الرواة: علومهم — أنواعهم
علوم الرواة
واعلم أن من طريقتنا في هذا الباب أن لا نعُدَّ من الرواة كل من اقتنى علمًا من علومهم، أو قبس أدبًا من آدابهم، وإن جاء ذلك على شرط الرواية وأدبها؛ فلو أنا عددنا من أمثال هؤلاء لكان لنا منهم باب واسع «في الترادف التاريخي» يهجِّن نسَق الكتاب ويُزْري على سبكه، ويتنزل منه منزلة الجملة التي تجمع مترادفات لفظة بعينها أو أكثر هذه المترادفات، وكان في كلمة منها أو كلمتين البلاغة كلها؛ فلما كثرت وتقطع بها نسق المعنى ذهب آخرها بفضل أولها ولم يُغن أولها عن آخرها شيئًا — إنما نذكر من الرواة الأفراد الذين ذهبوا بمآثر العلوم، وكانوا مشيخة الأجيال، وانقادت لهم أزمّة الأسانيد، واتخذ التاريخ منهم أقطاب رحاه؛ وقلّ من هؤلاء من لا يجمع علوم الرواية كلها أو أكثرها بحسب مايكون منها في عصره، من النسب، والخبر والشعر، والعربية، واللغة، بيد أنهم قد تفاوتوا في مقادير الإحسان من ذلك كله؛ فطائفة غلب عليها النسب، وأخرى ذهبت بمزية الشعر، وثالثة انفردت بعلم الأخبار، وهلم جرًّا؛ وسنصرف الكلام في هذا الفصل إلى التنظير بين رجال هذه الطبقات على ما أعلمناك من طريقتنا؛ فإن فيها غناءً وكفاية.
النسب
أما رواية النسب، فقد كانت عامة في العرب، وكانوا ينسبون حتى الخيل والإبل والكلاب، ما كرُمَ عليهم من هذه الأجناس، (كما نَسَبَت طائفة من الإسلاميين الحمام).
والنسب يستتبع رواية أخبار العرب وما فيه شاهدٌ على التاريخ من أشعارها؛ فكان كل أولئك علم النسابين، وقد اجتمع من رؤسائهم في القرن الأول: عبيدُ بن شَرْية الجرهمي، وانفرد باتساعه في رواية الأخبار المتقدمة وما يسمونه بالعلم الأول إلى مبدأ الخليقة، عربها وعجمِها، وبالحكمة والخطابة والرياسة، وقد ذكرنا أمره مع معاوية في محله — ودغفل بن حنظلة، وأبو الشطاح اللخمي، وقد جمع بينهما معاوية، وتناظرا في فنون كثيرة، جاءا في جميعها بالنادر الغريب، حتى صارت مناظرتهما مثلًا يُضرب لكل ما يجري بين اثنين من الكلام البديع الذي يتدفق بالحكمة والبيان، وكان دغفل أوسع أهل زمانه روايةً في أنساب العرب خاصةً، وأخبارها وعلومها في الجاهلية، كالأنواء وغيرها؛ وقد تصادر مع أبي بكر الصديق (رضي الله عنه) على حديث في النسب، ودغفلٌ يومئذ غلام قد بَقَل وجهه، فكان أمره مع أبي بكر كما قال:
ثم النخَّار بن أوس، وهو دون أصحابه يجري في قص النسب على طريقة الكهان من السجع والتشبيه، لفضل في بيانه وبسطةٍ في لسانه، وكانت له حكمة تزين ذلك؛ دخل على معاوية أول عهده به فازدراه، وكان عليه عباءةٌ خلقة فقال: يا أمير المؤمنين، إن العباءة لا تكلِّمك، وإنما يكلمك من فيها!
ويجري في هذه الطريقة عبد الله بن عبد الحجر، وهو ممن وفدوا على معاوية أيضًا.
وهؤلاء ومن كان في طبقتهم: كزيد بن الكيس النمري، وابن لسان الحمَّرة، وصحارى العبدي، والمختار العدوي، وصبح الطائي، وميجور بن غيلان الضبي، هم رؤساء النسابين، وإليهم تنتهي الرواية، وكل علمهم مقصور على الجاهلية وطرَف من الإسلام.
وامتاز في أواخر هذه الطبقة صعصعة بن صوحان، وكانت الرواية عنه بعد الإسلام في أخبار العرب خاصةً، وكان ابن عباس على سعة حفظه كثيرًا ما يسائله ويذاكره، وقد لقبه بباقر علم العرب.
