البلاغة النبوية
فصل
هذه هي البلاغة الإنسانية التي سجدت الأفكار لآيتها، وحسرت العقول دون غايتها، لم تُصنَع وهي من الإحكام كأنها مصنوعة، ولم يُتكلَّف لها وهي على السهولة بعيدةٌ ممنوعة.
ألفاظ النُّبُوَّة يعمرُها قلبٌ متصلٌ بجلال خالقه، ويصقِلها لسان نزل عليه القرآنُ بحقائقه، فهي إن لم تكن من الوحي ولكنها جاءت من سبيله، وإن لم يكن لها منه دليلٌ فقد كانت هي من دليله، مُحكمَة الفصول، حتى ليس فيها عروة مفصولة، محذوفة الفضول، حتى ليس فيها كلمةٌ مفضُولة؛ وكأنما هي في اختصارها وإفادتها نبضُ قلب يتكلم، وإنما هي في سُموِّها وإجادتها مظهرٌ من خواطره ﷺ.
إن خرجت في الموعظة قلتَ أنينٌ من فؤاد مقروح، وإن راعت بالحكمة قلتَ صورةٌ بشرية من الروح في مَنزَع يلين فينفر بالدموع، ويشتدُّ فينزو بالدماء، وإذا أراك القرآنُ أنه خطاب السماء للأرض أراك هذا أنه كلام الأرض بعد السماء.
فصاحتهﷺ
سنقول في هذا الباب بما يَحْضُرنا من جملة القول، لا نَسْتَرْسِلُ في الاتِّساع ولا نبسُط البَسْطَ كله، كما أننا لا نقفُ دون القصد، ولا نَنْكل عن الغرض الذي يتعلق بكتابنا، فإنَّا لو ذهبنا نستقصي في الكلام عن رسول الله ﷺ ونشأته وأدبه وأثره في العرب وفي أحوالهم، وما كان لهم منه، ثم ما كان له منهم، إلى كل ما يتصل بذلك سببًا من الأسباب، أو يُداخِله جهةً من الجهات، أو يتعلق به ضربًا من التعلُّق — لذهبنا إلى سَعَةٍ من القول، وإلى فنون مختلفةٍ من التاريخ وفلسفته، تحفِلُ ببعضها الأجزاء الكثيرة والكتب المفردة، ولكنا سنَقصر الكلام على جهة واحدة من ذلك كله، وقد وسعنا العذرُ بما اعتذرنا.
أما فصاحته ﷺ فهي من السَّمْتِ الذي لا يؤخذ فيه على حقِّه، ولا يتعلق بأسبابه متعلق، فإن العرب وإن هذَّبوا الكلام وحذفوه وبالغوا في إحكامه وتجويده، إلا أن ذلك قد كان منهم عن نظر متقدم، ورويَّة مقصودة، وكان عن تكلُّف يُستعان له بأسباب الإجادة التي تسمو إليها الفطرةُ اللغوية فيهم، فيُشبه أن يكون القول مصنوعًا مقدرًا على أنهم مع ذلك لا يَسلمون من عيوب الاستكراه والزلل والاضطراب، ومن حذفٍ في موضع إطنابٍ وإطناب في موضع حذف، ومن كلمة غيرها أليقُ، ومعنى غيرُه أردُّ، ثم هم في باب المعنى ليس لهم إلا حكمة التجربة، والأفضل ما يأخذ بعضهم عن بعض، قلَّ ذلك أو كثر، والمعاني هي التي تعمر الكلام وتستتبع ألفاظه، وبحسَبها يكون ماؤه ورونقُه، وعلى مقدارها وعلى وجه تأديتها يكون مقدارُ الرأي فيه ووجهُ القطع به.
ولا نعلم أن هذه الفصاحة قد كانت له ﷺ إلا توفيقًا من الله وتوقيفًا إذ ابتعثه للعرب وهم قومٌ يقادون من ألسنتهم، ولهم المقامات المشهورة في البيان والفصاحة؛ ثم هم مختلفون في ذلك على تفاوُت ما بين طبقاتهم في اللغات وعلى اختلاف مَوَاطنهم كما بسطناه في موضعه من الجزء الأول من تاريخ آداب العرب، فمنهم الفصيح والأفصح، ومنهم الجافي والمضطرب، ومنهم ذو اللوثة والخالصُ في منطقه، إلى ما كان من اشتراك اللغات وانفرادها بينهم، وتخصُّص بعض القبائل بأوضاعٍ وصيغٍ مقصورة عليهم، لا يُساهمهم فيها غيرُهم من العرب، إلا من خالطهم أو دنا منهم دنوَّ المأخذ.
فكان ﷺ يعلم كلَّ ذلك على حقه؛ كأنما تُكاشِفُه أوضاعُ اللغة بأسرارها، وتُبادره بحقائقها؛ فيُخاطب كلَّ قوم بلحنهم وعلى مذهبهم، ثم لا يكون إلا أفصحهم خطابًا، وأسدهم لفظًا، وأبينهم عبارة، ولم يُعرف ذلك لغيره من العرب، ولو عُرف لقد كانوا نقلوه وتحدثوا به واستفاض فيهم.
فهذه واحدة، وأما الثانية: فقد كان ﷺ في اللغة القرشية التي هي أفصحُ اللغات وأبينها، بالمنزلة التي لا يُدافع عليها، ولا ينافس فيها، وكان من ذلك في أقصى النهاية، وإنما فَضَلَهم بقوة الفطرة واستمرارها وتمكنها مع صفاء الحس ونفاذِ البصيرة واستقامة الأمر كله، بحيث يُصرِّف اللغة تصريفًا، ويُديرها على أوضاعها، ويشقِّق منها في أساليبها ومفرداتها ما لا يكون لهم إلا القليل منه؛ لأن القوة على الوضع والكفاية في تشقيق اللغة وتصاريف الكلام، لا تكون في أهل الفطرة مزاولة ومُعَاناةً، ولا بعد نظرٍ فيها وارتياض لها، إنما هي إلهام بمقدار ما تهيئ له الفطرة القوية، وتعين عليه النفس المجتمعةُ والذهنُ الحادُّ والبصر النفَّاذ، فعلى حسب ما يكون للعربي في هذه المعاني، تكون كفايته ومقدار تسديده في باب الوضع.
وليس في العرب قاطبة من جمع الله فيه هذه الصفات، وأعطاه الخالصَ منها، وخصه بجملتها، وأسْلَسَ له مآخذَها، وأخلص له أسبابها كالنبي ﷺ فهو اصطنعه لوحيه، ونَصَبَه لبيانه، وخصه بكتابه، واصطفاه لرسالته؛ وماذا عسى أن يكون وراء ذلك في باب الإلهام وجَمام الطبيعة وصفاءِ الحاسة وثقُوبِ الذهن واجتماعِ النفس وقوة الفطرة ووَثَاقَة الأمر كله بعضه إلى بعض؟
ولو هم اطلعوا منه على غير ذلك، أو ترامى كلامُهُ إلى شيء من أضداد هذه المعاني، لقد كانوا أطالوا في رد فصاحته وعرَّضوا، ولكان ذلك مأثورًا عنهم دائرًا على ألسنتهم، مستفيضًا في مجالسهم ومناقلاتهم، ثم لردوا عليه القرآن، ولم يستطع أن يقوم لهم في تلاوته وتبيينه، ثم لكان فيهم من يَعيب عليه في مجلس حديثه ومحاضرة أصحابه، أو ينتقص أمره ويَغُضُّ من شأنه، فإن القوم خُلَّصٌ لا يستجيبون إلا لأفصحهم لسانًا، وأبينهم بيانًا، وخاصة في أوَّل النبوَّة وحِدْثان العهد بالرسالة، فلما لم يعترضه شيء من ذلك، وهو لم يخرج من بين أظهرهم، ولا جلا عن أرضهم، ورأينا هذا الأمر قد استمر على سُنَّتِه واطَّرَد إلى غايته، وقام عليه الشاهد القاطع من أخبارهم، كما ستعرفه، علمنا قطعًا وضرورة أنه ﷺ كان أفصح العرب، وافيًا بغيره، كافيًا من سواه، وأنه في ذلك آيةٌ من آيات الله لأولئك القوم، وكَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ الله آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ.
صفته ﷺ
ليس في التاريخ العربي كله مَن جُمعَتْ صفاته وأحصيت شمائله وتواتر النقل بذلك جميعه من طرق مختلفة على توثق إسنادها — غير النبي ﷺ وهذا أصل لا يُعْدَلُ به شيء في بيان حقائق الأخلاق، والاستدلال على قوَّة الملكات، واستخرج الصفات النفسية التي حَصلَ من مجموعها أسلوبُ الكلام على هيئته وجهته، وانفرد بما عسى أن يكون منفردًا به، أو شارك فيما عسى أن يكون مشاركًا فيه؛ وعلى هذه الجهة نأتي بطرفٍ من صفته ﷺ.
