نحن في تأريخ هذه الأبواب لا نبسط فلسفة الأخلاق، ولا نكتنه أسرار تركيبها نريد
أن نلون أجزاء الصورة الإنسانية بالأصباغ حتى نعيِّن منها ما يكون صباغة بالشعر وما
لا يكون؛ لأننا لو ذهبنا نُعِد لذلك لأدخلنا في هذا الكتاب كتابًا آخر، وأحدهما لا
محالة مخرج الثاني عن غرضه الذي وُضع له؛ فالكلام في الهجاء يحتمل كثيرًا من فلسفة
النفس، كتعريف العيوب والرذائل وما يتأثر بها من الأخلاق والأحوال التي يكون فيها
هذا التأثير على اختلافه لِينًا وشدةً، إلى ما يتصل بهذه المعاني أو يقاربها. فنحن
نتجاوز ذلك كله إلى التأريخ. وإنما نلم فيه بما لا يَحسُن بنا أن نتخطاه وإن ترامت
أطراف الكلام، وكان الإسراع وسيلة السائر فيه إلى الأمام.
ولهذا لم يكن الهجاء عند العرب في اعتبار السباب والإفحاش، ولكنه سلبُ الخُلق أو
سلب النفس، أو فصل المرء من مجموع الخلق الحي الذي يؤلف قومية الجماعة وتركه عضوًا
ميتًا يتواصفون ازدراءه ويحركه جسم الأمة حركة جامدة كلما نهض أو تقدم.
الأبيات فلما بلغ عامرًا ما قال النابغة شقَّ عليه وقال: ما هجاني أحدٌ حتى
هجاني النابغة، جعلني القومُ رئيسًا وجعلني النابغة سفيهًا جاهلًا وتهكم بي!
ولذلك السبب كان أليق ما يسمى به الهجاء (شعر التاريخ)؛ لأن الهجَّاءة مؤرخ يذكر
مثالب الناس ومناقبهم، ويقص من التاريخ ما يستعين به على إحكام معنى الهجاء؛ حتى
إنك لتقرأ كثيرًا من الشعر الذي أُثر عنهم في ذلك وفيه ذكر العادات وأخبار من
التاريخ فلا تجد فيه شعرًا، حتى إذا عرفت شرحه وتأويله وجدت فيه شعرًا لا يكون ذلك
المنظوم إلا إشارة إليه، وذلك كقول جرير يعيِّر الفرزدق ويعلمه فخر قيس
عليه:
والأشعار في ذلك مأثورة تفيض بها الكتب.
الهجاء في القبائل
وكان هجاء الشريف عندهم مما ينذرع إلى هجاء قبيلته وتشعيثها؛ لأنه لا يشرف
إلا إذا فخرت القبيلة به وجعلته معقد ألسنتها فيما بينها وعنوان شرفها بين
القبائل، وكان له عز الأمر والنهي، وعقد المنن في أعناق الرجال وسرور الرياسة،
وثمرة السيادة. قال الجاحظ في سبب ذلك: وإذا بلغ السيد في السؤدد الكمال حسده
من الأشراف من يظن أنه الأحق به، وفخرت به عشيرته، فلا يزال سفيه من شعراء تلك
القبائل قد غاظه ارتفاعه على مرتبة سيد عشيرته فهجاه. ومن طلب عيبًا وجده، فإن
لم يجد عيبًا وجد بعض ما إذا ذكر وجد من يغلط فيه ويحمله عنه. ولذلك هُجي حصن
بن حذيفة، وهُجي زرارة بن عُدَس، وهجي عبد الله بن جدعان، وهجي حاجب بن زرارة.
