تنَوِّع الشعر العربي وفنونه
الشاعر إنسان منفرد في الناس، وهو في نفسه عالم مجتمع من حيث تشتبك في نفسه علائق الموجودات وترتبط أسباب الحوادث وتتألف من ذلك كله صور مرتبة تلقيها إليه حقائق هذا العالم التي يستمد منها الشعر، غير أن تلك الصور يدخل عليها ما يعتري الصور الحسية من الجمال والقبح على اختلاف أنواعها من الرقة والمناسبة والغلظة واختلال التركيب ونحوها؛ وذلك تابع لتأثير العصور على الشاعر ومقدار ما يكون قد تخلف في عصره من أسباب الرقي الإنساني، فإن جهد الشاعر أن يكتنه حكمة الخالق في خلقه — وليس العالم كله إلا تفسيرًا مرتبًا على أجزاء هذه الحكمة البالغة — فالعصر الطويل بحوادثه التي تغير وجه الأرض إنما هو صفحة تُطوى لتترك من المعاني ما تُبنى عليه صفحة أخرى، وما هذا التشابه في حوادث العالم إلا نوع من الالتئام، كما يتشابه الثوب في جملة نسجه ولكن قطعة منه لا تغني عن قطعة، بل لا بد لظهور حقيقته من التئامها كلها على حسب ما يقدر له في كماله. وعلى ذلك يمكن تقسيم الشعر مطلقًا إلى ثلاثة أقسام باعتبار علاقة روح الإنسان بالقوى الغيبية، وعلاقتها بأحوال الناسن وعلاقتها بسائر الموجودات الأخرى؛ لأن الشعر ليس أكثر من أن يكون لغة الروحن فجميع أنواعه إلى هذه الأقسام الثلاثة وعلى مقدار ارتقاء كل أمة يكون مبلغ شعرها منها، فالعرب في جاهليتهم كانوا منصرفين عن الفكر في حقائق القوى الغيبية، مستسلمين للأوهام بحكم العادة ولذلك فقدت من شعرهم مادة الجمال الروحاني التي يتألق فيها نور السماء، فكان شعرًا ماديًّا لا يصف المحسوس بأكثر من كونه محسوسًا وإن تنوعت العبارات واختلفت الأساليب، وكذلك كانت علائقهم الاجتماعية بسيطة في أكثر أحوالها؛ لأنهم أهل بادية لا يختلطون بغيرهم ولا يعرفون من تاريخ العصور أكثر من عوائد أسلافهم الأقربين، فكأنهم في أوائل من عمروا الأرض، وكأنهم عند أنفسهم من آباء التاريخ؛ ولذلك جاءت فنون شعرهم غير مرتبة ولا مستقصاة، بل تنحصر في أنواع لا تكافئ ما يكون من العلائق في أمة راقية، وكانوا يعرفون ذلك النقص في مادة أشعارهم فوجهوا جهدهم وصرفوا قواهم إلى الفصاحة وتشقيق الكلام وتصريف اللغة؛ فبلغوا في ذلك منزعًا بعيدًا؛ لأنها من الصناعات التي تلائم الظواهر النفسية، وكانت أحوالهم الاجتماعية كلها بعيدة عن أن يغاص عليها في قرارة النفس، فلما صادف ذلك الاتفاق منهم المشابهة التامة والمطابقة الصحيحة، نهضت به طباعهم الراقية إلى ما قصرت فيه عنهم سائر الأمم، لانصراف طباعها إلى غير ذلك وتوزع قوى الابتكار في أفرادها ونوابغها المعدودين.
وبهذا يتضح لك خطأ ما حكاه ابن خلدون وأقره من اعتقاد أئمة الصناعة الأدبية أن ما لم يجرِ على أساليب العرب كشعر المتنبي والمعري ليس هو من الشعر في شيء، وهو يريد بأساليب العرب ما صرفوا إليه جهدهم مما وافق ظواهر أحوالهم على نقصه. وقد سقط في ذلك جمهور الأدباء حتى كبارهم كالجاحظ وغيره، فكان من هذا علة أصل الجمود الذي جعل الشعر العربي يضطرب في دورة الأزمنة لأنه لا يدور معها إلا قليلًا عندما يدفعه أهل القرائح المستقلة، ومدار الاستقلال في القريحة على نوع من الإبداع خاص بها هو الذي يقال في نفَس فلان وروح فلان، فإذا اقتدت القرائح بعضه ببعض فقد استعبدت وذلت؛ لأنها تتبع آثارًا في طريق مصنوعة، ولكن طريق الإلهام لا أثر فيه إلا حس الأرواح بعضها ببعض، وليس يمحق هذا الحس إلا خذلان من الله، فالقريحة المستقلة لا تتبع صفة قريحة أخرى، ولكنها تتبع الروح الملهم وتتبين آثاره في الصنعة وتبالغ في تمييزها حتى تتجه إلى مصدر الإلهام، وذلك سر النبوغ العبقري.