واشتهر من قريش أربعة بأنهم رواة الناس للأشعار وعلماؤهم بالأنساب والأخبار، وكل ما كان قرشيًّا فهو عند العرب طبقة متميّزة. والأربعة هم: مخرمة بن نوفل بن وهيب بن عبد مناف، وأبو الجهم بن حذيفة، وحويطب بن عبد العُزَّى، وعقيل بن أبي طالب.
وكانت قريش في الجاهلية دون غيرها من العرب تُعاقب شعراءها القليلين إذا هجا بعضهم بعضًا؛ أما النسابون فكانوا يحمِّقون منهم من يروي المثالب ويقع في أعراض الناس؛ لأن ذلك هو الهجاء المنثور؛ وهم يريدون بهذا الإزراء أن يُسقطوا شأن الراوية إذا شاعت له قالةُ السوء، حتى تخرج قبيلتُه مما يُلحِق بها انتسابُه إليها واكتسابه على نفسه، أو تذهب الأحدوثة عنه بصدق الأحاديث منه اتقاءً للذم بالذم، وقد كان عقيل واحد الأربعة في ذكر مثالب الناس، فعادَوْه لذلك وقالوا فيه وحمَّقوه، وسمعت ذلك منهم دهماءُ الناس فألّف فيه بعض أعدائه الأحاديث وقرنوه فيها إلى الحمقى والمغمورين، فجعلوه بجانب أخيه علي بن أبي طالب، كعتبة بن أبي سفيان بجانب أخيه معاوية، ومعاوية بن مروان بجانب أخيه عبد الملك؛ وإنما كان عقيل رجلًا قد كُفَّ بصره، وله بعد لسانه ونسبه وأدبه وجوابه، فلما فضل نُظراءه بهذه الخصال، صار لسانه بها أطول، وصار هو بذلك أجرأ وأشدّ صوْلة.
وأما الطبقة الثالثة فهي التي كانت في القرن الثاني؛ وهي مصدر الرواية العامة في الإسلام؛ لأن شروط الرواية لم تعرف إلا في عهدها؛ وتمتاز هذه الطبقة بغلبة الأخبار عليها، وبكثرة الوضع على العرب في المناقب والمثالب، وبانتحال بعضهم مذاهب من الفتنة في الدين؛ وقل منهم من لم يكن أكبر علمه الأخبار؛ ولهذا نذكرهم فيما يلي، ولم يعد لعلم الأنساب من بعدهم الشأن الذي كان له، وإنما صار يُرْوى على أنه بعضُ علوم العرب.
الخبر والإخباريون
وأما الطائفة الثانية، وهم الذين غلب عليهم لقب الإخباريين لامتيازهم بالاتساع في أخبار الفتوح الإسلامية، فقد انفرد منهم ثلاثة بأنواع من المعرفة قلما يساويهم أحد فيها: أبو مخنف الأزدي، بأمر العراق وفتوحها وأخبارها، وأبو الحسن المدائني، بأمر خراسان والهند وفارس (توفي سنة ٢١٥)، والواقدي، بالحجاز والسيرة النبوية (توفي سنة ٢٠٧)، ويشتركون مع غيرهم في فتوح الشام وأخبارها.
ولقد عُرِفَ كثيرون بعلم السير والأحداث والفتوح ولا نعرفهم يمتازون بشيء عمن ذكرناهم؛ فإن ثلاثتهم بالغوا في الاستيعاب والاستقصاء إلى ما لا يَلْحَق بهم فيه أحد؛ ومن أولئك: محمد بن سعد كاتب الواقدي، وأحمد بن الحارث صاحب أبي الحسن المدائني، وعبد المنعم بن إدريس المتوفى سنة ٢٢٨، وقد بلغ المئة، ونصر بن مزاحم، وإسحاق بن بشير، وسيف بن عمرو الأسدي، ومحمد بن إسحاق صاحب السيرة، وأبو إسحاق الفزاري؛ وكلهم من أصحاب السير والأحداث.
وممن جاء بعدهم من أصحاب الأخبار العربية والإسلامية: محمد بن سلام الجمحي، والزبير بن بكار، وعمر بن شبة، وابن الأزهر؛ وكلهم في القرن الثالث؛ والفضل بن الحُباب، وتوفي سنة ٣٠٥.