وإنما ذكرت لك هؤلاء لأنهم من سؤددهم، وطاعة القبيلة لهم، لم يذهبوا فيمن تحت
أيديهم من قومهم ومن حلفائهم وجيرانهم مذهب كليب بن ربيعة، ولا مذهب حذيفة بن
بدر، ومذهب عيينة بن حصن، ولا مذهب لقيط بن زرارة — أي في إعنات الناس بطغيانهم
وبغيهم كما كان يفعل كليب إذ كان يحمي موقع السحاب فلا يُرعى ونحو ذلك
٩ — فإن هؤلاء وإن كانوا سادة فقد كانوا يظلمون … وكان أولئك السادة
لم يكن شأنهم أن يردوا الناس إلى أهوائهم، وإلى الانسياق لهم بعنف السوق
وبالحرب في القود، وهم مع ذلك قد هجوا بأقبح الهجاء. ومتى أحب السيد الجامع
والرئيس الكامل قومه أشد الحب، وحاطهم على حسب حبه لهم، كان بغض أعدائهم له على
حسب حب قومه.
١٠ هذا إذا لم يتوثب إليه، ولم يعترض عليه من بني عمه وإخوته من قد
أطمعته الحال في اللحاق به، كخبر أوس بن حارثة بن لأم الطائي حين ألبسه النعمان
الحلة التي جعلها لأكرم العرب، فحسده قوم من أهله، فقالوا للحطيئة: اهجُه ولك
ثلاثمائة ناقة! فقال الحطيئة: كيف أهجو رجلًا لا أرى في بيتي أثاثًا ولا مالًا
إلا من عنده؟ ثم أخذها بشر بن أبي خازم أحد بني أسد وهجاه … والخبر بجملته ساقه
المبرد في الكامل.
١١ ولذلك لم يكن يسلم من ضروب الهجاء إلا القبائل المغمورة والمنسية،
حيث لا يكون فيها خير كثير ولا شر كثير، وحيث يكون محلهم من القلوب محل من لا
يغيظ الشعراء ولا يحسدهم الأكفاء، فيسلمون من أن يُضرب بهم المثل في قلة
ونذالة، بخلاف القبائل التي يعرفونها بالمناقب والمثالب. وقد تكون القبائل
متقادمة الميلاد، ويكون في شطرها خير كثير وفي الشطر الآخر شر وضعة، مثل قبائل
غطفان وقيس عيلان؛ ومثل فزارة ومُرة وثعلبة؛ ومثل عبس وعبد الله بن غطفان؛ ثم
غني وباهلة واليعسوب والطفاوة، فالشرف والخطر في عبس وذبيان؛ وربما ذكروا
القبائل الوضيعة ببعض الذكر؛ مثل اليعسوب والطفاوة وهاربة البقعاء وأشجع
الخنثى؛ ولكن البلاء كله لم يقع إلا بغني وباهلة، وهم أرفع من هؤلاء وأكثر
مناقب، ولكنهم لقوا من صوائب سهام الشعراء ومرِّ الهجاء كأنهم آلة لمدارج
الأقدام ينكب فيها كل ساعٍ ويعثر بها كل ماشٍ، حتى صار من لا خير فيه ولا شر
عنده أحسن حالًا ممن فيه الخير الكثير وبعض الشر، قال الجاحظ: ومن هذا الضرب
تميم بن مر وثور وعكل وتميم ومزينة، ففي عكل ومزينة من الشرف ما ليس في ثور،
وقد سلم ثور إلا من الشيء اليسير مما لا يرويه إلا العلماء، ثم حلت البلية وركد
الشر والتحف الهجاء على عكل وتميم وقد شعَّثوا بين مزينة شيئًا، ولكنهم حبَّبهم
إلى المسلمين قاطبة ما تهيأ لهم من الإسلام حين قَل حظ تميم فيه …
ولولا الربيع بن خيثم وسفيان الثوري لما علم العامة أن في العرب قبيلة يقال
لها: ثور، ولَشَريف واحد ممن قَبَلَتْ تميم أكثر من ثور وما ولد، وكذلك
بَلْعَنْبر قد ابتليت وظُلمت وبُخِسَتْ مع ما فيها من الفرسان والشعراء … ومن
نوادر الرجال إسلاميين وجاهليين؛ وقد سلمت كعب بن عمرو، فإنه لم ينلها من
الهجاء إلا الخمس والنتف …
ولأمر ما بكت العرب بالدموع الغزار من وقع الهجاء، وهذا من أول كرمها، كما
بكى مخارق بن شهاب، وكما بكى علقمة بن علاثة، وكما بكى عبد الله بن
جدعان،
١٢ أما مخارق بن شهاب فذكر في البيان أنه وفد رجل من بني مازن على
النعمان بن المنذر، فقال له النعمان: كيف مخارق بن شهاب فيكم؟ قال: سيد كريم،
وحسبك من رجل يمدح نفسه ويهجو ابن عمه. ذهب إلى قوله:
ترى ضيفها فيها يبيت بغبطة
وجار ابن قيس جائع يَتَحَوَّبُ
١٣
ولعله بكى لذلك. وأما علقمة بن علاثة فقد ذكر ابن بسام في الذخيرة أنه لما
سمع قول الأعشى:
تبيتون في المشتى مِلاءً بطونكم
وجاراتكم غَرْثى يَبتنَ خمائصا
بكى وقال: أنحن نفعل ذلك بجاراتنا؟ وأما عبد الله بن جدعان، فقد قال الجاحظ
في الحيوان: إنه بكى من بيت لخداش بن زهير ولم يذكره، ولم نقف عليه، وكان خداش
قد هجاه من غير أن يكون قد رآه، وكذلك فعل دريد بن الصمة؛ لأنه رأى فيه شرفًا
ونبلًا فأراد أن يضع شعره موضعه.