ولقد أفاضوا في تحقيق أوصافه ﷺ بأكثر من ذلك ألفاظًا ومعانيَ، ونقلوا الكثير الطيب من هذه الأوصاف الكريمة في كل باب من محاسن الأخلاق، مما لا يتسع هذا الموضع لبسطه. فتأمل أنت هذه الصفات واعتبر بعضها ببعض في جملتها وتفصيلها، فإنك متوسِّمٌ منها أروعَ ما عسى أن تدل عليه دلائل الحكمة، وسمةُ الفضيلة، وشدةُ النفس وبُعْدُ الهمة، ونفاذُ العزيمة، وإحكام خُطَّةِ الرأي، وإحراز جانب الخُلُق الإنساني الكريم.
وانظر كيف يكون الإنسان الذي تسع نفسه ما بين الأرض وسمائها، وتجمع الإنسانيةَ بمعانيها وأسمائها، فهو في صلته بالسماء كأنه مَلَكٌ من الأملاك، وفي صلته بالأرض كأنه فلكٌ من الأفلاك، وما خُصَّ بتلك الصفات إلا ليملأ بها الكونَ ويعُمَّه، ولا كان فردًا في أخلاقه إلا لتكون من أخلاقه روح الأمة.
وإذا رَجَعْتَ النظرَ في تلك الصفات الكريمة واعتبرتَها بآثارها ومعانيها رأيتَ كيف يكون الأساسُ الذي تُبنى عليه فِرَاسَةُ الكمال في نوع الإنسان من دَلالة الظاهر على الباطن، وتحصيل الحقيقة النفسية التي هي بطبيعتها روحُ الإنسان في أعماله، أو أثرُ هذه الروح، أو بقيةُ هذا الأثر، فإذا تأملتها متَّسِقةً، وتمثلتَها قائمةً في جملة النفس، وأنعمتَ على تأمل صُورها الكلامية التي تبعث الكلام وتزِنُه وتنظمه وتعطيه الأسلوبَ وتُجْملُه بالرأي وتُزَيِّنُه بالمعنى، فإنك ستجد من ذلك أبلغَ ما أنت واجدُه من الأساليب العصبية في هذه اللغة وأشدها وأحكمها، مما لا يضطرب به الضعفُ، ولا تُزايلُه الحكمة ولا تخذُله الرَّوِيَّة، ولا يباينه الصواب؛ بل يخرج رصينًا غير مُتَهافت، مُتَّسقًا غيرَ مُتَفَاوت، لا يغلب على النفس التي خرج منها، بل تغلب عليه، ولا تسترسل به المخيلة، بل يَضبطه العقل، ولا يتوثَّبُ به الهاجس بل يحكمه الرأي، ولا يَتَدَافَعُ من جهاته، ولا يتعارض من جوانبه؛ بل تراه على استواءٍ واحدٍ في شدةٍ وقوةٍ واندماجٍ وتوثيق.
وهذا هو الأسلوب العصبي الممتلئ الذي قلما يتفق منه إلا القليل لأبلغ الناس وأفصحهم، وقلَّما يكون أبلغُ الناس وأفصحُهم في كل دهر إلا عصبيًّا على تفاوت في نوع المزاج وحالته؛ فإن من الأمزجة العصبيَّ البحتَ، والمنحرفَ إلى مزاجٍ آخر، ولكل من النوعين حالة قائمةٌ بالكلام، وصفة خاصة بالأسلوب.
وبالجملة، فإن النَّدْرَةَ في الأساليب العصبية: أن تجد منها ما إذا أصبتَه موثَّقَ السَّرْدِ متدامج الفِقَر محبوكَ الألفاظ جَيِّدَ النحت بالغ السبك — أن تجده مع ذلك رصينًا متثبتًا في نسقِ معانيه وألفاظِه، لا يتزيَّد بهذه ولا يتكثَّرُ بتلك، ولا يخالطه من فنون الأقاويل ما تستطيع أن تنفيه، ولا يتولَّاه ما تتأتى إليه من وجه التَّخْطِئَة؛ وأن تجدَه بحيث يمتنع أن تقول فيه قولًا، أو تذهب فيه مذهبًا؛ وبحيث تراه من كل جهة مُتسايرًا لا يتصادم ومُطَّرِدًا لا يتخلَّف.
ونحن فلسنا نعرف في هذه العربية أسلوبًا يجتمع له مع تلك الحالة العصبية هذه الصفة، ويكون سواءً في الحدة والرصانة، مبنيًّا من الفكرة بناءَ الجسم من اللحم، متوازنًا في أعصاب الألفاظ وأعصاب المعاني، يثور وعليه مَسْحة هادئة فكأنه في ثورته على استقرار. وتراه في ظاهره وحقيقتِه كالنجم المتَّقِدِ: يكون في نفسك نورًا وهو في نفسه نار.
لسنا نعرف أسلوبًا لأحد البلغاء هذه صفتُهُ، على كثرة ما قرأنا وتدبَّرنا واستخرجنا، وعلى أنه لم يَفُتنا من أقوال الفصحاء قولٌ مأثورٌ، أو كلام مشهور إلا ما يمكن أن يُجْزِئ بعضُه من بعضه في هذه الدلالة، فإنا لم نقرأ كلَّ ما كتب عبدُ الحميد، وابنُ المقفع، والجاحظ، وهذه الطبقة العصبية، ولكنا قرأنا لهم كثيرًا أو قليلًا، وبعضُ ذلك في حكم سائره؛ لأن الأسلوب واحد والطريقةَ واحدة، ومذهب الموجود هو مذهب المفقود — ولم نجد ألبتةَ في هذا الباب غيرَ أسلوب أفصح العرب ﷺ فإن هذا الكلام النبوي لا يعتريه شيء مما سمَّينا لك آنفًا؛ بل تجده قصدًا محكمًا متسايرًا يشدُّ بعضُه بعضًا وكأنه صورة روحية لأشدِّ خلق الله طبيعة، وأقواهم نفسًا وأصوبهم رأيًا، وأبلغِهِم معنًى، وأبعدِهم نظرًا، وأكرمهم خُلُقًا؛ وهذا وشِبْهُه لا يتأتى إلا بعناية من الله تأخذ على النفس مذاهبها الطبيعية، وتتصرف بشدتها على غير ما يبعثُ عليها الطبعُ الحديد والخلُق الشديد، وتخرجها من كل أمر متكافئةً متوازنة، بحيث يظهر أثرُ النفس في كل عمل، فيأتي وكأنه من ذلك نفسٌ على حدة. ومن أولى بهذه العناية ممن يخاطبه الله تعالى بقوله: وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا.
وعلى هذه الجهة، لا على غيرها، يُحمَل قوله ﷺ لأبي بكر حين قال له (رضي الله عنه): لقد طفتُ في العرب وسمعتُ فصحاءهم فما سمعت أفصح منك فمن أدَّبَك «أي علمك»؟ فقال — عليه الصلاة والسلام: «أدبني ربي فأحسنَ تأديبي.» وقوله مثلَ ذلك لعليٍّ أيضًا، كما سيأتي في موضعه؛ ثم قوله: «أنا أفصحُ العرب.» وما كان من هذا المعنى؛ لأنه يستحيل أن يكون مع أحد من ذلك الذي بيناه ما خصَّ الله به نبيه — عليه الصلاة والسلام — إذ الاستحالةُ راجعة إلى الطبع والجِبلَّة وخلق الفطرة، مما لا يتغير في الناس إلا أن يخرق الله به العادة على وجه المعجزة ليقضي أمرًا من أمره، وأنَّى لامرئ بذلك من العرب غير النبي ﷺ؟
وهذا الذي أشرنا إليه آنفًا، إنما هو الأصل في أن الكلام النبوي جامعٌ مجتمعٌ، لا يذهب في الأعمِّ الأغلب إلى الإطالة بل هو كالتمثال: يأتي مقدَّرًا في مادته ومعانيه وأسلوب الجمع بينهما وربط الصورة بالمعنى كما سنأتي عليه بعد.
ولعل من لم يتسع في العلم، ولم يعرف مقاديرَ الكلام، يظن أننا تكلَّفنا له من الامتداح والتشريف، ومن التزيين والتجويد، ما ليس عنده ولا يبلغه قدره. كلَّا والذي حرَّم التزيُّدَ عند العلماء، وقَبَحَ التكلفَ عند الحكماء، وبَهْرَجَ الكذَّابين عند الفقهاء — لا يظن هذا إلا من ضلَّ سعيُه.
إحكام منطقه ﷺ
قد رأيت فيما مر من صفته — عليه الصلاة والسلام — أنه كان ضَلِيع الفم، يفتتح الكلام ويختمه بأشداقه، وعلمت من معنى ذلك أنه كان يستعمل جميع فمه إذا تكلم، لا يقتصر على تحريك الشفتين فحسبُ، ولقد كانت العربُ تَتمادَحُ بسعة الفم وتَذم بصغره؛ لأن السعة أدلُّ على امتلاء الكلام، وتحقيق الحروف وجَهَارةِ الأداء وإشباع ذلك في الجملة، ولأن طبيعة لغتهم ومخارجَ حروفها تقتضي هذا كله ولا تحسُنُ في النطق إلا به، ولا تبلُغ تمامها إلا أن يبلغ فيها، وهو بعدُ مَزِيَّتُها الظاهرةُ في أفصح أساليبها؛ إذ كانت الفصاحة راجعة إلى حسن الملاءمة بين الحروف باعتبار أصواتها ومخارجها، حتى تستويَ في تأليفها على مذاهب الإيقاع اللغوي، كما بسطناه في كل موضع اقتضاه من هذا الكتاب.