وانفرد في القرن الرابع رجلان من الإخباريين الرواة المصنِّفين: أحدهما محمد بن عمران المرزباني المتوفى سنة ٣٧٨، وليس لأحد في الإسلام أكثر ولا أمتعُ من تصانيفه في الشعر والشعراء — وسنشير إليه في باب الشعر — والثاني أبو الفرج الأصبهاني المتوفى سنة ٣٥٦؛ وهو صاحب كتاب الأغاني وغيره من الكتب الكثيرة في الأخبار والآداب مما لا يدانيه فيه أحد.
وكان في القرن الثالث رجل من الإخباريين هو طبقة وحده في الإسلام، وهو محمد بن عبيد الله العتبي المتوفى سنة ٢٢٨، وكان من ولد عتبة بن أبي سفيان أخي معاوية، وقد انفرد برواية أخبار بني أمية خاصةً، وليس له في غيرها يد؛ وكان يرويها عن آبائه، وهم يروونها عن سعد القصير، وسعد هذا هو مولى بني أمية؛ قتله ابن الزبير بمكة.
وهذا الذي أوردناه من القول في الإخباريين لا يداخله الكلام على المؤرخين في الإسلام؛ فإن فصل ما بين الفريقين أن الذين ذكرناهم كانوا مادةَ المؤرخين؛ لأنهم تميزوا بأنواع من الرواية جمع منها المؤرخون ما جمعوه، ولكلّ قولٍ موضعٌ ومقام معلوم.
رواة العرب
وهؤلاء قوم كانوا في البادية بمنزلة الرواة في الحضر، من حيث هم مصادر العلم والقائمون عليه، فيتحققون بعلم الأخبار والآثار والأنساب والأشعار، وكان الرواة يأخذون عنهم ويسمّونهم علماء البادية، وهم منهم في هذه العلوم كالأعراب الفصحاء في اللغة، وكانت أسماؤهم دائرةً في أفواه الرواة، بيد أن العلماء الذين دونوا الأخبار وصنّفوا الكتب اكتفوا بنسبة الكلام إلى صدور الرواة ممن نقلوا عن علماء البادية: كالأصمعي، وأبي عبيدة، وابن الكلبي وغيرهم، دون هؤلاء العلماء؛ لتحقق الرواة بالأمانة والضبط، ولأنهم لا يقدرون الألفاظ بمعانيها التاريخة؛ ولهذا لم نقف إلا على القليل من أسماء القوم، وعلى أن هذا القليل إنما جاء في عُرض كلام مما يتعلق بالسمَر ويدخل في باب الحكاية … وقد رأينا في الفهرست لابن النديم أن لابن دريد كتابًا سماه (رواة العرب)، ولا ندري من خبره شيئًا.
فمن هؤلاء الرواة: المسوّر العنزي؛ وسماك بن حرب؛ ومنهم ثم من علماء بني عدي: زرعة بن أذبول، وابنه سليمان، وأبو قيس، وتميم العدوي؛ وكلهم في أواخر القرن الأول؛ ومنهم أبو بردة، وأبو الزعراء، وأبو فراس؛ وأبو سريرة؛ والأغطش؛ وكانوا في القرن الثاني، وأدركهم أبو عبيدة وطبقته، وأخذوا عنهم.
ولا بد أن تكون منهم طائفة ممن عدُّوهم في فصحاء الأعراب، ولكنهم لم يترجموهم، ولم ينبِّهوا عليهم، ولم يذكروا ما أخذوه عنهم إن كان لغةً أو خبرًا أو نسبًا أو شعرًا؛ كمحمد بن عبد الملك الفقعسي؛ فإنه معدود من فصحاء الأعراب، وقد ذكرناه ثمةَ، وهو مع ذلك راوية بني أسد، وصاحب مفاخرها وأخبارها، وعنه أخذ العلماء، والله أعلم.
الشعر
والشعر كان عمود الرواية. فلا بد منه لكل رواية، وإنما يتفاضلون فيه من جهتين: الاتساع في الرواية، وأكثر ما يكون فيمن لم تقتطعه العلوم التي يفتنُّ فيها علماءُ الرواة: كالنسب، والخبر، والعربية، والقراءة، والحديث، ومن هذا الاتساع ينشأ الوضع، وقد مكّنا القول فيه من قبل.