١٤
ومن أسباب الهجاء في القبائل أيضًا أن يكون القبيل متقادم الميلاد قليل الذلة
قليل السيادة، فيتهيأ أن يصير في ولد إخوتهم الشرف الكامل والعدد التام، فإنه
يستبين حينئذ لكل من رآهم أو سمع بهم أضعاف الذي هم عليه من القلة والضعف،
وتكون البلبلة في شرف إخوتهم، وكذلك عندهم كل أخوين إذا برع أحدهما وسبق وعلا
الرجال في الجود والإفضال أو في الفراسة والبيان؛ فإنهم يقصدون بمآثر الآخر في
الطبقة السفلى لتبين البراعة في أخيه، وقد يكون مع ذلك وسطًا من الرجال، فصارت
قرابته التي كانت مفخرة هي التي بلغت به أسفل السافلين.
١٥
ولما صار للهجاء في القبائل هذا الشأن واعتقدوه سياسة، صار البيت الواحد
يربطه الشاعر في قوم لهم النباهة والعدد والفَعال، فيدور بهم في الناس دوران
الرحى. كما أهلك الحبطات وهم بنو الحارث بن عمرو بن تميم قول الشاعر
فيهم:
رأيت الحُمر من شر المطايا
كما الحبطات شرُّ بني تميم
فلزمهم هذا القول؛ وكما أهلك ظليمَ البراجم قول آخر:
إن أبانا فقحة لدرامِ
كما الظليم فقحةُ البراجمِ
وكما أهلك بني عجلان قول النجاشي:
وما سُمّي العجلان إلا لقولهم
خذ العقبَ واحلب أيها العبد واعجلِ
وكما أهلك نميرًا قول جرير يهجو الراعي:
فغُضَّ الطرف إنك من نمير
فلا كعبًا بلغت ولا كلابا
وهذه القصيدة تسميها العرب: الفاضحة، وقيل سماها جرير: الدماغة، وقد تركت
بني نمير ينتسبون بالبصرة إلى عامر بن صعصعة ويتجاوزون أباهم نميرًا إلى أبيه
عامر؛ هربًا من ذكر نمير، وفرارًا مما وُسم به من الفضيحة والوصمة،
١٦ وكان بنو نمير من جمرات العرب الذين تجمعوا في أنفسهم ولم يُداخلوا
معهم غيرهم في أنسابهم بالمحالفة ونحوها؛ والجمرات هم بنو نمير، وبنو الحارث بن
كعب، وبنو ضبة، وبنو عبس بن بغيض؛ قال المبرد في «الكامل»: وأبو عبيدة لم يعدد
فيهم عبسًا في «كتاب الديباج» ولكنه قال: فطفئت جمرتان وهما: بنو ضبة؛ لأنها
صارت إلى الرباب فحالفت، وبنو الحارث؛ لأنها صارت إلى مذحج، وبقيت بنو نمير إلى
الساعة لأنها لم تحالف
١٧ وقد أجاب شاعرهم جريرًا فلم يغن عن قومه شيئًا.