وذلك أمر لم يكن علمُ أولئك القوم به على الهاجس والظن، أو المقاربةِ والتقدير، إنما هو أساس منطقهم، وعتاد لغتهم، فكانوا سواءً في المعرفة به وفي الحاجة إليه، من استوفاه منهم اتَّسقت له الفضيلة البيِّنة، ومن قصر فيه أخْمَلَه تقصيرُه حتى كأنما انطوت حقيقته العربية في فمه، أو كأنما أكل نفسه … ولهم في كل ذلك من البيان والصوت أخبار وأشعار لا حاجة بنا إلى تمثُّلها وقَصِّها.
فأنت ترى أن هذا هو المنطقُ الذي يمرُّ بالفكر قبل أن ينطلق إلى الفم، وأن العقل فيه من وراء اللسان فهو غالب عليه مُصرِّفٌ له، حتى لا يعتريه لبسٌ، ولا يتخوَّنه نقص، وليس إحكامُ الأداء ورَوعة الفصاحة وعذوبة المنطق وسلاسة النظم إلا صفات كانت فيه ﷺ عند أسبابها الطبيعية. كما مَرَّ آنفًا. لم يتكلف لها عملًا، ولا ارتاض من أجلها رياضةً، بل خُلق مستكملَ الأداة فيها، ونشأ مُوَفَّر الأسباب عليها، كأنه صورة تامة من الطبيعة العربية.
ولا تمنع أن يكون من فصحاء العرب من يشاركه فيها أو في بعضها: فإنها مظاهر للكلام لا غير؛ وإنَّما الشأن الذي انفرد به ﷺ أنه مُنزَّه عن النقص الذي يعتري الفصحاء من جهتها أحيانًا كثيرة وقليلة؛ لأنها طبيعية فيه، ولأن من ورائها تلك النفسَ العظيمة الكاملةَ التي غلبت على كل أثر إنساني يصدر عنها، حتى قرَّت أعمالُها على نظام لا تُعدُّ فيه الفلتَةُ، ولا يؤخذ عليه مأخذٌ، وحتى كأن كلَّ عمل منها هو كذلك في أصل التركيب وطبع الخلقة، وهذه خصوصية ينفرد بها الأنبياء — صلوات الله عليهم — إذ هم أمثلة الكمال الإنساني في هذه الخليقة، تنصبهم يدُ الله على طريق الحياة لتنتهي فيهم عصورٌ وتبتدئ بهم عصور وليسددوا خُطا العقل في تاريخه، وهي من الجهة اللغوية مما انفرد به نبينا ﷺ في عربيته، وما يمنعه منها، وإنَّما أُنزل القرآن بلسانه لسانٍ عربي مبين.
اجتماع كلامه ﷺ وقلَّتُه
هذا إلى أن اجتماع الكلام وقلةَ ألفاظه، مع اتساع معناه وإحكام أسلوبه في غير تعقيد ولا تكلف، ومع إبانة المعنى واستغراق أجزائه، وأن يكون ذلك عادةً وخُلُقًا يجري عليه الكلامُ في معنًى معنى وفي باب باب — شيءٌ لم يُعرف في هذه اللغة لغيره ﷺ؛ لأنه في ظاهر العادة يستهلك الكلامَ ويستولي علية بالتكلف، ولا يكون أكثر ما يكون إلا باستكراهٍ وتَعَمُّل؛ كما يشهد به العيان والأثر، فكان تيسير ذلك للنبي ﷺ واستجابتُه على ما يريد وعلى النحو الذي خرج به — نوعًا من الخصائص التي انفرد بها دون الفصحاء والبلغاء، وذهب بمحاسنها في العرب جميعًا.
وهذا هو الذي كان يُعْجَبُ له أصحابه، ويرونه طبقة في هذا اللسان وطرازًا لا يُحسنه إنسان، حتى إن أبا بكر (رضي الله عنه) قال له مرة: لقد طفت في العرب وسمعت فصحاءهم، فما سمعت أفصح منك؛ فمن أدَّبَك «أي علمك»؟ قال: «أدبني ربي فأحسن تأديبي.»
وهذا خبر متظاهر، وقد مرَّ بك، وهيهات أن يكون في العرب فصيحٌ تُعَرِّفُه فصاحتُه ولا يكون قد سمعه أبو بكر، متكلمًا أو خطيبًا أو منشدًا في سُوق أو موسم أو حفل؛ فإنه (رضي الله عنه) في علم العرب وأنسابِها وأخبارِها ولغاتها وآثارها — الغايةُ التي يُنتهى إليها ويُوقَفُ عندها، حتى لا يُعْدل به عَدْل؛ وحسبُك أن أنسب العرب في صدر الإسلام، وهو جُبَيْر بنُ مطعم، إنما عنه أخذ ومنه تعلَّم، وإذا قالوا في المبالغة: أنسبُ من أبي بكر، فقد قالوا: أنسب الناس!
قلنا: وهذه مدة لا تقدر في عرفنا بأقل من ساعتين، وحسبك بكلام من البلاغة النبوية يستوفيهما، بَيْدَ أن الإقلال كان في الأعم الأغلب، حتى ورد أنه كان يأمر بقِصَرِ الخطبة، فروى أبو الحسن المدائني قال: تكلم عَمَّار بن ياسر يومًا، فأوجز، فقيل له: لو زدتَنَا! قال: «أمرنا رسول الله ﷺ بإطالة الصلاة وقَصر الخطبة.» وقد ورد في الحديث: «نحن — معاشر الأنبياء — فينا بُكاء.» أي قلة في الكلام، وهو من بَكَأَتِ الناقةُ والشاةُ إذا قلَّ لبنُها، وتأويله على ما بسطناه آنفًا.
وتكون من جهة العجز، ونقصانِ الآلة، وقلة الخواطر، وسوء الاهتداء إلى جيد المعاني، والجهل بمحاسن الألفاظ، ألا ترى أن الله قد استجاب لموسى — على نبينا وعليه السلام — حين قال: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا * إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيرًا * قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَىٰ * وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَىٰ.
فلو كانت تلك القلةُ من عجز، كان النبي ﷺ أحقَّ بمسألة إطلاق تلك العُقدة من موسى؛ لأن العرب أشد فخرًا ببيانها وطول ألسنتها وتصريف كلامها وشدةِ اقتدارها، وعلى حسب ذلك كانت ذَرابَتُها على كل من قصَّرَ عن ذلك التمام، ونقص من ذلك الكمال. وقد شاهدوا النبي ﷺ وخُطَبَه الطوالَ في المواسم الكبار، ولم يُطل التماسًا للطول، ولا رغبة في القدرة على الكثير، ولكن المعاني إذا كثرت، والوجوهَ إذا افتنَّت كثر عدد اللفظ وإن حُذِفَت فضوله بغاية الحذف، ولم يكن الله ليعطيَ موسى لتمام إبلاغه شيئًا لا يعطيه محمدًا، والذين بُعِثَ فيهم أكثرُ ما يعتمدون عليه البيانُ واللَّسَن.
وإنَّما قلنا هذا لنحسِم وجوه الشغب، لا أن أحدًا من أعدائه شاهد هناك طَرفًا من العجز، ولو كان ذلك مرئيًّا ومسموعًا لاحتجوا على الملا، ولتناجوا به في الخلا، ولتكلم به خطيبُهم، ولقال فيه شاعرهم، فقد عرف الناس كثرة خطبائهم، وتسرُّع شعرائهم. هذا على أننا لا ندري أقال ذلك رسول الله ﷺ أم لم يقله؛ لأن مثل هذه الأخبار يُحتاج فيها إلى الخبر المكشوف، والحديث المعروف، ولكنَّا بفضل الثقة وظهور الحجة، نجيب بمثل هذا وشِبْهه.
وقال الله تعالى وقوله الحق: وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ، ثم قال: وَمَا يَنبَغِي لَهُ، ثم قال — أي في الشعراء: أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ، فعمَّ ولم يخصَّ، وأطلق ولم يقيِّد.