وقد يتفق للجاحظ أن يحوم بخاطره حول المعنى المقصود من الشعر ولكنه لا يسقط إلا على أطرافه وأعالي فروعه، وإنما يعمَّى عليه أنه ينظر إلى أن الشعر عمل فرديٌّ مبدؤه الشخص وغايته الشخص؛ وكان ذلك صحيحًا في العرب لأنه ينطبق على حالتهم الاجتماعية؛ إذ كانوا أفرادًا أو في حكم الأفراد، وكانت كل أعمالهم تجري هذه المجرى، فهم لا يغزون مثلًا مدافعة عن الحياة العامة للقبيلة؛ أي من أجل باعث سياسي؛ ولكنهم يغزون للحياة الفردية؛ أي مدافعة عن العيش أو التماسًا له أو مغالبةً عليه؛ وكذلك هم في كل شأنهم ما دام قوام الاجتماع عندهم بالعصبية، وقد ظهر أثر ذلك في شعرهم فهو شخصي في معانيه، ممتاز بهذه الشخصية، حتى لا تجد فيه الحوادث المركبة التي يرمي بها إلى غرض عام، كتاريخ قبيلة من القبائل؛ وكالشعر التمثيلي الذي يُتحَيَّل فيه على تصريف المعاني وسياسة الحوادث، وكان ذلك سهلًا عليهم لو أنه في طبيعة معيشتهم ومن مقتضى نظامهم الاجتماعي، أما فيما عدا ذلك، أي في المعاني الشخصية، فقد بلغوا في إجادتها مبلغًا يناسب إحكام اللغة وإتقانها؛ وهو الذي خُدع به الرواة حتى ظنوه كمالًا إنسانيًّا كان مقسومًا للعرب فخصوا به وذهب في مآثر زمنهم؛ لأن على أسلوبهم وشي الغريزة، وفيه حوك الطبيعة وذلك معدوم في طبع من بعدهم بالضرورة، ولما سُئل أبو عمرو بن العلاء عن المولدين قال: ما كان من حسن فقد سُبقوا إليه وما كان من قبيح فمن عندهم، ليس النمط واحدًا، ترى قطعة ديباج وقطعة نسيج وقطعة نطع …
قال الجاحظ: عامة العرب والأعراب والبدو والحضر من سائر العرب أشعر من عامة شعراء الأمصار والقرى من المولدة وليس ذلك بواجب لهم في كل ما قالوه، وقد رأيت ناسًا منهم يبهرجون أشعار المولدين ويستسقطون من روائها، ولم أرَ ذلك قط إلا في رواية للشعر غير بصير بجوهر ما يروى، ولو كان له بصر لعرف موضع الجيد ممن كان وفي أي زمان كان … إلى أن قال: والمعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجمي والعربي والبدوي والقروي؛ وإنما الشأن في إقامة الوزن وتخير اللفظ وسهولة المخرج، وفي صحة الطبع وجودة السبك، فإنما الشعر صناعة وضرب من الصبغ وجنس من التصوير …
قلت: وإذا كان الشعر ضربًا من الصبغ وجنسًا من التصوير فلا ينبغي أن يكون كله ماءً ورونقًا، وهو اللون البليغ الذي يريدونه؛ لأن تصوير الحياة العامة يحتاج إلى الألوان الكثيرة، وربما دخل فيها أقبح الألوان فكان أحسن شيء لوقوعه مع المناسبة بين الألوان الأخرى.
على أن المحدَثين قد خالفوا العرب في كثير من الشعر إلى ما هو أليق وأمسَّ بأزمانهم، ولكن ذلك إنما كان من تأثير العصور عليهم ضرورةً ولم يتجاوزوا به التشبيه والأوصاف، أما فنون الشعر فبقيت على ما تركها العرب، إلا ما كان من التصرف القليل في بعضها — كما ستعرفه — وأول من عدَّ هذه الفنون وميز الشعر بها تمييزًا أُخذ عنه، أبو تمام؛ فإنه رتب كتاب الحماسة في عشرة أبواب: هي الحماسة، والمراثي، والأدب، والتشبيب، والهجاء، والإضافات، والصفات، والسير، والملح، ومعرفة النساء، ثم جاء عبد العزيز بن أبي الأصبغ فجعلها بعد التتبع والاستقصاء ثمانية عشر: وهي الغزل، والوصف، والفخر، والمدح، والهجاء، والعتاب، والاعتذار، والأدب، والخمريات، والأهديات، والمراثي، والبشارة، والتهاني، والوعيد، والتحذير، والتحريض، والملح، وباب مفرد للسؤال والجواب.