وعلى الضدِّ من ذلك خبر بني أنف الناقة؛ فإن الواحد منهم كان إذا قيل له: ممن
الرجل؟ قال: من بني قريع، فيتجاوز جعفرًا أنف الناقة ابن قريع بن عوف بن مالك،
فما هو إلا أن قال الحطيئة:
قوم هم الأنف والأذناب غيرهم
ومن يسوِّي بأنف الناقة الذَّنبا؟
حتى صاروا يتطاولون بهذا النسب ويمدُّون به أصواتهم في جهارة.
١٨ وقد بلغ من خوفهم من الهجاء ومن شدة السب عليهم وتخوفهم أن يبقى
ذكر ذلك في الأعقاب ويسب به الأحياء والأموات، أنهم إذا أسروا الشاعر أخذوا
عليه المواثيق، وربما شدوا لسانه بنسعة كما صنعوا بعبد يغوث بن وقاص حين أسرته
بنو تميم يوم الكلاب، وأبياته في ذلك مشهورة
١٩ وأسر رؤبة في بعض حروب تميم فمنع الكلام، فجعل يصرخ: يا صباحاه!
ويا بني تميم، أطلقوا من لساني.
٢٠
ثم صاروا يستنجدون بالشعراء ليحضوا لهم الأشراف في ردِّ الغارة وغيرها فيخشى
الشريف إن هو لم يغِثه أن يفضحه بهجائه.
٢١
وكما سلم بعض القبائل من الهجاء بالخمول والقلة، كغسان وغيلان من قبائل عمرو
بن تميم سلمت بعض القبائل بالنباهة العالية من مضرة الهجاء فكأنها لم تُهجَ،
مثل نباهة بني بدر وبني فزارة، ومثل نباهة بني عُدَس بن زيد وبني عبد الله بن
دارم، ومثل نباهة الذبان بن عبد المدان، وبني الحارث بن كعب، فليس يسلم من مضرة
الهجاء إلا خامل جدًّا أو نبيه جدًّا.
٢٢
وذكروا عن حجناء بن جرير أنه قال لأبيه: يا أبت إنك لم تهجُ أحدًا إلا وضعته
إلا اليتيم. فقال جرير: إني لم أجد حسبًا فأضعه ولا بناءً فأهدمه.
٢٣
وقد سمر يزيد الرقاشي ذات ليلة عند السفاح فحدثه بحديث ساقه فيه أشعارًا هجيت
بها ثلاث وأربعون قبيلة، وقد حكاه المسعودي في (مروج الذهب)
٢٤ فالتمسه هناك.
وكان الشعراء يعرفون تاريخ الهجاء في القبائل حتى ليستطيعون أن يميزوا
القبائل التي انتضلت بينها تلك السلام من القبائل التي تحاجزت فلم يكن بينهما
هجاء، وقد أنشد الكميت بن زيد نصيبًا الشاعر فاستمع له، فكان فيما أنشده قوله
يصف غليان القدر:
كأن الغُطامط من غليها
أراجيز أسلم تهجو غفارا
(يشبه غليان القدر وارتفاع اللحم فيها بالموج الذي يرتفع). فقال له نصيب: ما
هجت أسلمُ غفارًا قط، فاستحيا الكميت فسكت.
٢٥
الهجاء في الشعراء
قد عرفت أن الشاعر لا يكون هجَّاء إلا وهو في معنى المؤرخ، فليس كل القبائل
يعرف بعضها مثالب بعض، ولا كل الناس يعرف ذلك، فمتى سيَّر الشاعر قصيدة فكأنه
نشر كتابًا في أمة كلها يقرأ ويكتب، ومن أجل هذا لما استأذن حسان النبي
ﷺ أن يهجو قريشًا قبل إسلامهم ويسلُّه منهم سل الشعرة من العجين، أمره
أن يستعين بأبي بكر، ولم يكن في زمنه أعلم بالأنساب منه، حتى إن أنسب العرب
إنما أخذوا عنه كما ستعرفه في موضعه.