فمن الخصال التي ذمهم بها: تكلفُ الصنعة، والخروج إلى المباهاة، والتشاغل عن كثير من الطاعة، ومناسبة أصحاب التشديق، ومن كان كذلك كان أشد افتقارًا إلى السامع من السامع إليه؛ لشغفه أن يُذكر في البلغاء، وصبابته باللحاق بالشعراء، ومن كان كذلك غلبت عليه المنافسة والمغالبة، وولَّد ذلك في قلبه شدةَ الحمية وحبَّ المجاوبة، ومن سخُفَ هذا السُّخْفَ وغلب الشيطانُ عليه هذه الغلبة، كانت حاله داعية إلى قول الزور والفخر بالكذب وصرف الرغبة إلى الناس، والإفراط في مديح من أعطاه وذم من منعه؛ فنزَّه الله رسوله، ولم يعلِّمه الكتاب والحساب، ولم يرغبه في صنعة الكلام، والتعبُّد لطلب الألفاظ، والتكلف لاستخراج المعاني، فجمع له باله كله في الدعاء إلى الله، والصبر عليه، والمجاهدة والانبتات إليه، والميل إلى كل ما قرَّب منه؛ فأعطاه الإخلاص الذي لا يشوبه رياء، واليقينَ الذي لا يَطُوره شك، والعزم المتمكن، والقوة الفاضلة، فإذا رأت مكانه الشعراء، وفهمتْه الخطباء، ومَن قد تعبَّد للمعاني، وتعوَّد نظمها وتنضيدها، وتأليفها وتنسيقها واستخراجها من مَدافنها، وإثارتها من أماكنها — علموا أنهم لا يبلغون بجميع ما معهم مما قد استفرغهم واستغرق مجهودهم، وبكثير ما قد حاولوه قليلًا مما يكون منه على البداهة والفُجاءة، من غير تقدم في طلبه، واختلاف إلى أهله، وكانوا مع تلك المقامات والسياسات، ومع تلك الكلف والرياضات لا ينفكون في بعض تلك المقامات من بعض الاستكراه والزلل، ومن بعض التعقيد والخَطَل، ومن التفنن والانتشار، ومن التشديق والإكثار، ورأوه مع ذلك يقول: «إياي والتشادق.» و«أبغضكم إليَّ الثرثارون المتفيهقون.» ثم رأوه في جميع دهره في غاية التسديد، والصواب التام، والعصمة الفاضلة، والتأييد الكريم — علموا أن ذلك من ثمرة الحكمة، ونَتَاج التوفيق، وأن تلك الحكمة من ثمرة التقوى، ونتاج الإخلاص.
وللسلف الطيب حِكمٌ وخطبٌ كثيرة، صحيحة ومدخولة، لا يخفى شأنها على نُقاد الألفاظ وجهابذة المعاني، متميزة عند الرواة الخُلَّص، وما بلغنا عن أحد من جميع الناس أن أحدًا ولَّد لرسول الله ﷺ خطبة واحدة، فهذا وما قبله حجة في تأويل ذلك الحديث. ا.ﻫ.
نفيُ الشعر عنه ﷺ
ونحن نتمُّ القول فيما بدأ به الجاحظ آنفًا، من تنزيه النبي ﷺ عن الشعر، وأنه لا ينبغي له، فإن الخبر في ذلك مكشوف متظاهر والروايات صحيحة متواترة، وقد قال الله تعالى: وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ. فكان — عليه الصلاة والسلام — لا يتهدَّى إلى إقامة وزن الشعر إذا هو تمثَّل بيتًا منه، بل يكسره ويتمثَّل البيتَ مكسورًا مع أن ذلك لا يعرض ألبتة لأحد من الناس في كل حالاته، عربيًّا كان أو أعجميًّا، فقد يُتعتِع المرء في بيت الشعر ينساه أو ينسى الكلمة منه؛ فلا يقيم وزنه لهذه العلة، ولكنه يمرُّ في أبيات كثيرة مما يحفظه أو مما يُحسن قراءتَهُ؛ فما وزن الشعر إلا نسقُ ألفاظه، فمن أدَّاها على وجهها فقد أقامه على وجهه، ومن قرأ صحيحًا فقد أنشد صحيحًا.
وهذا خلاف المأثور عنه ﷺ فإنه على كونه أفصح العرب إجماعًا، لم يكن ينشد بيتًا تامًّا على وزنه، إنما كان ينشد الصدر أو العَجُز فحسب؛ فإن ألقى البيتَ كاملًا لم يصحح وزنه بحال من الأحوال، وأخرجه عن الشعر فلا يَلتئم على لسانه.
أنشد مرة صدر البيت المشهور للَبِيد، وهو قوله:
فصحَّحه، ولكنه سَكَتَ عن عجُزه: «وكل نعيم لا مَحالة زائلُ».
وأنشد البيت السائر لطرفة على هذه الصورة:
وإنما هو: «ويأتيك بالأخبار من لم تُزَوّدِ».
وأنشد بيت العباس بن مِرْداس فقال:
فقال الناس: بين عيينة والأقرع. فأعادها — عليه الصلاة والسلام: «بين الأقرع وعيينة» ولم يستقم له الوزن.
والثاني: كقوله في رواية جندب إنه ﷺ دَمِيَت إصبعه فقال:
ولقد كانت الأوزان فطريةً في العرب، فهي في الرجز، وهي في السجع، وهي في الشعر، جميعًا، ولم يُعلم أنه ﷺ اتفق له في الرجز أكثر من بيت واحد، أو تمثل منه بأكثر من البيت الواحد كبيت أمية بن أبي الصَّلْت:
وإنما كان له ذلك في الرجز خاصةً دون الشعر؛ لأن الشطرين منه كالشطر الواحد في الوزن والقافية، لا يَبِين أحدهما من الآخر؛ وبخاصة في هذين الضربين؛ المنهوك والمشطور، وهما بعد ذلك كالفاصلتين من السجع، لا يمتازان منه في الجملة إلا بإطلاق حركة الروي، ومن أجل هذه العلة لم يتفق له في غيرهما شيء، وهو ﷺ كان يُقيم الشطر الواحد من الشعر كما علمت؛ لأن مَجازَه على انفراده مجازُ الجملة من الكلام؛ فلا يستبين فيه الوزن، ولا يتحقق معنى الإنشاد، ولا تتم هيئته من الإيقاع والتقطيع والتشدُّق ونحوها؛ فإذا صار إلى تمام البيت من المِصراع لآخر، وهمَّ الوزن أن يظهر، والإنشاد أن يتحقق، وأوشك الأمر أن يمتاز بما ينفرد به الشعر في خواصه التي تبينه من سائر الكلام — كَسَر وخرج بذلك إلى أن يجعل البيت كأنه جملةٌ مُرْسَلة من الكلام، على ما كان من أمره في الشطر الواحد.
ثم يأتي بعد ذلك جِلَّة أصحابه وخلفائه، يأخذون فيما أخذ فيه، فيمضون على ما كان من أمرهم في الجاهلية، ويثبتون على أخلاقهم وعلى أصول طباعهم ويستطيرُ ذلك في الناس، وهو أمر متى تهيأ نما فيهم، ومتى نما غلب عليهم، ومتى غلب استبدَّ بهم، ومتى استبدَّ لم تقم معه للإسلام قائمة: وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُّسَمًّى.
فانظر، هل ترى شيئًا غير إلهي في هذا التدبير المحكم والصنع العجيب؟ وهل ترى في ذلك أعجبَ من أن الله تعالى منع نبيه تصحيح وزن الشعر، وجعل لسانه لا ينطلق به؛ إذ وضعه موضع البلاغة من وحيه، ونصبه منصبَ البيان لدينه؛ لأنه تعالى من غيب المصلحة لعباده، أنه ﷺ لو أقام وزنَ بيت لأمال به عمودَ الدين، ثم لتصدع له الأساسُ الاجتماعي العظيم الذي جاء به القرآن؛ إذ يكون قد بُني على غير أركان وثيقة ولا عِماد مُحكَم.
لا جرم أن ذلك تأديبٌ من الله أراد به تحويل فطرته ﷺ عن الشعر وقوله، حتى لا تنزع به العادة منزعًا، ولا تذهب في أسبابه مذهبًا، وحتى تستويَ في ذلك ظاهرًا ودِخلةً، فلا يستطرق لها الوهم من باب، ولا يجد إليها مَهْوًى يبلغه، ومتى كان بغض الشعر في نفسه كبغض الأوثان وأن العمل في ذلك بالنسبة إليه كالعمل لهذه، فكيف يمكن أن يبقى له مع هذا كله طبع فيه أو وجه إليه وكيف يتأتَّى أن يكون مثلُ هذا أدبًا أخذ به نفسه ورَاضَهَا عليه، دون أن يكون تأديبًا من الله وتصرفًا منه، تعالى في تكوين نفسه وتهذيب فطرته، وتحويل طبعه، وأن يكون قد منعه في هذا الباب ما لم يمنعه أحدًا من قومه، كما أعطاه في أبواب كثيرة ما لم يعطه أحدًا منهم، وخاصةً إذا عرفتَ أن الشعر قد كان سجية في أهله، وأنه ليس من بني عبد المطلب رجالًا ونساءً من لم يقل الشعرَ غيره ﷺ وإنما كل ذلك تفسير طبيعي لقوله عليه الصلاة والسلام: «أدبني ربي فأحسن تأديبي.»
على أنه كان فيما كان وراء عمل الشعر وتعاطيه وإقامة وزنه، يحب هذا الشعر ويستنشده، ويثيب عليه، ويمدحه متى كان في حقه ولم يُعدَل به إلى ضلالة أو معصية، والآثار في هذا المعنى كثيرة لا نطيل باستقصائها، ولولا أن ذلك قد كان منه ﷺ لماتت الرواية بعد الإسلام، ولما وجد في الرواة من يجعل وَكدَه حملَ الشعر وروايته وتفسيره واستخراج الشاهد والمثل منه، وكأنه — عليه الصلاة والسلام — حين سمع الشعر وأثاب عليه ورخَّص فيه لم يُرد إلا هذا المعنى، والشاهد القاطع قوله في أمر الجاهلية: «إن الله قد وضع عنا آثامها في شعرها وروايته.» وبمثل هذا القول استأنس العلماء، وتجردوا للرواية، وتملأوا منها — رحمهم الله وأثابهم بما صنعوا!
