الشعر العِلْمي
قد علمت أن الشعر كان مستودع علوم العرب وكتاب تجاربهم وحِكَمِهِم، فليس هذا الذي نريده بالشعر العلمي، ولكنا نريد القصائد التاريخية أو العلمية التي جاءت في حكم الكتب، وكذلك الكتب التي نظموها فجاءت في حكم القصائد، وهو ما يعبِّر عنه المتأخرون بالمتون المنظومة، كألفية ابن مالك وغيرها مما يجمع مسائل الفنون وضوابطها، وليس من عالم في هؤلاء إلا وله شيء قلَّ أو كثر نصيبًا مفروضًا.
وهذا الرجز كما تراه إنما انساق مع الكلام واستجرَّ للحكاية، فإما أن يكون بعض ما يتفق من أحاديثهم العامة وأهملوا حفظه وروايته لأنه في سبيلها، وإما أن يكون شيئًا جرى على لسان ذلك العربي، وعلى أي الوجهين فما كان ليروى لولا أن جاء تابعًا للشعر الذي قبله، وفيه شاهد من شواهد اللغة فحفظوه ليساق مع الحديث.
أما الشعر الذي تنظم فيه الضوابط العلمية لسهولة حفظها، فأكثرها ما يكون قطعًا وأبياتًا قليلة، والأغلب فيه أن لا يكون مزاوجًا، وقد وقفنا على مثال منه عند العرب، وهو قول طفيل الغنوي «يصف كيف تزجر الخيل فجمعه في بيت واحد» هكذا قال المبرد في الكامل، وقوله دليل على أن نظم الضوابط لم يكن معروفًا إلى زمنه، وإنما هو مما أحدثه المتأخرون:
وهذا في نظم المتون والضوابط، أما الشعر الذي يحمل معاني التاريخ وأنواع الفنون على غير تلك الطريقة فإنما يجيء به المولدون على جهة الفخر بما يضمنونه، كقصيدة رياح بن سنيح الزنجي مولى بني ناجية، وكان فصيحًا، فلما قال جرير:
تحرَّك رياح فذكر أكثر من ولدته الزنج من أشراف العرب في قصيدة مشهورة معروفة ومنها البيت السائر:
ومن هذا النوع القصيدة الحميرية التي نظمها نشوان الحميري صاحب كتاب شمس العلوم، وقد نشرها بعض المستشرقين (تاريخ العرب) وقد عدَّ فيها من ملكوا من الحميريين وافتخر بقومه هؤلاء وصارت هذه القصيدة اليوم عند الباحثين في التاريخ العربي القديم لا يقاس بها شعر شاعر، لما فيها من الأسماء التاريخية.
وقد ينظمون ذلك الشعر على جهة الفخر بالنظم نفسه وقوة التصرف كما فعل أبو العباس الناشئ المعروف بابن شرشير، وهو الناشئ الأكبر، وكان متبحرًا في عدة علوم، وهو في الشعر من طبقة البحتري وابن الرومي وأضرابهما، قال ابن خلكان: وله قصيدة في فنون من العلم على رويٍّ واحد تبلغ أربعة آلاف بيت، وتوفي سنة ٢٩٣، فلو أنه جعل هذه القصيدة في فنون من التاريخ والقصص ونحوها، لما خلا الشعر العربي إلى اليوم من النمط القصصي الذي تفاخر به الإلياذة وأمثالها في كل شعر غير عربي.
وكذلك فعل أبو الحسن الأنصاري الجيَّاني المتوفى سنة ٥٩٣ في نظم كتابه (شذور الذهب) في صناعة الكيمياء، وقد قالوا فيه: إن لم يعلِّمك صنعة الذهب علَّمك صنعة الأدب، وقيل في الجيَّاني: شاعر الحكماء وحكيم الشعراء.
ومما يحسن ذكره في هذا الوضع، توفية للفائدة، كتب الحكمة والأمثال التي نظمها المولدون لتسهيل حفظها ومدارستها، وأهم هذه الكتب كليلة ودمنة الذي عرَّبه ابن المقفع، فقد نظمه أبان بن عبد الحميد اللاحقي شاعر البرامكة، ونظمه أيضًا ابن الهبَّارية البغدادي، وسمى كتابه نتائج الفطنة في نظم كليلة ودمنة، وكلا الشاعرين مرَّ ذكرهما، وكذلك نظمه الأسعد بن ممَّاتي المصري ناظر الدواوين بالديار المصرية المتوفى سنة ٦٠٦، ولابن الهبَّارية أيضًا كتاب الصادح والباغم، نظمه على أسلوب كليلة ودمنة، وهو أراجيز في ألفي بيت نظمها في عشر سنين، ولم نذكره في الشعر القصصي؛ لأن هذا الموضع أليق به. ومن منظومة السِّير أرجوزة ابن عبد ربه صاحب العقد الفريد، في أخبار الملك الناصر صاحب الأندلس، وسيرة صلاح الدين التي نظمها الأسد بن ممَّاتي المذكور، وذلك في الجملة ليس من الشعر، ولكنه نوع مما أخذنا في تأريخه، فكان لا بد من الإشارة إلى بعض أمثلته في التاريخ.