والجهة الثانية معرفة تفسيره والبصر بمعانيه، وهي التي نرمي إلى الكلام عليها في هذا الفصل.
كان صدور الرواة إنما يطلبون الشعر للشاهد والمثل، وهما غرضان أكثر ما تؤديهما الألفاظ دون المعاني، ولما كانت الألفاظ عربية صريحة ينبغي أن تؤخذ بالتسليم ولا وجه لتقليبها ونقدها والتورُّك عليها — انصرف أكثرهم عن البحث في الشعر والتصفُّح على معانيه، فاقتصر العلم به على رواية اللفظ كما هو وما يُقتضَى لها من فهم المعنى كما هو؛ وبذلك بقي الشعر أيضًا كما هو.
ومن شعر العرب نوع مما يقال على المشاهدة، فيستخرج الشاعر المعنى الغريب من شيء رآه ويكون في اللفظ إبهام لا يتعيَّن معه أصل المعنى، وهذا النوع إن لم يفسره شاعره أو من أخذه عنه، ذهب العلم بحقيقة معناه، واضطربت فيه الظنون؛ ونوع آخر يتعلق بالعادات التي كانت للعرب في جاهليتها، ولا بد لتفسيره من المعرفة بها، وبما كان خاصًّا منها بقبيلة الشاعر إن كان من ذلك شيء؛ ونوع ثالث يتعلق بعلوم العرب التي أخذتها عن الأمم واعتبرتها علومًا صحيحة واعتبرها من جاء بعدهم من الخرافات والتكاذيب، ويسمّي الرواة كلَّ ذلك في الشعر بأبيات المعاني؛ لآنها أشياء خارجة عن غرضهم اللفظي الذي أومأنا إليه، والعلم بتلك الأبيات وتفسيرها أكثر ما يكون عند الشعراء والرّجّاز من العرب الذين نشأوا في البادية كما نشأ أصحاب المعاني، أو الذين رووا الشعر عمن نشأ فيها وأقاموا بالأمصار: كالحطيئة، وجرير، والفرزدق، والكمَيت، وغيرهم، لأنها طَرَف من صناعتهم، ولأن الشعر كان لا يزال على بداوته وإن ضعف شيئًا قليلًا. وسيأتي الكلام على هذا النوع مفصلًا في باب الشعر.
أما الرواة فقد انصرفوا عن هذا وأشباهه، وكانوا يرون المعاني على مقادير أصحابها من الشعراء في أوهامهم. فالمعنى الذي يكون لامرئ القيس يكون كامرئ القيس في اعتباره وإجلاله وتحاميه أن يُتَلقّى بالرد والمواجهة، ولذا فشا الغلط بينهم في تفسير الشعر، وأخذ منه التصحيف كلَّ مأخذ؛ ولقد سُئل أبو عمرو بن العلاء عن معنى قول امرئ القيس (ومر تفسيره عن الكميت):
فقال: ذهب مَن يُحسنه.
وقال الأصمعي: سألت أبا عمرو عن قوله (أي الشاعر):
فقال: مات الذين يعرفون هذا؛ وإنما يعني شعراء العرب لا الرواة. وكان أبو عمرو نفسه يقول: العلماء بالشعر أقل من الكبريت الأحمر.
فلما أخذ الخلفاء وأمراؤهم يطارحون الرواة ويذاكرونهم في المعاني، وذلك حين استبحر العلم في الدولة العباسية، وكانت قد انحرفت طريقة الشعر بما ذهب إليه المحدثون: كبشار بن برد، ومسلم، وأبي نواس؛ إذ جعلوا يغوصون على المعاني ويتلومون على حوك الشعر وسبكه، وأقبل الناس أيضًا يفتشون على المعاني، وقلّت عنايتهم بالألفاظ — انتبه بعضُ الرواة إلى هذه الجهة من الشعر، وأعطوها قسطها من العناية. فنبغت منهم طبقة لم يُعرف غيرها، ولم تنبغ مع ذلك إلا في معاني أشعار العرب ومن يُستشهد بقولهم دون المولدين؛ وهؤلاء كان في شعرهم أدقَّ معاني وأبعدَ أغراضًا؛ وقد انفرد يومئذ بعلم الشعر على الإطلاق — أغراضه ومعانيه ومذاهب النقد فيه — أهلُ الطبع والبلاغة من أدباء الكتاب الذين صرّفوا في القول في فنونه، واندفعوا إلى مضايقه وحزونه؛ قال الجاحظ: طلبت علم الشعر عند الأصمعي فوجدته لا يعرف إلا غريبه (الألفاظ والمعاني الغريبة)، فسألت الأخفش فلم يعرف إلا إعرابه، فسألت أبا عبيدة فرأيته لا ينفذ إلا فيما اتصل بالأخبار؛ ولم أظفر بما أردت إلا عند أدباء الكتاب، كالحسن بن وهب وغيره.