ولقد كانت السابقة في ذلك لحسان (رضي الله عنه)، وكان ذا لسان ما يسره به مِقْوَلٌ من مَعَدّ، وكأنما زاد الله فيه زيادة ظاهرة؛ وهو الذي قال له النبي ﷺ: «قل وروحُ القدسِ معك.» فكان إذا أرسل لسانه لم يجدوا له دفعًا، وإذا مسهم بالضر لم يُجد شعراؤهم نفعًا، وإذا وضع منهم لم يستطيعوا لما وضعه رفعًا:
تأثيره في اللغة ﷺ
ومثل ذلك قوله في الحرب: «الآن حميَ الوَطِيس.» وقوله: «بُعثْتُ في نفس الساعة.» إلى كثير من ذلك سنقول فيه بعد، وهذا ضربٌ عزيز من الكلام يحتذيه البلغاء ويطبعون على قالَبِهِ؛ وكلما كثر في اللغة لانت أعطافه، واستبصَرَتْ طُرُقُ الصنعة إليه، وما من بليغ أحدث في العرَبية منه ما أحدثه النبي ﷺ فهذه واحدة في الأوضاع التركيبية، وسنبسط القول فيها.
على أنا ننقل كتابًا من هذه الكتب؛ لنعرف الأمر على حقه، ولنميز اللغةَ السهلة التي ذهبت خشونتها وانسحقت في الألسنة، وهي لغة قريش، من هذه اللغات الغريبة التي يجمعها ﷺ دون قومه، ثم لا تجري في منطقه إلا مع أهلها خاصة؛ ولا تندر في كلامه مع غيرهم، أو تغلب عليه، أو تنقصُ من فصاحته، أو تُضعف أسلوبه، كما هو الشأن في أهل الغريب من هذه اللغة، وفيمن يتباصرون به ويتكلفون لذلك حفظَه وروايتَه، وهم أهل التوعُّرِ والتقعير واستهلاك المعاني، الذين تُسْلمهم إلى ذلك طبيعةُ الغريب نفسه؛ إذ يدور في ألسنتهم ويستجيبُ لهم كلما مَثَلَت معانيه، غيرَ مُجتَلَب ولا مُستكرَهٍ، ويغلبهم على مُرادِفه من الكلام السهل المأنوس؛ لأنهم أكثر رغبةً فيه، وأشد عناية به في الطلب والحفظ والمدارسة؛ ومتى نشطت طبيعة الإنسان لأمر من الأمور، فقد لزمها توفيرُ قِسطِه من المزاولة، وتوفية حقه من العناية به حتى تبلغ منه البلاغَ كلَّه، وحتى يكون هو الغالبَ عليها، وحتى يلزمه منها في حق الاستجابة إليها، ما لزمها منه في حق العناية.
إلى الأقيال العَباهلةِ، والأرْواع المشابيب
فهذه طائفةٌ يسيرة مما انتهى إلينا من غريب اللغات التي كان يعلمها النبي ﷺ وإنَّما خرجت عنه هي وأمثالها، مما جمعوه حديثًا كالأحاديث، ورُويت كما فَصَلَتْ؛ ولولا أنها وجهٌ من التاريخ والسيرة، وضرب من تعليم أولئك القوم، لقد كانت انقطعت بها الرواية فلم ينته إلينا منها شيءٌ، فهي ولا ريب لم تكن مجتَلَبَة، ولا متكلفة، ولا ترامى إليها البحث والتفتيش، وإنَّما جرت منه ﷺ مجرى غيرها؛ مما قذفه الطبع المتمكن، وألفته السليقة الواعية، لا ريب أن وراءها في ذلك الطبع وتلك السليقة، ما وراء ألفاظها من سائر ما انفردت به تلك اللغاتُ عن القرشية، فلا بد أن يكون عليه الصلاة والسلام محيطًا بفروق تلك اللغات، مستوعبًا لها على أتم ما تكون الإحاطة والاستيعاب، كأنه في كل لغة من أهلها، بل أفصح أهلها.
وإنما يحمل هذا على قوة في فطرته اللغوية، تتميز بالإلهام عن سائر العرب من قومه وغير قومه، على النحو الذي اختصت به ذاته الشريفة بالوحي من ربه، والبابُ في كلتا الجهتين واحدٌ أيسره وأكثره.
فالعربي الفصيحُ منهم، إذا كان جافيًا مُتَوقِّحًا، وكان صافي الحس بليغ الطبع، وكان في قواه البيانية مع ذلك فضلٌ من التصرف — رجَعَ أمره ولا جَرَم إلى أن يكون صاحبَ لغتهم، وإلى أن يكون منطقُهُ فيهم مذهبًا من المذاهب، وإن كانوا لا يعرفونه باللغة وعلمها وتصريفها على الحدود التي يَعْرِفُ بها الناس علماءَهم، وكان هو لا يعرف من نفسه أنه لغويٌّ وأنه واضعٌ؛ إذ ليس من ذلك شيء يسمى عندهم علمًا، إنما هو سمت الفطرة التي تأخذ فيه طبائعهم، ودلالتها التي تهتدي بها وتستقيم عليها لا أكثر من ذلك ولا أقلَّ. ولقد كان هؤلاء العرب أجدَر الناس بأن يقال إن فيهم حاسَّة سادسة، هي حاسة الاهتداء اللغوي، ثم لا يكون هذا القول إلا حقًّا.
وقد كان هذا الشأن قريبًا منهم لو أرادوه، وذلك الأمرُ مُوطَّأ لهم لو اعتزموا فيه؛ ولكنه فوتٌ قد فات، وعملٌ قد مات، وأملٌ لزِمَتْه هيهات … فلم يبق لنا من بعدهم إلا أن نصنع كما صنعنا؛ فنأخذ بالجملة دون تفصيلها، ونصلَ القولَ بين الأسباب وما تسببت له، ونعتلَّ لما جاء عن النفس بما هو في تركيب النفس ونسترْوِحَ إلى ما أجمعوا عليه بالحجة التي ينصبُها الإجماعُ ويشدُّها الاتفاق. ومهما أخطأنا من ذلك لم يُخطئنا الكشفُ عن أصل المعنى وثبتِه ووجهِ مذهبه، وفي هذا بلاغ، ثم لا يكون قد فاتنا في مثل هذا الفصل إلا ضربٌّ من الكمال في التأليف، وبابٌ من التطوع في العمل، وإنما وجهُ الحقيقة في ذلك الأصل لا في الأمثلة، ومظهر الواجب في الفرض وحده، وكم وراء الفرض من نافلة.
نسق البلاغة النبويَّة
قد قلنا في بيان أسلوب كلامه ﷺ أنه أسلوب منفرد في هذه اللغة، قد بان من غيره بأسباب طبيعية فيه، وأن ما أشبهه من بلاغة الناس في الكلمات القليلة والجمل المقتَضبَةِ، لا يشبهه في العبارة المبسوطة، ولا يستوي له الشبَهُ مع ذلك في كل قليل ولا في كل مُقْتَضَب، حتى يقع التنظير بين الأسلوبين على الكفاية، وحتى يميل الحكم إلى الجزم بأن بعض ذلك كبعضه: بلاغةً ونسقًا وبيانًا.
ونحن الآن قائلون في نَسَق هذا الأسلوب؛ ليتأدَّى بك القول إلى صميم مذهبه، وينتظم هذا القول بعضه ببعض.
وهذه حقيقةٌ راهنةٌ؛ دليلُها ذلك الكلام نفسُهُ بجملته وتفصيله، لا يجهلها إلا جاهل، ولا يغفُل عنها إلا غافل، فإذا أنت أضفت إليها ما هناك، من سمو المعنى، وفصل الخطاب، وحكمة القول، ودنوِّ المأخذ، وإصابة السرِّ، وفضلِ التصرف في كل طبقة من الكلام، وما يلتحق بهذه وأمثالها من مذهبه ﷺ في الإفصاح، ومنحاه في التعبير، مما خُصَّ به دون الفصحاء، وكان له خاصةً، من عظمة النفس، وكمال العقل، وثُقُوب الذهن ومن المنزعَة الجيِّدة، واللسان المتمكن — رأيتَ من جملة ذلك نسقًا في البلاغة قلَّما يتهيأ في مُثُول أغراضه وتساوُقِ معانيه لبليغ من البلغاء؛ إذ يجمع الخالصَ من سر اللغة ومن البيان ومن الحكمة — بعضها إلى بعض.
أما اللغةُ: فهي لغة الواضع بالفطرة القوية المستحكمة، والمتصرف معها بالإحاطة والاستيعاب، وأما البيان: فبيان أفصحِ الناس نشأة، وأقواهم مذهبًا، وأبلغهم من الذكاء والإلهام، وأما الحكمة فتلك حكمة النبوَّة، وتبصيرُ الوحي وتأديب الله، وأمر في الإنسان من فوق الإنسانية.
