الشاعرات
كان ابن أبي داود يقول: ليس أحد من العرب إلا وهو يقدر على قول الشعر، طبع ركب فيهم، قلَّ قوله أو كثر، فإن صَدَقَ هذا على رجالهم صَدَقَ على نسائهم؛ إذ الطبع واحد واللغة متفقة والغريزة لا تختلف، وإنما يتفاوت الجنسان في فنون القول لا في القول نفسه، ثم في براعة الصناعة من جهة قوة الشعر وسبكه ورصفه والتئامه، ومن ناحية المعنى وصحته والإبداع فيه؛ أما في استقامة الألفاظ وفصاحتها، وفي استقامة الأوزان الشعرية بعضها أو كلها فما أحسب ذلك يعيي أحدًا منهم رجالًا ونساءً متى أراد وحمل طبعه عليه، إن لم يكن في جميعهم ففي أكثرهم؛ ولهذا كان الذي قصر بالشعر العربي وجعل أكثره متخلفًا لا يثبت على أفواه الرواة — كثرته وتعاطي كل أصوله، حتى العامة والسفلة؛ وما من قائل إلا وهو معدٌّ لقوله سامعًا، ولا من سامع إلا وهو يحفظ ويروي بعض ما سمع، فقد خرج الأمر إلى أن صار كالعادة والطبيعة؛ وإذا وجدت أمة كلها شعراء تساقط شعراؤها حتى لا يثبت منهم ولا يتفرد إلا من كان فوق الطبيعة وجاء من وراء العادة فيما قالوا وفيما سمعوا، أو من احتاجوا أن يعتبروه كذلك لأمر من أمورهم كما يحتاج أهل المملكة إلى الملك، وما هو بنفسه صار ملكًا ولكنه بما رضوا وخضعوا وبما سمعوا وأطاعوا.
فهذان سببان إن وقعا في حكم الشعراء من الرجال لم يتفق أحدهما ولا كلاهما للشاعرات من النساء؛ إذ كانت المرأة دون الرجل في هذه القوة، فلا هو ينقلب أنثى ولا هي تنقلب رجلًا، ثم كان لها من الشأن في التاريخ على مقدارها، فما قط عرفت شاعرة أخملت شعراء دهرها، ولا كاتبة غطت على كتَّاب زمنها، ولا عرف مثل هذا في الأدب ولا في الرواية ولا في شيء من هذه الصناعة بوسائلها وأسبابها، فكانت الطبيعة نفسها حجابًا مضروبًا على النساء قبل الحجاب الذي ضربه الرجال عليهن.
بهذين السببين قَلَّ الشاعرات من النساء طبيعة، ثم زادهن قلةً في العرب أن تاريخ النساء فيهم كان ينشئ جزءًا من تاريخ السيوف، فكانت المرأة العربية كأنها طبيعة من طبائع النقمة؛ إذ لم تكن إلا عِرضًا يُحمى بالسيف أو عِرضًا يُسلب بالسيف، وجعلها ذلك منهم بمنزلة الذاكرة من وقائع التاريخ، فهي التي تذكرهم الثأر وأيام الدم، وهي التي لا تنسى شيئًا مما هيأتها له الطبيعة الاجتماعية في أرضها وقومها، فإن كانت لم تعِش إلا في ظلال السيوف، وإن كانت أمًّا لم تلد إلا قاتلًا أو مقتولًا، فهي في الأولى يتصل بها تاريخ القتلى من أهلها، وفي الثانية تتصل هي بتاريخ القتلى من ذويها؛ فمن ثم انصرفت عن الشعر إلا في أخص شئونها، وشغلت من الخيال بإحساسها الذي لا همَّ لها إلا أن تستمده من الحادثات لتوقع منه حادثات مثلها، سيئة بسيئة؛ فهي بعيدة عن القول بمقدار قربها من العمل.
ولذلك بُنيت المرأة العربية على أخلاق شديدة، لمكان الطباع والعادات والحوادث التي أنشأتها وانحدرت فيها وجرت عليها، فجاءت في مثل تركيب الصحراء: إن يكن فيها ساعات ندية من الليل وضوئه ونسجه وأحلامه، ففيها نهار يصبُّ النار على الأحياء ملئ أقطار السموات، كأنه لم يقسم لها إلا شدة الحب وشدة البغض، تجري فيهما على أسباب وعلل مذ صارت جزءًا من طبيعتها الثانية فتستفرغ فيهما كل وسائلها وتبلغ بهما ما بلغت قواها. فتنتهي إلى خُلقين ثابتين: شدة الجزع وشدة الصبر؛ وكل ذلك مما لا يترك للشعر في طبعها إلا مكانًا محدودًا في معانٍ محدودة.