وقد ذكر الثعالبي في ترجمة ابن حجاج الشاعر الهذلي الكبير وكان في القرن الرابع، أن البديع الأسطرلابي رتب ديوانه على مائة وأربعين بابًا وواحد، ثم قفى كل باب وجعله في فن من فنون شعر الزجل؛ ولكن هذه الفنون غير متباينة في تنوعها، بل ربما كان منها مائة نوع من الهجاء والسباب وحده، والباقي في المديح وغيره.
فأنت ترى أن تلك الفنون جميعها متداخل بعضها في بعض من حيث الوصف الشعري، وإنما هي أسماء نوعية تتباين مسمياتها بالحالة لا بالذات، فإن الشعر في الأعم الأغلب واحد في جميع تلك المتناقضات والمتشابهات من حيث روحه وأسلوبه والمبدأ الذي يأخذ منه والغرض الذي ينتهي إليه، ولكن أحواله متعددة بحسب اختلاف تلك الأنواع، فإن حالة الرثاء وصفة الفجيعة مثلًا غير حالة الشعر الخمري وصفة الطرب والانشراح.
ولكن تنوع الشعر في الحقيقة إنما يكون ذاتيًّا، أي في الروح والأسلوب والمبدأ والغرض؛ فروح الشعر هو نوع التأثير الذي يخلقه الشاعر فيه، والأسلوب هو الطريقة التي يخصص بها نوع هذا التأثير، والمبدأ هو المعنى النفسي الخاص الذي يكيف به الشعر المؤثر، والغرض هو المعنى العام النفسي الذي يقصده من التأثير.
وبذلك يكون الشعر تمثيلًا حقيقيًّا للحياة؛ لأن الحياة مجموع من العادات العملية والانفعالية والذهنية مرتبة ترتيبًا منظمًا يؤدي إلى سعادة أو شقاء، ويسوق إلى الأقدار أيها كان، والناس كذلك مختلفون في قيمة التأثر بأحوال هذه الحياة، ونوع هذا التأثر، وفي المبادئ الخاصة التي تُبنى عليها تلك الأحوال، والأغراض العامة التي تُساق إليها، فالشاعر ينبغي أن يكون قوة من قوى الطبيعة التي تساعد في تكوين هذا الاجتماع على حالة من أحواله المختلفة، والقوى الطبيعية كلها متغايرة متباينة، ولكن هذا التغاير فيها إنما هو شكل الانتظام الذي قامت به الحياة. والذي يحتاج إلى المطر لا يشترط في السحاب أن يجيء من هنا أو من هناك، ولا أن يكون قد تصاعد من بحر كذا أو غيره، ولا أن يساق بريح شديدة أو لينة، وكذلك الشاعر لا يقيد في شعره بنوع أو حالة؛ لأن الشعر قوة مؤلفة من عناصر دقيقة تنتظم بطبيعتها على النحو الذي يصورها في شكلها الملائم لتصريف مادة القوة فيها وعلى حسب ما يصرف الشاعر من هذه القوة.
فإذا اتفق الشعراء على شكل واحد وعلى أنواع معروفة لا تكافئ أغراض الحياة، فقط سقطوا من منزلتهم الطبيعية المبنية على تنوع القوى، وعند ذلك تظهر في مجموعة شعرهم الزيادة عن الحاجة الخاصة بأكثر مما يظهر فيه النقص عن الحاجة العامة اللازمة للاجتماع، وتكون النتيجة من ذلك أن يضج أكثرهم من وقت الحرفة؛ لأن المتفردين منهم بظهور القوة هم الذين يكونون شعراء الناس فيجتازون، والباقين يكونون شعراء أنفسهم فيغيبون في شعراء الناس.
وليس يؤخذ مما ذكرناه أن شعراء العرب لم يكونوا على بينة من حقيقة الشعر، بل هم قد تبينوها، ولكن لم تمكنهم حالة عصرهم التفنن في أقسام الشعر وتنويعه على معاني الحياة الراقية؛ إذ كانت هذه الحياة غير متيسرة لهم، وكان ذلك حقًّا على من جاءوا بعدهم، ولكنهم إنما درسوا الشعر في الغالب لينوعوا به الحياة، وكان الصحيح لو أثبتوا سنة العرب أنفسهم ودرسوا الحياة لينوعوا بها الشعر.
وسنأخذ في تاريخ أهم الأبواب التي فيها يدخل النظم العربي وهي: الهجاء، والمديح، والحماسة، والرثاء، والتشبيب، والوصف، والسياسة، والحكمة، والهزل، وشعر الحكاية، وشعر الترقيص. ونتبعها بفصل في الشعر العلمي، وهو الذي تُنظم فيه المتون والضوابط والكتب، مقتصرين على تأريخ كل باب دون البحث في وجه المعنى وطريق صنعته، فذلك من موضوع البلاغة ونقد الشعر.