هذا، على أن كلامه ﷺ ليس مما تكلَّف له، ولا داخلته الصنعة، ولا كان يَتلوَّم على حَوكِهِ وسَردِه، ولكنه عَفوُ البديهة، ومُسَاقَطَةُ الحديث، مما يجريه في مُنَاقلةِ الكلام ومَساق المحاضرة، وإنه مع ذلك لعلى ما وصفنا وفوق ما وصفنا، فقد تراه وما يتفق فيه من الأوضاع التركيبية الغريبة، وتعرف أن ذلك شيء لم يتفق مثلُه في هذا الباب لشاعر ولا خطيب ولا كاتب على إطالة الروية، ومراجعة الطبع، والغلوِّ في الصنعة، وعلى أن لهم السَّبكَ الخالصَ والمعدنَ الصريحَ، والبيانَ الذي يتفجَّر في الألسنة لرقته وعذوبته واطِّراده.
والبليغ من البلغاء في صنعته وبيانه، كالشجرة المُورِقة في رُوَائها ونضرَتها حتى تتَّسق له أسبابٌ من هذه الأوضاع البيانية، وتستقل له طريقة في عَقدها وإخراجها، فيبلغ أن يكون مثمرًا، والثمر بعدُ متفاوِتٌ في أشجار البلاغة، نُضْجًا وماءً وحلاوة وكثرةً، وما أثمرت من ذلك بلاغةٌ غربية ما أثمرته بلاغة السماء في القرآن الكريم ثم بلاغة الأرض في كلامه ﷺ، والناسُ بعد ذلك أجمعوا حيث طاروا أو وقعوا.
فمن هذه الأوضاع قوله عليه الصلاة والسلام: «ماتَ حتف أنفِه.» وقد شرحناه فيما مر بك، وقوله في صفة الحرب يوم حُنيْن: «الآن حَمِي الوطيس.» والوطيسُ: هو التنور مجتمعُ النار والوقود، فمهما كانت صفة الحرب، فإن هذه الكلمة بكل ما يقال في صفتها، وكأنما هي نار مشبوبة من البلاغة تأكل الكلامَ أكلًا، وكأنما هي تمثل لك دماءً نارية أو نارًا دموية!
وهذه العبارة لا يَعدلها كلام في معناها، فإن فيها لونًا من التصوير البياني لو أُذيبت له اللغة كلها ما وفت به، وذلك أن الصلح إنما يكون موادَعة ولينًا؛ وانصرافًا عن الحرب، وكفًّا عن الأذى؛ وهذه كلها من عواطف القلوب الرحيمة، فإذا بُنِيَ الصلح على فساد، وكان لعلةٍ من العلل، غلب ذلك على القلوب فأفسدها، حتى لا يُستروَح غيرُه من أفعالها، كما يغلب الدَّخَنُ على الطعام، فلا يجد آكله إلا رائحة هذا الدخان، والطعامُ من بعد ذلك مشوبٌ مُفسَد.
ثم معنى ثالث، وهو النكتة التي من أجلها اختيرت هذه اللفظة بعينها، وكانت سرَّ البيان في العبارة كلها، وبها فَضَلَت كلَّ عبارة تكون في هذا المعنى، وذلك أن الصلح لا يكون إلا أن تَطْفَأَ الحربُ. فهذه حربٌ قد طفئت نارها بما سوف يكون فيها نارًا أخرى. كما يُلقى الحطب الرطبُ على النار تخبو به قليلًا، ثم يستوقِد فيستَعِر فإذا هي نارٌ تلظَّى، وما كان فوقه الدخان فإن النار ولا جَرَمَ من تحته. وهذا كله تصوير لدقائق المعنى كما ترى، حتى ليس في الهدنة التي تلك صفتُها معنى من المعاني يمكن أن يُتَصَوَّر في العقل إلا وجدتَ اللون البياني يصوِّره في تلك اللفظة لفظة «الدَّخَن».
ومنها قوله — عليه الصلاة والسلام: «بعثتُ في نَفَس الساعة» يريد أنه بُعث، والساعة قريبة منه. فوصفَ ذلك باللفظة التي تدل على أدق معاني الحس بالشيء القريب، وهي «لفظة النَّفَس» كما يحسُّ المرء بأنفاس من يكون بإزائه ولا يكون ذلك إلا على شدة القرب، وإنَّما أفرد اللفظة ولم يقل: «بعثت في أنفاس الساعة.» لأنها نفخة واحدة، وهذا معنى آخر فإن النفخة الشديدة متى جاءت من بعيد كانت كالنَّفَس من الأنفاس، وليس المراد من قرب الساعة أنها قَدَرُ اليوم أو غدٍ على التعيين، ولكن المراد أنها آتية لا ريب فيها، وأن ما بقي من عمر الأرض ليس شيئًا فيما مضى، وأن لا نظام لإنسان الدنيا إلا أن يتمثل في نفسه إنسان الآخرة؛ فالساعة من القرب كأنها من كل إنسان في آخر أنفاسه، وهذا كله قد أصبح اليوم من الحقائق التي لا مِرْية فيها.
وفي تلك اللفظة معنًى ثالث، كأنه يقول: إن عمر الأرض كان طويلًا فكانت الساعة بعيدة ثم قَصُرَ هذا العمر فبدأت الساعة تتنفَّس: وما يدرينا أنه قد حان أجل الأرض كما يحين أجل النهار عندما تبدأ الدقيقة الأولى من ساعة الغروب، ثم لا ينقضي هذا الأجل إلا في الدقيقة الأخيرة من هذه الساعة؟
وبقي معنى رائع في لفظة «النفس» أيضًا؛ وذلك أنه يقال على المجاز: فلان في نفس من ضيقه، إذا كان في سَعَةٍ ومندوحة وقد عَرَفَ الضيقَ ما هو بعد أن شدَّ عليه وكتم أنفاسه! فيكون التأويل على ذلك، أن الساعة آتيةٌ وأنها قريبة، وأنها تكاد تكون ولكن البعثة في نفس منها، فليعمل الناسُ لآخرتهم فإنه يوشِكُ أن لا يعملوا؛ ثم ليعمُرُوا أنفسهم قبل أن يعمروا أرضهم: فإن الساعة تطوي هذه وتنشر تلك.
على أن أعجب شيء أنك إذا قرنت كلمة من تلك البلاغة إلى مثلها مما في القرآن، رأيت الفرق بينهما في ظاهره كالفرق بين المعجز وغير المعجز سواءٌ، ورأيت كلامه ﷺ في تلك الحال خاصة مما يُطمع في مثله، وأحسست أن بين نفسك وبينه صلةً تطوِّعُ لك القدرة عليه وتَمُدُّ لك أسباب المطْمَعَةِ فيه، بخلاف القرآن، فإنك تستيئس من جملته، ولا ترى لنفسك إليه طريقًا ألبتة؛ إذ لا تحس منه نَفْسًا إنسانية، ولا أثرًا من آثار هذه النفس، ولا حالةً من حالاتها حتى تأنسَ إلى ذلك على التوهُّم، ثم تتوهَّم ثم الطمع والمعارضة من هذه الأنَسَة، فتُمضيَ عزمكَ وتقطعَ برأيك، وتبتَّ القول فيه — كما يكون لك في قراءة الكلام الإنساني، فإن جميع هذا الكلام الآدمي منهاجٌ، ولجملته طريق؛ وحدود البلاغة التي تفصل بعضه عن بعض كلها مما يوقف عليه بالحسِّ والعيان، ويقدر فرق ما بين بعضها إلى بعض مهما بلغ من تفاوتها واختلافها في السبك والصنعة والغرابة.
بَيْدَ أن ذلك مما لا يُستطاع في القرآن ولا وجه إليه بحال من الأحوال، فما هو إلا أن تقرأ الآية منه حتى تراها قد خرجت من حد المألوف، وانسلَّت منه وفاتت سَمت ما قدَّرتَ لها من مطلع ومقطع، فمهما وجدت لا تجد سبيلًا إلى حدِّها، ومهما استطعت لا تستطيع أن تقرن بها كلامًا تعرف حدَّه في البلاغة، إن لم يكن بالصنعة فبالحسِّ.
وهذا وجه من أبين وجوه الإعجاز في القرآن، وقد جاء من طبيعة تركيبه وأنه لا أثر فيه من آثار النفس الإنسانية، وعليه قولُ الجاحظ في «كتاب النبوة» وإن كان لم يهتد إلى تعليله: «لو أن رجلًا قرأ على رجل من خطبائهم وبلغائهم — أي العرب — سورة قصيرة أو طويلة، لتبيَّن له في نظامها ومخرجها من لفظها وطابَعها، أنه عاجز عن مثلها، ولو تحدَّى بها أبلغَ العرب لأظهر عجزه عنها.»