وسبب رابع في قلة الشاعرات عند العرب، وهو أن كل قبيلة إنما تعتد الشاعر لسانها السياسي، وتعده للخصومة في تاريخها والنضح عن أحسابها، وتنال به ما ينال الأسد من أنيابه، فهو منهم إن أرادوه كان المعنى المتوحش في المعنى الإنساني، وإن أرادوه لأفئدتهم كان المعنى الإنساني في المعاني الوحشية ولذلك يسمون الشعراء «أظفار العشيرة». والمرأة لا تصلح ظفرًا ولا نابًا، ولا تحسن أن تمضغ لحوم الأعداء في هجائها، ولا أن تأتي بالكلام الذي تترقرق فيه دماؤهم، ثم هي نفسها جزءٌ تقع عليه الخصومة بينهم، وفيها أكثر المعاني التي يستبون بها، بل هي أم هذه المعاني … ثم كانت طبيعة جنسهم أن ينشئوها في الحلية لا في الخصام، وأن يجعلوها فاكهة العيش لا ثمرة المر، وكل هذه حدود تتراجع فيها حدٌّ وراء حد، والشعراء منطلقون من جميعها.
والعرب لا يرون كل من تقول الشعر شاعرة؛ إذ كان ذلك طبيعيًّا فيهم وإنما الشأن فيمن تتخطى حدود الحجاب الطبيعي وتكثر من القول وتتصرف في فنونه ومعانيه بما يتعدد من حوادثها ومصائبها؛ فتلك هي الشاعرة عندهم لا غيرها، وبذلك جرت لهم العادة في السماع والرواية؛ إذ المصائب تجعل المرأة في جو الرجل أو قريبة منه، بما تضيف إليها من الشعور وبما تبعثها عليه من العمل، ثم هي في تلك الحال إنما تدون لهم بعض التاريخ وتزيدهم لسانًا في رواية المفاخر، ومن هذه الجهة تشبه الشعراء، فيتناشدون شعرها ويستمعون إليها، وتنبغ بالمصائب ثم تكون ندرتها فيهم نبوغًا آخر، وقلما تقدمت المرأة عندهم في باب من أبواب الكلام أو العمل إلا كانت غريبة نادرة، وهي سنة طبيعية في التاريخ انتفعت بها النساء الشاعرات إلى يومنا هذا؛ فإن الشيء الغريب لو لم تكن له قيمة لكفى بغرابته قيمة فيه.
وكان نساء العرب يقلن الشعر في معانٍ متقاربة يرجع أكثرها إلى إحساس المرأة وحسن تصريفه بين عقلها ولسانها؛ ولم يكن لهن من معاني الشعر غير الرثاء وبعض الغزل، وشعر ترقيص الأطفال، وشعر التحضيض يثرن به نخوة الرجال ويحضضنهم على طلب الثأر والثبات والاستماتة في الحرب، وقد تجعل المرأة جسمها قصيدة مع شعرها في التحضيض، كالذي فعلته ابنتا الفِند الزِّمَّاني، فقد قالوا إنه لما اشتدت الوغى يوم التحالق وخاف بنو بكر من الفرار، عمدت إحداهما إلى أثوابها فألقتها عنها وأقبلت عارية مجردة وجعلت تحض الناس وترتجز، وفعلت أختها مثل ذلك، فتحمس القوم ووثبوا يقاتلون قتالًا منكرًا؛ فهذه مادة من شعر النساء لا يستطيعها أبلغ الشعراء من الرجال.
والرجز الذي ارتجزت به إحدى هاتين هو الرجز المشهور:
ومن أعجب شعر النساء القديم في الجاهلية الأبيات المشهورة المروية لليلى بنت لكيز الملقبة بالعفيفة، وهي التي تصف فيها ابتذال الأعداء لعفافها بهذا البيت النادر:
وقولها: «ملمس العفة» من الكلام الذي لا يفنى التعجب من بلاغته ومن حسن التعبير فيه. وكذلك أبيات جليلة أخت جساس، وكان أخوها قتل زوجها كليبَ بن ربيعة، فلما اجتمع النساء يندبنه أخرجنها وحسبنها شامتة لأنها أخت القاتل، فبلغ ذلك إليها فقالت أبياتًا من أعجب الشعر:
قال صاحب المثل السائر: وهذه الأبيات لو نطق بها الفحول المعدودون لاستعظمت، فكيف بها من امرأة!!
وقد استفحلت الخنساء في رثاء أخيها صخر، وكان أخاها لأبيها ولكنه كان أحب إليها من معاوية وهو لأبيها وأمها.
غير أن المصائب لا تجعل غير الشاعرة شاعرة، ولا بد من تركيب ملائم في بعض الناس لتلقِّي مادة الشعر عن الروح والقلب والطبيعة، ولم يأت في شعر النساء خاصة أفحل ولا أجزل من شعر الخنساء، كأن فَقْدَ رجالها جعلها رجلًا.
وكثير من أشعار النساء يضعه الرواة ويهيئون له أخبارًا يجري فيها ذلك الشعر، ولكن ما تقوله المرأة في لوعتها لا يُحْسن الرجل أن يقول مثله مهما تكلف لذلك ولبسه على تصنُّع؛ وبهذا تستطيع أن تميز الصحيح والمنحول من شعر النساء.