أما الطبقة التي أومأنا إليها فرجالها ثلاثة: خلف الأحمر، والأصمعي، وجهم بن خلف المازني؛ وهو معاصرهما؛ وكانوا ثلاثتهم يتقاربون في ذلك، وامتاز خلفٌ بقول الشعر وإحسانه وإجادته حتى لا ينزل عن الطبقة التي يقارنه بها، ومن ثم كان ينحل الشعراء المتقدمين؛ ذهابًا بنفسه واعتدادًا بما تطوّع له؛ وكان أيضًا أعلم الرواة بالشعر ومعانيه ومذاهب الشعراء فيه، ثم هو معلِّم الأصمعي ومعلم أهل البصرة، وقد أجمعوا على أنه أفرس الناس ببيت شعر، وكان علماؤهم لا يتكلمون في الشعر ونقده ما لم يكن حاضرًا، ولا يراجعونه في قول إن قال وفي رأي إن رأى؛ ولكن الأصمعي فاته بمعرفة النحو مع مقاربته له في المعاني وصدقه في الرواية؛ ولذا فضَّلوه عليه؛ وكان للأصمعي ذهن ثاقب وطبع صحيح؛ فما لبث في أواخر عهده أن صار أبعد نظرًا في الشعر من أستاذه وأوسع روايةً فيه؛ حتى كان الرشيد يسميه شيطان الشعر؛ وقال ابن الأعرابي: شهدت الأصمعي وقد أنشد نحوًا من مائتي بيت ما فيها بيت عرفناه.
وأما جهم بن خلف المازني فهو يقارب الأصمعي وخلفًا، وينفرد دونهما بسعة علمه في عادات العرب وحقائق أوصافها؛ ولذا كان كثير الشعر في الحشرات والجارح من الطير ونحوها؛ إلى ما يتصل بذلك من معاني البادية التي لا ينفذ في حقائقها إلا العربي القُحّ وإلا البدوي الجافي.
ولم يساو هذه الطبقة أحدٌ ممن جاء بعدهم من الرواة، إلا ابن دريد المتوفى سنة ٣٢١؛ وكان أحفظ الناس، وأوسعهم علمًا، وأقدرهم على الشعر، وأبصرهم بمذاهبه؛ ولذلك نظَّروه بخلف، وقالوا: ما ازدحم العلم والشعر في صدر أحد ازدحامهما في صدر خلف الأحمر وابن دريد، ولو كان الأصمعي يجمع إلى علمه وروايته القدرة على الشعر وصوْغه لكان نادرة التاريخ العربي كله بلا امتراء.
وقد وقفنا للجاحظ على فصل نادر يصف به رُواة عصره في معرفتهم بالشعر وبَصَرِهِم بمعانيه وما تَلْتَمِسُ من أغراضه كل طائفة منهم، وانصراف الناس يومئذ إلى حقيقة الشعر والتفتيش على دقائقه مما هو من محض البلاغة وصميم الفصاحة، ثم ما تدرّجوا فيه من ذلك، ونحن نورد كلامه توفيةً لفائدة هذا الفصل، ولكنا ننبهك إلى أن الجاحظ يتحامل على مَن أدركه من الرواة الذين كان إليهم أمر اللغة؛ لأنهم لم يوثِّقوه، بل ذمُّوه وهجَّنوا كتبه، وتنقَّصوا روايته؛ وسنشير إلى ذلك بعد.