فهذه واحدة، والثانية: أنه ﷺ لو اتفق له كذلك — على فرض أن يتفق — لما استطاع أن يتجرد من نفسه الكلامية، التي من شأنها أن تُطْمِع غيره في كلامه، وتجعله أبعدَ الأشياء عن مظنَّةِ الإعجاز بجانب الكلام المعجز، والتي من شأنها أن تزيده هو نفسَهُ يأسًا كلما تمثَّلت له في الكلام، ورأى ألفاظه تتنفَّس تنفُّسًا آدميًّا، بجانب تلك الألفاظ التي تهبُّ هبوبًا كأن لها جوًّا فوق كون من اللغة.
وليس الأمر في هذه المعارضة — كما علمت — إلى مقدار الهمة في بُعْدِها وقِصَرها، ولا مبلغ الفطرة في شدتها واضطرابها، ولا حالة البليغ في احتفاله ومُهَاوَنَتِه؛ بل هو أمرٌ فوق ذلك أجمع، وليست هذه الهمة وهذه الفطرة وهذه الحالة مما تُوجِدُ في نفس الإنسان غير صفاتها الإنسانية بالغةً ما بلغت ونازلةً حيث تنزل، فإن كل أمر لا يوَطَّأ له بأسبابه لا تُحْدِثُه غيرُ أسبابه، وما عرفَ الناسُ يومًا من الدهر أن قوة الخلق ظهرت في مخلوق، ولا أن إنسانًا أخرج من نفسه غير ما في نفسه.
فإذا طال ذلك به وبها، أماتَ حركتها ونشاطها، وترامى بها إلى العجز وضَرَبَها باليأس والقنوط، فذهب منه ما كان في طوقه وقوته من البلاغة في سبيل ما ليس في طوقه وقوته، وأكدَى طبعُه فيما كان ينجحُ فيه، وتَبَدَّل من شأنه الأول شأنًا ثانيًا كيفما أداره رآه سواءً غير مختلف، وذلك كلُّه من غير أن يكون هناك إلا قوة القرآن المعجزة، وقوة نفسه العاجزة، وهذا معنى قد وقع تفصيله في موضعه ومر في بابه، فلا حاجة بنا إلى الزيادة منه بأكثر مما سلف.
وضَرْبٌ آخر من الأوضاع التركيبية في بلاغة النبي ﷺ غيرَ ما مرت مُثُلُهُ من ذلك النحو الذي يكون مُجتمعًا بنفسه منفردًا في الكلم القليلة. وهذا الضرب يتفق في بعض الكلام المبسوط، فتقوم اللَّمْحَة منه في دلالتها بأوسع ما تأتي به الإطالةُ، وتكفي من مرادفة المعاني وتوكيدها ومقابلتها بعضها ببعض، فيكون السكوتُ عليها كلامًا طويلًا، والوقوف عندها شأوًا بعيدًا، وهو قليل في كلام البلغاء إلى حدِّ الندرة التي لا يُبنى عليها حكم، ولكنه كثيرٌ رائع في البلاغة النبوية، لما عرفْتَ من أسباب قلة كلامه ﷺ فإن هذه القلة إن لم تنطوِ على مثل هذا الضرب الغريب، لا تفي بالكثرة من غيره، ولا تُعَدُّ في باب التمكين والاستطاعة، ولا يكون فضلُها في الكلام فضلًا، ولا يُعْرفُ أمرها في البلاغة أمرًا.
فتأمل قوله — عليه الصلاة والسلام: «حتى تنفرد سالفتي هذه.» وكيف تُصوِّر معنى الانفراد الذي لا يستوحش منه؛ لأن الثقة فيه بالله، والقلة التي لا يخاف منها؛ لأن الكثرة فيها من الله، والاستماتة التي لا تَرَدُّد معها؛ لأن الأمر فيها إلى الله. وانظر كيف تصف العزيمة الحذَّاء، وكيف تقرَعُ بالوعيد والتهديد، وكيف تُغني في جواب القوم ما لا تغنيه الرسائل الطوال، حتى لتقطعُ الشهادة عليها قطعًا بما في نية صاحب الجواب من عَزْم أمره ووثاقة عَقْدِهِ، فكأنها صورة واضحة لما استقر في نفسه من كل ما عسى أن يَرجعه جوابًا، وما عسى أن يتهيأ له في باب الحزم، وإنَّها لكلمة بمعركة!
ومن هذا الباب قوله ﷺ: «من همَّ بحسنةٍ ولم يعملها كتبت له حسنة، فإن عمِلها كتبت له عشرًا، ومن همَّ بسيئة ولم يعملها لم تكتب عليه؛ فإن عملها كتبت عليه سيئة واحدة، ولا يهلك على الله إلا هالك.» فتأمل هذا التذييل العجيب، فإنك لا تقضي منه عجبًا، ولَن يعجز إنسان أن يهم بالخير، يفعله أو لا يفعله، وأن ينزع إلى الشرِّ فيمسك عنه، فإن عجز حتى عن هذا فما فيه آدمية، ورحمة الله تنال الإنسان بأسباب من خيره ومن شره إذا كان فيه الضمير الإنساني، وهذا في الغاية كما ترى.
فصل
- (١)
أما الأول: فهو في اللغة ما علمتَ، وفي الأسلوب ما عرفتَ مما وقَّفناك عليه، وهو منفرد فيهما جميعًا؛ لأنه لم يكن في العرب — ولن يكون فيمن بعدهم أبدَ الدهر — من ينفذُ في اللغة وأسرارها وضعًا وتركيبًا، ويستعبدُ اللفظ الحر، ويحيط بالعتيق من الكلام، ويبلغ من ذلك إلى الصَّميم على ما كان من شأنه ﷺ ولا نعرف في الناس من يتهيأ له الأسلوب العصبيُّ الجامعُ المجتمعُ على توثق السرد وكمال الملاءمة، كما تراه في الكلام النبوي. وما من فصيح أو بليغ إلا وهو في إحدى هاتين المنزلتين دون ما يكون في الأخرى على ما يلحقه من النقص فيهما جميعًا إذا تصفَّحتَ وجوهَ كلامه وضروب الفصاحة فيه، واعتبرتَ ذلك بما سلف؛ وأبلغُ الناس من وُفِّق أن يكون في المنزلة الوسطى بين منزلتيه ﷺ.
- (٢)
وأما القصدُ والإيجاز والاقتصار على ما هو من طبيعة المعنى في ألفاظه ومن طبيعة الألفاظ في معانيها، ومن طبيعة النفس في حظها من الكلام وجهتيهِ «اللفظية والمعنوية» — فذلك مما امتازت به البلاغة النبوية حتى كأن الكلام لا يعدو فيها حركةَ النفس، وكان الجملة تُخلق في منطقه ﷺ خَلْقًا سَوِيًّا، أو هي تُنتَزَع من نفسه انتزاعًا، وهذا عجيب حتى ما يمكن أن يعطيهُ امرؤ حظه من التأمل إلا أعطاه حظَّ نفسه من العجب، وإنَّما تم في بلاغته ﷺ بالأمر الثالث.
- (٣) وهو الاستيفاء، الذي يخرج به الكلام — على حذف فضوله وإحكامه ووجازَته — مبسوطَ المعنى بأجزائه ليس فيها خِدَاجٌ٩٠ ولا إحالة ولا اضطرابٌ حتى كأن تلك الألفاظ القليلة إنما رُكِّبت تركيبًا على وجه تقتضيه طبيعة المعنى في نفسه، وطبيعتُه في النفس، فمتى وعاها السامع واستوعبها القارئ، تمثل المعنى وأتمه في نفسه على حسب ذلك التركيب، فوقع إليه تامًّا مبسوط الأجزاء، وأصاب هو من الكلام معنى جَمُومًا٩١ لا ينقطع به ولا يكبو دون الغاية، كأنما هذا الكلام قد انقلب في نفسه إحساسًا لنظر معنوي.
وهذا ضربٌ من التصرف بالكلام في أخلاق النفوس الباطنة التي تُذعِن لها النفوس وتتصرف معها، وقلَّما يستحكم لامرئ إلا بتأييد من الله وتمكين من اليقين والحجة، فهو على حقيقته مما لا تعين عليه الدُّرْبَة والمزاولة إلا شيئًا يسيرًا لا يستوفي هذه الحقيقة، ولا يمكن أن تجعله المزاولةُ فيمن ليس من أهله كما هو في أهله، ولأمر ما قال أفصح العرب ﷺ: «أعطيت جوامعَ الكلم.» وفي رواية «أوتيتُ»، وكان يتحدث في ذلك بنعمة الله عليه، فما هو اكتساب ولا تمرين، ولا هو أثرٌ من أثرهما في التفكير والاعتبار، ولا هو غايةٌ من غايات هذين في الصنعة والوضع، إنما هو «إعطاءٌ وإيتاء»، فمن لم يُعطَ لم يأخذ، ومن لم يأخذ لم يكن له من ذلك كائنٌ ولم تنفعه منه نافعة.
ولاجتماع تلك الثلاثة في كلامه ﷺ وبناء بعضِها على بعض، سَلم هذا الكلامُ العظيم من التعقيد والعِيِّ والخطل والانتشارِ، وسلمتْ وجوهه من الاستعانة بما لا حقيقة له من أصول البلاغة: كالمجاز البعيد الذي يغوصُ إلى الأعماق الخيالية، وضروب الإحالة، وفساد الوضع المعنوي، وفنون الصنعة، وما إليها مما هو فاشٍ في كلام البلغاء، يعين جفاء البداوة على بعضه، ورقة الحضارة على بعضه، وهو في الجهتين بابٌ واحد.
أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك.
أستوع الله دينَك وأمانتك وخواتيم عملك.
إلى ما لا يحصيه العدُّ من كلامه ﷺ، ولو ذهبنا نشرحه لبنينا على كل كلمة مقالة، وهذا الضرب هو الذي عَناه أكثم بن صيفي حكيم العرب في تعريف البلاغة، إذ عرَّفها بأنها: دُنُوُّ المأخذ، وقرع الحجة، وقليلٌ من كثير. وهي صفات متى أصابها البليغ وأحكمها، وضَع عن نفسه في البلاغة مؤونة ما سواها، ولكن إن أصابها وأحكمها.
ولقد علمتَ ما تكون وجوه الإعجاز المطلق في هذا الكلام العربي، وذلك مما وصفناه لك من إعجاز القرآن الكريم، فاعلم أن نسق البلاغة النبوية إنما هو في أكثره الحدُّ الإنساني من ذلك الإعجاز، يعلو كلامَ الناس من جهة وينزل عن القرآن من جهته الأخرى، فلا مطمعَ لأبلغ الناس فيما وراءه، ولا مَعْجَزة عليه فيما دونه، وهو عنده أبدًا بين القدرة على بعضه والعجز عن بعضه.
وبعدُ؛ فإن القول ما قاله الحسين — عليه السلام: «لن يؤدِّيَ القائلُ وإن أطنب في صفة الرسول ﷺ من جميعٍ جزءًا.»
على أننا إن كنا قد عجَزْنا، ووعدنا الكلام أكثرَ مما أنجزنا، فلا ضيرَ أن نَصِفَ النجم في سُرَاه، وإن لم نستقرَّ في ذُراه، ونستدلَّ بما رأينا منه وإن لم نَنفُذ فيما وراه، وإذا خطر الفكرُ الضئيل في مثل هذه الحقيقة السامية، فقل إنها خَطْرَةُ طيف، وإذا اجتمع للقلم سوادٌ في تلك السماء العالية، فقل إنما هي سحابة صيف، ولعمر الله كيف نضرب بالغاية على تلك البلاغة التي لا تُحدُّ؟ وكيف نمضي بعد أن كَلَّ حَدُّ الفكر ووقفنا عند هذا «الحدِّ»!
الحمد لله نهايةٌ لا تزال تبدأ، وبدءٌ لا ينتهي!
هوامش
وبنو سعد هؤلاء غير بني سعد بن زيد مَنَاة بن تميم الذين من لغتهم إبدال الحاء هاءً لقرب المخرج، وليست لغتهم خالصة في الفصاحة. والرواة جميعًا على أن بني سعد بن بكر خصوا من بين قبائل العرب بالفصاحة وحسن البيان.
فتأمل قولهم: «ما رأينا الذي هو أفصح منك.» فإن تعبيرهم «بالذي» يدل على تمكن هذا الاعتقاد منهم، وأنهم يخبرون عن نظر ومعرفة واستقصاء، وأنه ليس في جميعهم واحد يقال عنه «الذي»، والرواة وعلماء اللغة والبلاغة جميعًا، على أنه ﷺ من أفصح من نطق بالعربية، وأنه ما جاءهم عن أحد من روائع الكلام مثل ما جاءهم عنه ﷺ.
ثم خرج المغيرة إلى أصحابه، فروَّح الظَّهر معهم وعلمهم كيف يحيون رسول الله ﷺ فلم يفعلوا، إلا بتحية الجاهلية، ثم كان فيما سألوه — عليه الصلاة والسلام — واشترطوه لبيعتهم وإسلامهم، أن يدع لهم الطاغية، وهي «اللات» لا يهدمها، ثلاث سنين، فأبى ذلك عليهم، فما برحوا يسألونه سنة سنة. فأبى عليهم حتى سألوه شهرًا واحدًا بعد مقدمهم، فأبى أن يدعها شيئًا يسمى. وإنما كانوا يريدون بذلك فيما يظهرون أن يسلموا بتركها من سفهائهم ونسائهم وذراريهم، ويكرهون أن يروعوا قومهم بهدمها حتى يدخلهم الإسلام، فأبى رسول الله ﷺ إلا أن يبعث أبا سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة فيهدماها.
وقد كانوا سألوه مع ترك الطاغية أن يعفيهم من الصلاة وأن يكسروا أوثانهم بأيديهم. فقال — عليه الصلاة والسلام: أما كسر أوثانكم بأيديكم فسنعفيكم منه، وأما الصلاة فلا خير في دين لا صلاة فيه! فقالوا: يا محمد، أما هذه فسنؤتيكها وإن كانت دناءة! ثم أسلموا، وأمَّر عليهم رسول الله ﷺ عثمان بن أبي العاص وكان من أحدثهم سنًا، ولكنه أحرصهم على التفقه في الإسلام وتعلم القرآن.
وهذا خبر مكشوف ليس منه موضع إلا وهو يعطيك معنى من الفرق بين الأمر الإنساني والأمر الإلهي. فليست تبلغ العبارة في معناه ما تبلغ عبارته بمعناه.
وكل ما ورد من الغريب في كلام طهفة النهدي، وفي كلام النبي ﷺ شرحه ابن الأثير في مواضعه من كتاب «النهاية في غريب الحديث والأثر» فالتمسه إن أردته، فإن الاستقصاء في هذا الباب ليس من غرض كتابنا.
والسيوب: جمع سيب، وهو العطية، والمراد به الرِّكاز، وهو دفين الجاهلية، وممْ بكر، وممْ ثيب: أي من بكر، ومن ثيب، وهي لغتهم في إبدال النون ميمًا، والصقع: الضرب، والاستيفاض: النفي والتغريب. والأضاميم: الحجارة الصغار، والتوصيم: الفترة والتواني. ويترفل: أي يترأس، وتروى في هذا الكتاب صورة أخرى بزيادات غريبة.
وقد كان الأصل عندهم أن يضبط المحدث معنى الحديث، فأما الألفاظ فمنها ما يتفق لهم بنصه، وخاصة في الأحاديث القصار، وفي حكمه وأمثاله ﷺ ومنها ما لا يتفق، فيلبسه الراوية من عبارته، حتى قال سفيان الثوري: إن قلت لكم إني أحدثكم كما سمعت فلا تصدقوني، إنما هو المعنى.
ولبعضهم كلام حسن في ذلك، قال: إن اليقين ليس بمطلوب في هذا الباب، وإنما المطلوب غلبة الظن الذي هو مناط الأحكام الشرعية، وكذا كل ما يتوقف عليه من نقل مفردات الألفاظ وقوانين الإعراب، فالظن في ذلك كله كافٍ. ولا يخفى أنه يغلب على الظن أن ذلك المنقول المحتج به «أي على اللغة والنحو» لم يبدل؛ لأن الأصل عدم التبديل، لا سيما والتشديد في الضبط والتحري في نقل الأحاديث شائع بين النقلة والمحدثين، ومن يقول منهم بجواز النقل بالمعنى فإنما هو عنده بمعنى التجويز العقلي الذي لا ينافي وقوع نقيضه، فلذلك تراهم يتحرون في الضبط ويتشددون، مع قولهم بجواز النقل بالمعنى، فيغلب على الظن من هذا كله أنها لم تُبدل، ويكون احتمال التبديل فيها مرجوحًا فيلغى ولا يقدح في صحة الاستدلال بها، ثم إن الخلاف في جواز النقل بالمعنى، إنما هو فيما لم يدون ولا كتب، وأما ما دوِّن وحصل في بطون الكتب فلا يجوز تبديل ألفاظه من غير خلاف بينهم. وتدوين الأحاديث والأخبار، بل وكثير من المرويات، وقع في الصدر الأول قبل فساد اللغة العربية، حين كان كلام أولئك المبدلين — على تقدير تبديلهم — يسوغ الاحتجاج به، وغايته يومئذ تبديل لفظ بلفظ يصح الاحتجاج به، فلا فرق بين الجميع في صحة الاستدلال. انتهى.
قلنا: وهذا الكلام يرجع بآخره إلى أوله كما ترى، فلا ينفي رواية الأحاديث بالمعنى؛ لأنه في توجيه صحة الاستدلال بها على النحو واللغة، وإنما الذي هو مادة كلامنا في هذا الباب، اللفظ والعبارة وقيامها بالمعنى، ولولا ما نعلم من حفظ العرب وثبات ما ارتبطوا في صدورهم، وأن الحديث هو كان علمًا من علم الصحابة — رضوان الله عليهم — لشككنا في لفظ كل ما رووه من الأحاديث إلا قليلًا مما يكون لفظه نصًّا لمعناه. كالوضع البياني والحكمة القصيرة، والمثل السائر ونحوها.
فهذه اللغة العربية خاصة تقبل من الإعجاز البياني وضروبه ما لا يحمله شيء من لغات الأرض؛ لأن ذلك طبيعي فيها كما عرفت.