شياطين الشعراء
نذكر في هذا الفصل ما يعتقد العرب من قول الجنّ على ألسنة الشعراء ولا نجاوز ذلك؛
لأن استيفاء هذا البحث خاص بالتكاذيب (الميثولوجيا) ولهم من هذا القبيل عقائد
وعادات كثيرة سنشير إليها في ذلك الموضع.
لم يكن الشعر في فحول أهله من العرب لفظ لسان يطير ويقع، ولكنه كان حسبًا ونسبًا،
وكان الشعراء هم أهل التاريخ، فإذا لم يستطع الشاعر أن يرفع ويضع، وأن يبعث لسانه
مع الموت إلى الموتى بحيث يكون كما وصفوا الجني بأن فمه يتأجج نارًا، فذلك الساقط
المغمور؛ من أجل هذا كان يجنح الشعراء إلى اعتقاد أن شعرهم أحرف نارية تلقي بها
الجن على ألسنتهم، وأنهم إنما يتناولون من الغيب، فهم فوق أن يُعَدُّوا من الناس
ودون أن يحسبوا من الجن؛ فإذا جاء أحدهم بالقصيدة البارعة، ورمى بالكلمة النافذة،
ضرب قلبه أنها من هناك، وأنه إنما يؤديها عن لسان قائلها، فيكون ذلك مدعاة إلى
توكيد الثقة والاعتداد، وإلى الذهاب بالنفس ونفرة الأنف ونحو ذلك مما هو من كِبْر
القرائح وتَرَفُّع العقول. والعرب فيما حكاه أبو عبيدة يعرفون الجنيَّ بأسماء، فإذا
كفر وظلم وتعدَّى وأفسد قيل شيطان … إلخ، وقد يسمون الغضب شيطانًا، ومن ذاك قول أبي
الوجيه العكلي في أمر: كان ذلك حين ركبني شيطاني! قيل: وأي الشياطين تعني؟ قال:
الغضب! كما يسمون به الكبر، ومنه قول عمر: لأنزعن شيطانه من تَغرته؛ وكذلك يريدون
بالشيطان في بعض معانيه الفطنة وشدَّة العارضة
١ فيكون ما جاء في الشعر من ذكر شياطين الشعراء على وجه المثل؛ لأن كل
الصفات التي سبقت إنما هي خصيصة بالشاعر قبل الشيطان، وعندنا أنهم أخذوا هذا
الاعتقاد من الكهانة وهي أقدم فيهم من الشعر، وكان لكل كاهن جني يسمونه الرئي
والتابع، فذهب الشعراء هذا المذهب وسموا شياطينهم أو سماها لهم الرواة … كما ستعرف.
وقد درج شعراء الأمم على استعانة القوى الغيبية من قديم؛ لأن البيان وحي، ولأن
الشعر يكاد يكون تفاعلًا روحيًّا من امتزاج روح الشاعر بروح أخرى؛ إذ هو كالحالة
الطارئة على النفس: تشعر بها وقتًا دون وقت، وفي موضع دون موضع؛ فكان شعراء اليونان
والرومان يستدعون في أوائل منظوماتهم
(Les Muses)
وقد اصطلحوا على تسميتها بآلهة الشعراء أو عرائسه أو ربات الأغاني، ولهم في هذه
العرائس أساطير منقولة (انظر شرح الجزء الثالث من الديوان) وقد انسحب على آثارهم
المتأخرون من شعراء الأوربيين، فهم يسمون ربة الشعر، بالمنشدة السماوية، ونحو ذلك
مما يتوكأ عليه القلب ويلوذ به الاعتقاد.