قال الجاحظ: قد أدركت رواة المسجديين والمَربديَين؛ ومن لم يرو أشعار المجانين (كمجنون بني جعدة، ومجنون بني عامر، وغيرهما من العشاق)، ولصوص الأعراب، ونسيب الأعراب، والأرجاز الأعرابية القصار، وأشعار اليهود، والأشعار المنصَّفة — فإنهم كانوا لا يعدُّونه من الرواة؛ ثم استبردوا ذلك كله ووفقوا على قصار الأحاديث والقصائد والفِقَر والنتف من كل شيء؛ ولقد شهدتهم وما هم على شيء أحرص منهم على نسيب عباس بن الأحنف؛ فما هو إلا أن أورد عليهم خلف الأحمر نسيب الأعراب فصار زهدُهم في نسيب العباس بقدر رغبتهم في نسيب الأعراب، ثم رأيتهم منذ سُنيّات وما يَروي عندهم نسيب الأعراب إلا حدث السن قد ابتدأ في طلب الشعر، أو فتيانيّ متغزل؛ وقد جلست إلى أبي عبيدة والأصمعي ويحيى بن تخيم وأبي مالك عمرو بن كركرة مع من جالست من رواة البغداديين، فما رأيت أحدًا منهم قصد إلى شعر في النسيب فأنشده؛ وكان خلف يجمع ذلك كله، ولم أر غاية النحويين إلا كل شعر فيه إعراب، ولم أر غاية رواة الأشعار إلا كل شعر فيه غريب أو معنى صعب يحتاج إلى الاستخراج، ولم أر غاية رواة الأخبار إلا كلَّ شعر فيه الشاهد والمثل، ورأيت عامتهم — فقد طالت مشاهدتي لهم — لا يقفون على الألفاظ المتخيرة والمعاني المنتخبة، وعلى الألفاظ العذبة، والمخارج السهلة، والديباجة الكريمة، وعلى الطبع المتمكن، وعلى السبك الجيد، وعلى كل كلام له ماء ورونق، وعلى المعاني التي إن صارت في الصدور عمرتها وأصلحتها من الفساد القديم، وفتحت للِّسان باب البلاغة، ودلت الأقلام على مدافن الألفاظ، وأشارت إلى حسان المعاني. ورأيت البصر بهذا الجوهر من الكلام في رواة الكتاب أعم، وعلى ألسنة حُذّاق الشعراء أظهر؛ ولقد رأيت أبا عمرو الشيباني يكتب أشعارًا من أفواه جلسائه ليدخلها في باب التحفظ والتذاكر، وربما خُيل إليّ أن أبناء أولئك الشعراء لا يستطيعون أبدًا أن يقولوا شعرًا جيدًا، لمكان إغراقهم في أولئك الآباء، ولولا أن أكون عيّابًا ثم للعلماء خاصةً، لصوّرت لك في هذا الكتاب بعض ما سمعت من أبي عبيدة، ومن هو أبعد في وهمك من أبي عبيدة. ا.ﻫ.
العربية واللغة
ونريد بالعربية النحوَ؛ والكلام فيه سابغ الذيل: إذ يتناول تاريخه وأهله ومذاهبهم فيه ومن انفرد منهم ببعض المذاهب ومن شارك، إلى ما يداخل ذلك ويلتحق به؛ وهو فن من التاريخ لا صلة له بما نحن في سبيله الآن، إلا من جهة استتباعه للشعر واللغة، ومن جهة أنه كان مثار الخلاف بين الطائفتين العظيمتين من البصريين والكوفيين، منذ تجاورا الكلام في مسائله؛ وقد تقدم لنا صدر من القول في الجهة الأولى، ونحن نردفه بفصل موجز عن الجهة الثانية، ثم نمسك سائر ما يتعلق بهذا النحو إلى موضعه من باب العلوم إن شاء الله.
وكان أبو زيد وأبو عبيدة يخالفان الأصمعي ويناويانه كما يناويهما؛ فكلهم كان يطعن على صاحبه بأنه قليل الرواية، وكانت اللغة متنازعة بينهم، فيتفق الصاحبان وينفرد الأصمعي وحده بالخلاف، والكوفيون لا يرون فيهم ولا في الناس أعلم باللغة من الفراء المتوفى سنة ٢٠٧، وكان من رءوسهم وقالوا فيه: إنه لولاه لما كانت اللغة؛ لأنه حصَّلها وضبطها، ولولاه لسقطت العربية؛ لأنها كانت تُنازَع ويدّعيها كل من أراد، ويتكلم الناس على مقادير عقولهم وقرائحهم فتذهب.
ثم انتهى علم اللغة في البصريين إلى ابن دريد، وهو خاتمة رواتهم وآخر ثقاتهم، لم تُفْتح بعده صفحة في التاريخ لما يسمَّى بصريًّا أو كوفيًّا من هذا العلم.