ولمكانة ذلك الشعر من التاريخ، صار الراوية للأشعار لا يكون راوية حتى يكون
نسابة عالمًا بالأخبار، وقد تغلب على بعض رواية المثالب خاصةً كعقيل بن أبي
طالب، وهو أحد الأربعة من قريش الذين كانوا رواة الناس للأشعار وعلماءهم
بالأنساب والأخبار، وهم مخرمة بن نوفل، وأبو الجهم بن حُذيفة، وحويطب بن عبد
العزى، وعقيل هذا،
٢٦ وممن تخصصوا بالمثالب والعيوب في الرواة: دغفل النسابة، والنخار
العذري، وابن الكيس النمري، وصحار العبدي، وابن شرية، وابن أبي الشطاح وهشام بن
الكلبي.
ولم يبلغ جرير مبلغه من الهجاء إلا لمكان علمه بالنسب والمثالب من جده
الخطفي، وهو حذيفة بن بدر بن أسلم. وكان الخطفي هذا من العرفاء العلماء بالنسب
وبالغريب
٢٧ وكذلك الفرزدق، كان هو شاعر الناس وراوية أخبارهم، وهما يكادان
لشهرتهما يكونان فكيَّ الهجاء فيما يُلاك ويُمضغ من الأعراض.
ولما كان الشعراء ألسنة قبائلهم ونوابها في السياسة العامة، كان هجاء بعضهم
بعضًا لا يزال عامًّا حتى إذا ذهبت عصبية القبائل ووهنت عقدة الجاهلية وسكنت
نائرة
٢٨ الأحزاب، صار الهجاء كسائر أغراض الشعر: يقال فيه للبراعة وابتكار
المعاني فاتخذ لحك الحزازات وشق المرائر وتحول إلى كذب وسخف وإفحاش وإقذاع وكان
من هذا شيء في الجاهلية حين يكون الشاعر منبوذًا من قبيلته، أو حين يلتمس لنفسه
الذكر في القبائل وشيوع المقالة باسمه، فيقصد الأسواق والمواسم، كالذي نقله
السكري في شرح أشعار الهذليين قال: أقبل رجل من أهل اليمن شاعر يقال له حبيب —
والناس بذي المجاز — يهجو الناس، فأشار له بعضهم إلى خباء أبي ذرة الهذلي حتى
وقف عليه فرجز به فخرج إليه أبو ذرَّة من قبل أن يعرفه فأشار إليه بيده ورجز به
أيضًا، ثم سأله عن اسمه فعرَّفه، فعاد إلى الرجز به، فطرده أهل اليمن، ثم كان
الحطيئة وهو الحسب الموضوع، فسلح بالشعر سلحًا، ثم جاء جرير وطبقته فصار أكثر
الهجاء من يومئذ فحشًا خالصًا وكذبًا مصمتًا وسبابًا محضًا، ثم كان كل متعاصرين
من الشعراء يكون بينهما مثل ذلك ويعدُّونه من منافسة الحرفة وطبع الصناعة، فمتى
نظم الشاعر قصيدة نقضها الآخر عليه، ويسمون هذه القصائد بالنقائض، وأشهرها
نقائض جرير والفرزدق، وهي محفوظة متدارسة، وقد نقل المبرد في الكامل شيئًا
منها.
٢٩
وقالوا: إن جنازة مرت بجرير فبكى وقال: أحرقتني هذه الجنازة! قيل: فلِمَ تقذف
في المحصنات؟ قال: يبدو لي ولا أصبر،
٣٠ فكذلك كان يبدو لمن في طبقته حتى صار الناس يستجيرون بقبر أبي
الفرزدق من هجائه فيجيرهم.
٣١
وقد نسب الفرزدق في آخر عمره وتعلق بأستار الكعبة وعاهد الله أن لا يكذب ولا
يشتم مسلمًا، وذكر ذلك في شعره
٣٢ وكان جرير مولعًا بقذف المحصنات يعدهن شطر الهجاء ومادة الإقذاع
وقد دعا مرة رجلًا من شعراء بني كلاب إلى مهاجاته فقال الكلابي: إن نسائي
بأمتعتهن ولم تدع الشعراء في نسائك مترقعًا.