وقد يُمسك لسان امرأة في مصيبتها زمنًا إلى الحول إذا فُجعت بحبيبها، فلا تقول شيئًا مع قدرتها على القول؛ لأنها لا تسلو ولا تفيق، ولا تريد أن تسلو ولا تفيق، كامرأة مالك بن عمرو الغسَّاني، فلما زوَّجوها بعد زوجها الأول نطقت ترثيه ليلة عرسها، فكان شعرها طلاقها من بعلها الثاني!
ومن نادر الشعر في مراثي النساء أبيات تُروى لامرأة من بني الحارث بن كعب كان لها طفلان من عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب، وكان عبيد الله هذا عاملًا لعليِّ بن أبي طالب على اليمن، فوجّه معاوية إلى اليمن بسر بن أرطأة فأرشد على الطفلين، فوارتهما أمهما تحت ذيلها، فأخذهما وذبحهما تحت عينيها؛ فكانت تقول في رثائهما وندبهما أبياتًا، منها:
ولا أبلغ في البلاغة ولا أحسن حكايةً لصوت البكاء والندب من قولها «بنيَّيَّ» فهاتان الياءان المشددتان تعصران الدموع عصرًا وتصوران غصص العبرات مترددة في حلق الباكية أبدع تصوير.
ولم يكن نساء العرب يقلن في الغزل ووصف الهوى إلا قليلًا، لمكان المرأة بينهم وشدة الغيرة فيهم، ثم لا يكون غزلهن إلا عفيفًا، كهذه الأبيات التي رواها ثعلب لامرأة من العرب تقول فيها تصف خلوة مع حبيبها:
وهذا المصراع الأخير من أبدع الكنايات ومن أبلغ البلاغة العربية.
فلما تحضر العرب ونشأت طبقة الشعراء العشاق، وبدأ عصر القيان الناديات المغنيات — مثل جميلة وعزة الميلاء وسلامة الزرقاء ومن في طبقتهن — فشا الغزل في شعر النساء، وكان يندر بعد ذلك أن تظهر الشاعرة المتفحلة التي تجري على سُنة العربيات، كليلى بن طريف الشاعرة الفارسة التي كانت في أواسط القرن الثاني للهجرة، وكانت تسلك في رثاء أخيها الوليد بن طريف الشيباني الخارجي مسلك الخنساء في رثاء صخر، ولها الأبيات الطائرة التي منها هذا البيت البليغ المشهور في كتب النحاة:
ومن مضحكات فضل هذه أنها كانت تهاجي خنساء الشاعرة جارية هشام المكفوف، وذلك ما لم نعرف له نظيرًا في الأدب العربي، فقد عرفنا أن الهجاء قد يلجُّ بين شاعرين، أو بين شاعر وشاعرة، ولكنا لم نعرفه بين شاعرة وأخرى مثلها، إلا ما قيل عن فضل وخنساء، وكان هجاؤهما نسائيًّا حييًّا، وكانت كلتاهما تستعين في ذلك بالرجال، فكان أبو شبل عاصم بن وهب يعاون فضلًا، وكان القصيري والحفصي يعينان خنساء، وبهذا رجع الهجاء إلى حقيقته فصار بين رجال بعضهم وبعض.
وكان عند المتوكل شاعرتان غير فضل، هما: بنان ومحبوبة، غير أن السبق لفضل؛ فهي شاعرة زمنها.
وعلى كثرة أسماء النساء الشاعرات في التاريخ الأدبي وروايتهم، عن أبي نواس أنه قال: ما قلت الشعر حتى رويت لستين امرأة منهن الخنساء وليلى. وقول أبي تمام: لم أنظم شعرًا حتى حفظت سبعة عشر ديوانًا للنساء خاصةً — لم ينتهِ إلينا ولا ديوان واحد إلا المقطعات التي جمعت للخنساء، وهي ليست ديوانها؛ ولعل السبب في ذلك أن الناس لم يكونوا يحفلون بشعر النساء؛ إذ كان شعر الرجال قد ملأ الدنيا وذهب المذاهب كلها في فنون الكلام وبلاغته، وإنما كان يجمع بعض الرواة والعلماء أشياءً من ذلك، كالكتاب الذي جمعه أبو عبد الرحمن العُتبي الشاعر البصري المتوفى سنة ٢٢٨ﻫ من أشعار النساء اللاتي أحببن ثم أبغضن، وكلهن من العرب، وأشعار النساء للمرزباني، وهذا الكتاب لا يزال موجودًا،ثم ما ألف في طبقاتهن، كالإماء الشواعر للأصبهاني المتوفى سنة ٣٥٠ﻫ، والنساء الشاعرات لعدة أدباء.
والعجيب أن الذين ألفوا في طبقات الشعراء لم يذكروا الشاعرات معهن، لا في الحجاز ولا في الشام ولا في العراق ولا في مصر ولا في المغرب ولا في الأندلس، وضربوا الحجاب عليهن؛ إذ كان شعر النساء تظرفًا، وإذ لا يكاد يُعرف في التاريخ كله من تستحق اسم الشاعرة غير بضع نساء معدودات أشهرهن من عَددنا؛ وإذا عُرفت امرأة واحدة في عصر، غطى عليها مائة رجل في حجاب من لحي الرجال فلا تكاد تظهر؛ فيا رحمتا لهؤلاء الضعيفات!