والعرب لم يكونوا يفتتحون في أشعارهم باستدعاء تلك القوة الغيبية أو الاستمداد
منها، كما فعل اليونان والرومان، ولكن ذلك كان لا يجاوز الاعتقاد وحركة النفس كبرًا
وغرورًا، وكان ذلك فيهم قبيل الإسلام، ونظن أن الذي اخترعه الأعشى لأنه أول من
احترف الشعر وجعله تجارة؛ إذ هو لم يكن مكفي المؤنة ولا سري التكسب كالنابغة. وقد
ذكر صاحب القاموس أن جهنام تابعة الأعشى — أي شيطانه — وهو نفس لقب عمرو بن
قطن
٢ من بني سعد بن قيس بن ثعلبة، وكان يهاجي الأعشى، فكأنه شيطانه لأنه لا
يزال يهيجه ويبعثه على الشر، ولعل هذا هو الأصل. ثم اتخذ الأعشى، بعد ذلك مسحلًا؛
أما ما نُسب من ذلك إلى أوائل الشعراء كامرئ القيس، وما زعموا من أن له قصائد
ومطارحات مع عمرو الجني وأن شيطانه لافظ بن لاحظ، فهو من تخرصات الرواة وما يجيئون
به استيفاء لهذا البحث الخرافي وتكثُّرًا من النظائر والأشباه في الروايات، ولهم في
ذلك أخبار ذَكر بعضها صاحب جمهرة أشعار العرب وصاحب كتاب آكام المرجان
وغيرهما.
ونحن ذاكرون ما وقفنا عليه من أسماء شياطين الشعراء؛ إذ هم جعلوا ذلك مادة في
تاريخ آدابهم.
قالوا: إن لافظ بن لاحظ هو صاحب امرئ القيس، وهبيد صاحب عبيد بن الأبرص وبشير بن
أبي حازم، وهاذر بن ماهر صاحب زياد الذبياني، وهو الذي استنبغه وهو أشعر الجن
وأضنهم بشعره؛ فالعجب منه كيف سلسل لذبيان به؟
٣ … ومسحل بن أثاثة صاحب الأعشى، وجهنان صاحب عمرو بن قطن، وعمرو صاحب
المخبل السعدي وصاحب حسان بن ثابت من بني الشيصبان، ومدرك بن واغم صاحب الكميت،
قالوا وكان الصلادم وواغم من أشعر الجن، وسنقناق صاحب بشار، وذكر جرير أنه يلقي
عليه الشعر مكتهلٌ من الشياطين؛ والفرزدق يقول: إن لسانه أشعر خلق الله شيطانًا،
ولكنهما لم يسميا هاجسيهما.
وقالوا: إن رجلًا أتى الفرزدق فقال: إني قلت شعرًا فانظره، قال أنشد:
فقال:
وفيهم عمر المحمودُ نائله
كأنما رأسه طين الخواتيم
فضحك الفرزدق ثم قال: يا أخي إن للشعر شيطانين يدَّعى أحدهما الهوبر والآخر
الهوجل، فمن انفرد به الهوبر جاد شعره وصح كلامه، ومن انفرد به الهوجل فسد شعره،
وإنهما قد اجتمعا لك في هذا البيت فكان معك الهوبر في أوله فأجدت، وخالطك الهوجل في
آخره فأفسدت.
٤
وكانوا يسمون الشعراء كلاب الحي، وأول من لقبهم بذلك عمرو بن كلثوم في
مقوله:
والرواية التي أتت كلاب الجن خطأ، لأن المراد بكلاب الجن شعراؤهم وهم الذين
ينبحون دونهم ويحمون أعراضهم كما ذكر الجاحظ
٦ وقد تابعه الشعراء على هذه التسمية؛ لأن كل هجَّاء منهم يفخر بأنه عقور
…
ولم يلتفت المحدثون من الشعراء بعد بشار بن برد لأمر هؤلاء الشياطين إلا ما يجيء
لهم من سبيل الفكاهة والبادرة، ولكنهم لم يدعوا الاستعانة بأسماء الله في رأس
القصيدة، فيكتبون اسم الفتاح أو العليم أو المعين، أو يبتدئون البسملة، وقد درجوا
على ذلك إلى اليوم، وبخاصةٍ في العراق.
هوامش