٣٣
ولانطباع الشعراء على هذه الشراسة الشديدة والجرح العريض لما يدلون به من طول
اللسان وإحجام الناس عن مخاشنتهم كان الأشراف يتجنبون ممازحة الشاعر خوف لفظة
تسمع منه مزحًا فتعود جدًّا
٣٤ كما كانوا يتقون من أنفسهم مأثور القول في المصيبة والمرزئة، خوف
أن يسبق لسانهم بكلمة من التوجع فتؤخذ عليهم وتجري في الناس مثلًا مضروبًا
وعيبًا منسوبًا.
مشاهير الهجائين
ليست الشهرة بالهجاء مما تيسر لكل شاعر يسب ويفحش، فلو كان هذا لقد كان غلب
الهجاء على كل شاعر، ولكن أصحاب الهجاء كأصحاب السياسة من أهلها وغير أهلها،
يستطيع كل امرئ أن يتأول ويتنبأ وينذر ويأتي بصنوف القول كلها، ومع ذلك لا تجد
شهرة السياسة إلا لنوادر الرجال؛ لأن حوادثها أرزاق وحظوظ، فلا يتفق لكل من
ينتحل السياسة أن يصرِّف الدول ويضع ويرفع، كما لا يتفق مثل ذلك لكل هجَّاء؛
قال أبو عبيدة: والذين هجوا فوضعوا من قدر من هجوه، ومدحوا فرفعوا من قدر من
مدحوه، وهجاهم قوم فردُّوا عليهم وأفحموهم وسكت عنهم بعض من هجاهم مخافة
التعرُّض لهم، وسكتوا عن هجاهم رغبةً بأنفسهم عن الردِّ عليهم وهم إسلاميون —
الحطيئة، وجرير، والفرزدق، والأخطل، وفي الجاهلية زهير، وطرفة، والأعشى،
والنابغة.
٣٥
فهؤلاء أفراد الهجائين وأقطاب السياسة اللسانية، ولم يبلغوا أن يكونوا كذلك
حتى كانت فيهم السلطة والسلاطة معًا؛ وهي جماع الصفات التي ذكرهم بها أبو
عبيدة، فانظر أين يقع ثمانية من جمهور شعراء الجاهلية والإسلاميين لولا أن في
الشر كما في الخير أرزاقًا وأقسامًا، وهذا الفرزدق نفسه قد تجنب مهاجاة زياد
الأعجم ووهب لمخافته عبد القيس
٣٦ وتجنب هو وجرير معًا مهاجاة الأحوص إكبارًا لشعره
٣٧ ومع ذلك لم يذكر معهما هذان الشاعران في قليل ولا كثير، ولو بقي
الأمر بعد الدولة الأموية عربيًّا كما كان فيها لظهرت طبقات أخرى تستحق
التأريخ، ولكن الذين ظهروا، وأولهم بشار بن برد، إنما صرفوا بأسهم بعضهم إلى
بعض، وهجوا الكبراء لأموالهم لا لأحسابهم، حتى قيل فيهم: إنهم يمدحون بثمن
ويهجون مجانًا … وقد صار الهجاء من يومئذ كما قلنا ضربًا من الصناعة ونوعًا
معدودًا من الشعر، وإن لم تكن إجادته في طبع كل شاعر، كما قالوا عن ذي الرمة،
فقد كان أحسن الناس نسيبًا وأجودهم تشبيهًا وأوصفهم لرمل، وهاجرة، وفلاة، وماء،
وقراد، وحية، فإذا صار إلى المديح والهجاء خانه الطبع؛ وذلك الذي أخره عن
الفحول، فقالوا: في شعره أبعار غزلان ونقط عروس.