ولما دوِّنت كتب الأئمة في اللغة وتناقلها رواتها بالأسانيد، كثر فيها التزيّد، وركب النساخ منها عبثًا كثيرًا، إلى أن جاء الأزهري المتوفى سنة ٣٧٠، وهو صاحب كتاب التهذيب؛ فتفقد كتبهم، وتأمل نوادرهم، ونظر في الكلام المصحَّف، والألفاظ المزالة عن وجهها أو المحرفة عن معناها، وما أُدخل في الكلام مما هو ليس من لغات العرب، وما اشتملت عليه الكتب التي أفسدها الورّاقون وغيَّرها المصحفون؛ واعتبر كل ذلك اعتبار ناقد يتصفح على الرواة ويطلب مواضع الثقة فيما يروى عنهم؛ ثم إنه بعد أن أمعن في ذلك واستقصى، قال: إنه وجد عُظْمَ ما رُوِيَ لابن الأعرابي وأبي عمرو الشيباني وأبي زيد وأبي عبيدة والأصمعي — معروفًا في الكتب التي رواها الثقات عنهم والنوادر المحفوظة لهم، فخص بالثقة هؤلاء دون سائر الرواة.
البصريون والكوفيون
أولية العربية في الكوفة
وقد رأينا المتوسمين بالأدب لا يميزون عهد الكوفيين من عهد البصريين، ولا يدرون متى اشتغل الكوفيون بالمذاهب المقصورة عليهم، والحدود المنسوبة إليهم؛ بل يحسبون أن أول بصري من النحاة وُجد معه أول نحوي من الكوفيين؛ وذلك جهل فاحش بتاريخ الرواية والجبهة المتقدمة في الرواة، ونحن لم نقف على كلام لأحد في أولية العربية بالكوفة، بيد أن ذلك لم يقعد بنا عن التتبع والاسترواح، كسائر ما نستفرغ الهمم فيه من أصول هذا الكتاب وفصوله.
والذي ثبت لنا أن أولية العربية إنما كانت في البصرة؛ لأن أبا الأسود الدؤلي قد نزل بها وأخذ عنه جماعة هناك، فكان كل أصحابه الذين شققوا العربية بعده بصريين، ثم انتقل النحو إلى الكوفة، وكانت الرواية فيها مقصورة على الشعر وما يتصل به من النسب والخبر، كشأنها من أول العهد بالإسلام؛ ومن أقدم رواتهم الخثعمي، وقد أومأنا إليه من قبل، ومنهم ثم من أعلمهم أبو البلاد الكوفي، وكان أعمى جيد اللسان، وهو في زمن عبد الملك بن مروان، فلا بد أن تكون نشأته في منتصف القرن الأول؛ ثم ظهر بعده حماد الراوية، وهو لحّانة لا يُذكر في العربية؛ ولكن أول من عُرف بالنحو من الكوفيين إنما هو شيبان بن عبد الرحمن التميمي النحوي المتوفى سنة ١٦٤، وكان بصريًّا ثقةً، غير أنه انتقل إلى الكوفة وسكن بها زمانًا، وهو من تلامذة أبي عمرو بن العلاء؛ وظهر معه معاذ الهرّاء واضع التصريف، وقد عُمّر طويلًا حتى قارب المئة، وتوفي سنة ١٨٧، ثم نَجَمَ رأسُ علماء الكوفيين وأستاذهم وأول من ألّف منهم كتابًا في العربية، وهو أبو جعفر الرؤاسي، وكان معاذ الهراءُ عمَّه فأخذ عنه، ثم أخذ عن عيسى بن عمر من تلامذة أبي الأسود، وعن هذين (معاذ والرؤاسي) أخذ عليّ بن حمزة الكسائي المتوفى سنة ١٨٩، وهو الذي رسم للكوفيين الحدود التي عملوا عليها وخالفوا بها البصريين؛ وكان فيهم كالخليل بن أحمد في أولئك.
وفي الكسائي وتلميذه يقول ابن الأنباري (وهو من الكوفيين أيضًا): لو لم يكن لأهل بغداد والكوفة من علماء العربية إلا الكسائي والفراء، لكان لهم بهما الافتخار على جميع الناس؛ إذ انتهت العلوم إليهما، وكان يقال: الفراء أمير المؤمنين في النحو.
