: أنشدنا أحمد بن يحيى عن ثعلب:
وذَكَرَ خمسة أبيات من أول هذه القصيدة، وهذا كذب قبيح وافتراء بيّن، وإنما فعله مُفْرُط الحسد، قليل الخبرة بمظانّ الصواب، غرضُه أن يلبِّس على الجهال. وقد رويت أبيات أبي عبادة (البحتري) التي في صفة الذئب لبعض العرب، ويجب أن يكون ذلك كذبًا مثل ما تقدم. وقد نسبوا الأبيات التي في صفة الذئب إلى عبد الله بن أنيس صاحب النبي ﷺ وهو من بني البرك راشد بن وبرة، ولا ريب أن ذلك باطل. والشواهد من هذا النوع غير قليلة.
الشوارد
ومن الشعر نتف قليلة تقع في البيتين والثلاثة، ويسميها الرّواة بالشوارد؛ لأنهم لا يعرفون نسبتها، بل يروونها على أنها مرسلة لا أرباب لها، وهي نادرة في الشعر؛ لأنهم لا يحفلون بما جهلوا نسبته كما مر في موضعه، بيد أنه متى كانت الأبيات لا شاهد فيها وكانت جيدة حسنة السبك رصينة المعنى طليَّة العبارة، عَدُّوها من الشوارد لتجوز من هذا الباب إلى الرواية؛ فمن ذلك ما رواه أبو عبيدة، قال: من الشوارد التي لا أرباب لها قول بعضهم:
اختلاف الروايات في الشعر
وقد كان العرب ينشد بعضُهم شعرَ بعض، ويجري كل منهم في النطق على طبعه ومقتضى فطرته اللغوية، فمن ثم يقع الاختلاف الصَّرْفِيّ واللغوي الذي نراه في بعض الروايات، وقد يغيّر العربي فيما يتمثله من الشعر كلمة بأخرى يراها أليق بموضعها وأثبت في معناها، أو تكون الكلمة قد أصابت هوى في نفسه، لأنهم إنما يتمثلون الشعر لغير الغرض اللغوي الذي قامت به الرواية، وذلك كقول أبي ذؤيب الهذلي:
وهي رواية أبي عمرو بن العلاء، ولكن الأصمعي رواه على نقيض هذا المعنى فقال: (عصاني إليها القلب …) البيت. وظاهرٌ أن هذا التناقض في الرواية لا يكون من الشاعر، وإنما هو تفاوت في الاستحسان لا غير.
وكان الرواة ينقلون الشعر على ما يكون فيه من مثل هذا الاختلاف ولا يبالون أمره، لأنهم يريدون لغة الشعر، والشعر متى جاء عن أعرابي كان حجة، لأن لسان العربي لا يطوع بغير الصواب، ولهذا تختلف الروايات في بعض الأبيات وهي في الأصل غير مختلفة.
ومن أسباب الاختلاف، أن الشعراء في الصدر الأول كانوا يعتمدون على الحفظ، ولكنهم لا يُثبتون من شعرهم كل لفظ بعينه، بل ربما أنشد الرجل منهم أبياتًا فتروى عنه، ثم تأتي الأيام فينسى بعض ألفاظها؛ فلا يكون إلا أن يضع غيرها ثم ينشد الأبيات على وجه آخر؛ فتروى أيضًا؛ ثم تجتمع الروايتان في شعره أو الروايات المختلفة؛ ولهذا قال ذو الرمة لعيسى بن عمر الثقفي: اكتب شعري، فالكتاب أحب إليَّ من الحفظ؛ لأن الأعرابي ينسى الكلمة قد سهر في طلبها ليلته فيضع في موضعها كلمة في وزنها ثم ينشدها الناس، والكتاب لا ينسى ولا يبدِّل كلامًا بكلام!
ومن الرواة من كان يغيِّر في ألفاظ بعض الأبيات لتوجيه حجته وإنهاض دليله، فيروى عنه البيت على وجهه المغير؛ وذلك فاشٍ بينهم، وخاصةً في رواة الكوفيين، ومنهم من كان يغير في الدواوين المكتوبة ليُعذر بها عند الخلاف ويقيم منها الحجة على الرواية الصحيحة؛ فيكون ذلك سببًا في الاختلاف.
ولا تنسَ ما ينشأ عن التصحيف في الكلمات المتشابهة؛ فإنه من بعض أسباب الاختلاف أيضًا، وشواهده كثيرة في كتاب التصحيف للعسكري.
وهذا وذاك غير ما يكون من تزيُّد بعض الرواة في الشعر حتى يخرج إلى الوضع والصنعة كما مر محله، ثم يجيء غيره فينقص أو يزيد ويقدم أو يؤخر؛ ويعقبهما ثالث فيصيب أبياتًا حسنة على روي تلك القصيدة فيدسها فيها ويرويها على أنها منها، ثم يأتي رابع فيرى اختلاف النسبتين في القصيدة الواحدة فيسقطهما جميعًا وينحلها شاعرًا آخر، وهكذا؛ ومما استجمع كل ذلك الاختلاف هذه القصيدة التي أولها:
ومنها شاهد النحاة المشهور: «لعلَّ أبي المغوارِ منك قريب.» وهي مرثية رواها القالي في أماليه، وقال: قرأت على أبي بكر محمد بن الحسن بن دريد هذه القصيدة في شعر كعب الغَنَوي … إلى أن قال: وبعضهم يروي هذه القصيدة لكعب بن سعد الغنوي، وبعضهم يرويها بأسرها لسهم الغنوي، وبعضهم يروي شيئًا منها لسهم، وزاد أحمد بن يحيى عن أبي العالية في أولها بيتين. قال: وهؤلاء كلهم مختلفون في تقديم الأبيات وتأخيرها وزيادة الأبيات ونقصانها، وفي تغيير الحروف في متن البيت وعجزه وصدره، ثم قال: والمرثيُّ بهذه القصيدة يكنى أبا المغوار، واسمه هَرم، وبعضهم يقول: اسمه شبيب، ويحتج ببيت رُوي في هذه القصيدة: «أقام وخلَّى الظاعنين شبيبُ.» وهذا البيت مصنوع، والأول (كأنه أصح).
هذا، وقد بقي الكلام في انتحال الشعر ورواة الشعراء وشياطينهم وعمل أشعارهم وتدوينها وما إلى ذلك، وكلها مما يمكن أن يتصل نسبه بما نحن فيه من أمر الرواية، ولكنه بباب الشعر أقرب مشاكلة وأدنى اتصالًا، فأنزلناه ثمة في مراتبه، وألحقناه بتلك المطالب لفائدة طالبه.