٣٨
وأشهر المحدثين بالهجاء على هذا الوصف بشار بن برد، وكان إذا غضب وأراد أن
يقول هجاءً صفق بيديه وتفل عن يمينه ويساره،
٣٩ ودعبل بن علي الخزاعي، وكان هجاء الملوك جسورًا على الخليفة
متحاملًا لا يبالي ما صنع حتى عُرف بذلك وطار اسمه فيه، وكان لذلك يقول عن نفسه
إنه يحمل خشبة منذ كذا سنة لا يجد من يصلبه عليها، وابن الرومي علي بن عباس،
وكان لسانه أطول من عقله حتى قتله الهجاء، وأكثر إجادته فيه لأنه كان سلك طريقة
جرير من الإطالة والإفحاش، فإن جريرًا أول من أطال الهجاء، وكان يقول: إذا هجوت
فأضحك
٤٠ وابن بسام، وكان يهجو أباه وأقاربه، ويستن في ذلك سنَّة الحطيئة
الذي هجا أمه، وابن الحجاج البغدادي خبيث العراق، وأبو بكر المخزومي هجَّاء
الأندلس في القرن الخامس، وكان أعمى شديد الشر كأنه نار صاعقة، وكان يهجو في كل
كلامه من شعر وغير شعر، ويقول عن نفسه: لا تبديل لخلق الله، ومع سبقه في الهجاء
كان إذا مدح ضعف شعره؛
٤١ وابن القطان المتوفى سنة ٤٩٨ كان هجَّاء لم يسلم منه الخليفة فمن
دونه، وأبو القاسم الشميشي الأندلسي في القرن السادس وقد جمع هجاءه في ديوان
سماه (شفاء الأمراض في أخذ الأعراض) وعلي بن حزمون هجاء المغرب في أوائل القرن
السابع وكانوا يتدارسون هجاءه حتى لم تخلُ بلدة في المغرب من شعره
٤٢ وابن عنين هجاء مصر في القرن السابع. قال المقري في نفح الطيب: وله
ديوان سماه «مقراض الأعراض» ولكن ابن خلكان وكان معاصرًا له ورآه قال: إن
المقراض قصيدة طويلة جمع فيها خلقًا كثيرًا من رؤساء دمشق، وقد نفاه صلاح الدين
الأيوبي إلى اليمن لإفحاشه في هجاء الناس، وتوفي سنة ٦٣٠.
فهؤلاء أشهر أهل الهجاء لغلبته على شعرهم وإتيانهم فيه بالأوابد وذهابهم في
معاريضه كل مذهب، وهم في المحدثين كالذين عدهم أبو عبيدة في الإسلاميين
والجاهليين وإن كان من عداهم كلهم يهجون. ومن الشعراء قوم يسمونهم المغلّبين
وهم الذين غلبوا بالهجاء وإن كان ممن ليسوا إليهم في الشعر ولا قريبًا منهم،
ومعنى المغلب عندهم الذي لا يزال مغلوبًا. قال ابن رشيق: ومنهم نابغة بني جعدة،
وقد غلب عليه أوس بن مغراء القريعي وغلبت عليه ليلى الأخيلية … وقد علم الكافة
ما صنع جرير بالأخطل والراعي جميعًا … ومن المغلبين: الزبرقان، غلبه عمرو بن
الأهتم وغلبه المخبل السعدي وغلبه الحطيئة، وقد أجاب الاثنين ولم يجب الحطيئة،
ومنهم تميم بن أبي مقبل، هجاه النجاشي فقهره وغلب عليه، وهاجى النجاشي عبد
الرحمن بن حسان فغلبه عبد الرحمن وأفحمه … ومن مغلبي المولدين على جلالته بشار
بن برد، فإن حماد عجرد وليس من رجاله ولا أكفائه هجاه فأبكاه ومثَّل به أشد
تمثيل، وعلي بن الجهم هاجى أبا السمط مروان بن أبي الجنوب فغلبه مروان، وهاجاه
البحتري فغلب عليه أيضًا، على أن عليًّا أقذع منه لسانًا وأسبق إلى ما يريده من
ذلك وأقدم سنًا، ومنهم حبيب «الطائي» وهاجى السراج وعتبة فما أتى بشيء … وهاجى
دعبلًا فاستطال عليه دعبل أيضًا،
٤٣ وربما هجى الشاعر من هو أكبر منه وأبعد صيتًا، لا ليغلبه ولكن
ليجيبه فيعد في طبقته، كما فعل بشار، فإنه هجا جريرًا بأشعار كثيرة فلم يجبه
جريرًا أنفةً واحتقارًا، فقال: لو هجاني لكنت أشعر الناس.
٤٤