ومن لدُن الكسائي غلَبَ أهلُ الكوفة على بغداد، لخدمتهم الخلفاء وتقديمهم إياهم كما علمت، فغلبوا بذلك البصريين على أمرهم، ورغب الناس من يومئذ في الروايات الشاذة، وتفاخروا بالنوادر، وتباهوا بالترخيصات، وتركوا الأصل واعتمدوا على الفروع؛ ومن ذلك بدأ اختلاط المذاهب الذي عدَّه البصريون اختلاطًا للعلم؛ لأن مذاهب الكوفيين ليست عندهم من العلم الصريح.
مذهب الطائفتين
وقد انفرد كل من البصريين والكوفيين بمذاهب في العربية استخرجوها من كلام العرب أو وضعوها محاكاةً لكلامهم، كالذي كان يصنعه علماء الكوفة؛ وليس من عالم إلا وقد أخذ بمذاهب هؤلاء أو أولئك أو خلط بين المذهبين — كما سنفصله في باب النحو ونذكر أهله إن شاء الله — بيد أن البصريين كانوا يأنفون أن يرووا عن الكوفيين لضعفهم وتعلقهم بالشاذ، وارتفاعهم عن البوادي الفصيحة، وكانوا لا يرون الأعراب الذين يحكون عنهم حجة في العربية؛ لأنهم غير خُلَّص؛ وكما تركوا عربيتهم تركوا شعرهم، لا لأنه فاسد كله، ولكن لمجيئه على مذاهبهم؛ قالوا: وأول من أحدث السماع في البصرة خلفٌ الأحمر، وذلك أنه جاء إلى حماد الراوية فسمع منه الشعر، ثم تابعه البصريون فأخذوا عن حماد بعد ذلك، لانفراده بروايات من الشعر؛ فإنه هو الذي أخذ عنه كلّ شعر امرئ القيس، إلا شيئًا أخذوه عن أبي عمرو بن العلاء ومع ذا فكان البصريون لا يرون حمادًا ثقة ولا مأمونًا، لأنه كوفي وكفى!
أما في النحو واللغة فلا يعلم أحد من علماء البصريين أخذ شيئًا منهما عن أحد من أهل الكوفة، ولا روى عنهم شيئًا من الشعر أيضًا؛ لأن الذين أخذوا عن حماد إنما كانوا يطلبون الشعر ليرووه شعرًا لا ليقيموا منه الشواهد، ولا يُعرف في تاريخ البصريين من روى الشعر عن الكوفيين للشاهد، إلا أبا زيد الأنصاري، فإنه روى عن المفضّل الضبي؛ لثقته في الشعر وتحرّيه؛ إذ لم يكن للكوفيين راوية يذكر بإزاء علماء البصرة إلا المفضل هذا؛ وهو أوثق من روى الشعر منهم؛ وقد اختص به دون العربية واللغة؛ ولذلك أمنوا جانبه.
وكان الكوفيون يأخذون عن أهل البصرة، وما من أحد من أساتذتهم إلا وقد تلمذ لبصري، ولكنهم كانوا يتميزون بروايتهم؛ حتى لم يكن فيهم أحد أشبه رواية برواية البصريين إلا ابن الأعرابي «توفي سنة ٢٣١»، وهو ممن أخذوا عن الكسائي؛ ولم يُر أحد في علم الشعر واللغة كان أغزر منه؛ وكذلك لا يُعرف أحد في رواة المصرين كان أشد عصبية من ابن الأعرابي هذا؛ قال أبو عمرو الطوسي: كان يدع ما يعرف ويركب الخطأ ويقيم في العصبية عليه … وكان يضع من أبي تمام، فجئته يومًا ومعي أرجوزته:
فقرأتها عليه «على أنها لبعض شعراء هذيل»، فقال: لا تبرح والله حتى أكتبها، فأمليتها عليه فكتبها بخطه، فلما فرغ قلت: هذا الذي تعيبه أبو تمام! فخرقها وقال: ولذا يظهر عليها أثر التكلف …!
وبعدُ، فهذا مُجمل من أمر الرواية والرواة، لولا أني حبست من نفس المقال، وعدلت بالقلم عن انتجاع الغيث إلى البَلال لأمضيت البحث لطيَّته، وتركت الخاطر على سجيته، ولكنها قصبة من جناح قد طار، وأثارة من علم صار من الإهمال إلى ما صار، وإن هو إلا بساط كان منشورًا فطُوِي، وحديثٌ قيل ثم رُوي.