الفخر والحماسة
فحقيقة الفخر إذن ليست مدحًا كما قيل، ولكنها تأريخ، وسواء في معنى التاريخ فضيلة الفرد وفضيلة الجماعة؛ لأنه كما يكون ظفر الجيش في الحرب نتيجة حوادث كثيرة، كذلك تكون فضيلة الكرم عن حوادث معروفة أنتجت هذه التسمية، والمرء لا يكون كريمًا في العرب بلا شيء، ولا بشيء قليل.
وعلى هذا التأويل نرى الفخر فطرة في العرب، فلا يكاد السيد منهم يأتي عملًا إلا تناوله شاعر قبيلته وفخر به؛ لأنه لسان القبيلة ومؤرخ أحسابها، وإذا فخر أحدهم بفضيلة في نفسه كالشجاعة أو الكرم أو غيرهما، فإنما يكون ذلك في معرض التذكير بهذه الفضيلة واستشهاد التاريخ الحي عليها، أو يكون توطينًا لنفسه وتحميسًا لها بما يهيج من كبريائها، كما يغنِّي الشجاع في الحرب، وكما ينبه عن نفسه عند الضربة القاضية والطعنة النافذة؛ وهذا هو باب الحماسة.
وفيما عدا ذلك فلا يكون في الفخر معنى المديح إلا لأنه فيه معنى الهجاء، كالمنافرات المشهورة في العرب، وكانوا إذا تنازع الرجلان منهم وادعى كل واحد أنه أعز من صاحبه، تحاكما إلى عالم من حكمائهم المحيطين بالأنساب والتاريخ، فمن نفَّر منهما — أي فضل نفره على الآخر — لا يفلح الثاني بعدها أبدًا. والأصل في هذا كما ترى الهجاء لا المدح؛ لأن الذي يقارع الآخر عن حسبه ويكاثره بالأحياء والأموات من أشراف قومه، إنما يريد الغض منه، ليظهر هو وقبيلته بهذه المقابلة، ولو أراد معنى التمدح وحده لقد كان في حسب قومه غنى.
وقس على ذلك، فهذا المدح المصنوع، ولكن عذرهم فيه أنهم اضطروا إليه فرارًا من معنى الهجاء، ومن هذه الجهة اكتسب المديح.
فكيفما أدرنا القول لا نجد هذا الباب خالصًا عند العرب غير مقصود به إلا صنعة الكلام وحدها كما يفعل المولدون، ولذلك لم يغلب هذا النوع على قول الشاعر منهم كما يغلب المديح الهجاء والوصف، بل لم يكد يتميز به بعضهم على بعض، واعتبر ذلك بالأبيات التي يعدونها أفخر الشعر، وقد روى منها ابن رشيق طائفة، فإنك لا تجد لجاهلي بيتًا يبرعها أو يكون منها بمنزلة في الصنعة، وإنما تجد أكثر ذلك للإسلاميين والمولدين.
أما في المولدين فالذين برعوا في صنعة الفخر والحماسة كثيرون، وقد صارت الإجادة في ذلك على حسب قوة الشاعر وبمقدار ما تؤتي القريحة من التصرف؛ لأن هذا الشعر لا يُصنع لرغبة ولا لرهبة وليس وراء معانيه ظل، فلا يجيده إلا مجيد، ولكن شهرته أكثر ما تعلق بالأمراء والشجعان وأهل النسب، كالشريف الرضي، وهم يقصدون إلى هذا النوع في شعرهم قصدًا، ويتخذون منه لسانًا للسياسة والتاريخ. ثم هو شيء في طباعهم، لا يتكلفون منه الكثير كما يفعل مَن دونهم. ولذلك لا يَعْدوه وَشْي الطبيعة ورونق الغريزة، وذلك شائع فيهم. وأول هذه الطبقة في الإسلام شعراء الخوارج، وأشهرهم قطري بن الفجاءة، ثم الأمراء والوزراء. كأمراء بني حمدان، وأشهرهم أبو فراس الحمداني، وكالوزير الطغرائي، وكثيرين من وزراء الأندلس، وسنذكرهم في موضعهم، وكان آخر من أداه إلينا الزمان من هذه الفئة، المرحوم محمود سامي البارودي.
وقد استحدث المتأخرون طريقة صناعية في الحماسة، وهي مزجها بالغزل والافتنان في ذلك، وأخذوا هذه الطريقة عن عنترة في البيتين المنسوبين إليه:
وكان يتفق ذلك في الأبيات من القصيدة؛ حتى صنع فيه القاضي السعيد هبة الله بن سناء الملك قصيدته الشهيرة التي مطلعها:
وقسمها على الحماسة والغزل، وهي أشهر القصائد في هذا النوع.