امرؤ القيس
هو حندج بن حجر، الحندج: الرملة الطيبة تنبت نباتًا حسنًا، وليس في العرب حُجْر — بضم الحاء — غير هذا، ومعنى امرئ القيس: رجل الشدة، والمسمَّون بهذا الاسم في العرب جماعة ذكر منهم السيوطي ستة عشر في كتابه المزهر، ومؤرخو الروم يذكرونه في كتبهم باسم قيس.
يُكنَّى أبا الحارث، وأبا وهب، ويلقَّب بالملك الضلِّيل؛ وذي القروح، كان أبوه وأعمامه ملوكًا على قبائل العرب، وكانت لأبيه على بني أسد إتاوة في كل سنة، فغبروا على ذلك دهرا، ثم إنه بعث إليهم جابيه الذي كان يُجيبهم فمنعوه ذلك، وحُجر يومئذ بتهامة، وضربوا رسله وضرجوهم ضرجًا شديدًا قبيحًا؛ فسار إليهم وأخذ سراتهم فجعل يقتلهم بالعصا، فسُمُّوا عبيد العصا، وآلى أن لا يساكنهم في بلد أبدًا، وحبس منهم عمرو بن مسعود، وكان سيدًا؛ وعبيد بن الأبرص الشاعر، ثم إن عبيدًا استعطفه بأبيات منها:
فرق لهم حجر وبعث في أثرهم، فأقبلوا، حتى إذا كانوا على مسيرة يوم من تهامة، تكهن كاهنهم وهو عوف بن ربيعة يحضهم على قتله، فركبوا كل صعب وذلول، فما أشرق لهم النهار حتى أتوا على عسكر حجر، فهجموا على قبته وخيَّم عليه حجَّابه ليمنعوه ويجيروه، فأقبل عليهم علباء بن الحارث الكاهلي، وكان حجر قد قتل أباه، فطعنه من خللهم، فأصاب نساه فقتله، وقيل غير ذلك، وأنهم أخذوه أسيرًا في حرب بينهم وبينه، فوثب عليه ابن أخت علباء فطعنه ولم يجهز عليه، فأوصى ودفع كتابه إلى رجل وأمره أن ينطلق إلى أولاده ويستقرئهم واحدًا واحدًا حتى يأتي امرؤ القيس، وكان أصغرهم، فأيهم لم يجزع دفع إليه سلاحه وخيله ووصيته، وكان بيَّن فيها من قتله وكيف كان خبره، فانطلق الرجل بوصيته إلى نافع ابنه، فأخذ التراب فوضعه على رأسه، ثم استقرأهم واحدًا واحدًا، فكلهم فعل ذلك، حتى أتى امرؤ القيس فوجده مع نديم له يشرب الخمر ويلاعبه بالنرد، فقال له: قُتل حجر! فلم يلتفت إلى قوله وأمسك نديمه، فقال له امرؤ القيس: اضرب، فضرب، حتى إذا فرغ قال: ما كنت لأفسد عليك دستك! ثم سأل الرسول عن أمر أبيه كله، فأخبره، فقال: «الخمر عليَّ والنساءُ حرام حتى أقتل من بني أسد مائة وأجزُّ نواصي مائة!»
ثم دفن في سفح جبل يقال له عسيب ببلدة تدعى أنقرة، وقيل: إن ذلك سنة ٥٣٨ للميلاد، أي سنة ٨٤ قبل الهجرة، وقيل: سنة ٥٦٥، ووفيات الجاهلية لا يعتمد فيها على نصوص التاريخ إلا الذين تكون أدمغتهم مجلداتٍ من التاريخ القديم …
طويلة امرئ القيس
ذلك نبذ من تاريخ أمير الشعراء بسطنا منه بعض ما يكشف لك وجه نشأته، لتعرف الأخلاق التي كان لا بد لشعره أن يظهر بها مظهر المتميز والمتخصص، ثم نحن نسوق إليك طرفًا من الحديث عن طويلته، ثم نقذف بجملة الكلام عن شعره في فصل انتقادي؛ لأن امرأ القيس ليس بالشاعر الذي يقال فيه وُلد ومات، فيترجم بألفاظ لا تفوت حتى تموت، ولكنه الرجل الذي افتتح به ديوان التاريخ الأدبي، وما زال فيه كأنه قطعة من الزمن، لا يغيره الموت ولا يغيبه الكفن!
وقد قابلنا بين أربع نسخ منها بروايات مختلفة، فما وجدنا نسخة تساوي الأخرى في عدد أبياتها، فهي في الجمهرة سبعون بيتًا، وفي الديوان الذي شرحه الوزير أبو بكر عاصم بن أيوب ٧٧ بيتًا، وهو ينقل في مواضع من شرحه عن ابن النحاس، فلعله قابل على نسخته، وفي شرح الزوزني ٧٩، وفي نسخة أخرى من ديوانه ٧٥ بيتًا، وهذه النسخ تختلف مع ذلك في كثير من الأبيات تقديمًا وتأخيرًا، وفي رواية بعض الألفاظ، بحيث لا تجتمع اثنتان منها على صورة واحدة.
أما القصيدة فقد وقف فيها واستوقف، وبكى واستبكى، وذكر الديار والآثار، ثم استشعر العزاء وتجلد، ثم التاع وتنهد، ثم كأنه عفا وتجدد، وذكر يوم الغدير، ووصف عقر ناقته للعذارى، وتبذُّله لمن تبذَّلَ الجآذر، وارتماءهن بلحمها وشحمها، ثم ألمَّ بأطراف العفاف من ابنة عمه، وتعهَّر في ذلك حتى كأن الكلام لا يمر بقلبه بل يخلقه لسانُه خلقًا، إلا في أبيات قليلة، ووصف الجمال وصفًا ظاهرًا يبلغ شهوة النظر، ثم وصف طول الليل وخرج من الفخر إلى صفة الخيل، واستتبع ذلك بالصيد والقنص والطعام، ثم رفع عينيه إلى البرق والسحاب، وخفضها إلى الجبل فزمله من المطر في ثياب أغمضها وسكت كما يسكت على خير جواب.
المختار من ذلك كله قوله:
شاعرية امرئ القيس وأسباب شهرته
فانتقاد الشاعر من هذه الجهة خطأ بيِّن؛ لأن ذلك سبب طبيعي لا قبل للانتقاد به وهو أشبه شيء بعيب الطويل لطوله، والقصير لقصره، والحبل لنسعته، ونحو ذلك، مع أن في تلك مناسبات أخرى تستدعي الإعجاب وتُعد في محاسن الخلق.
ولا يذهبنَّ عنك أن الذين ينتقدون امرأ القيس وغيره بما هو من خصائص الجاهلية، إنما نشأ عندهم ذلك بعد مقابلته بنعمة الحضارة وترف العمران، ولو كانوا في الجاهلية لكانوا أجهل منه، ولكن في شعر كل شاعر ما يمكن أن ينتقد في كل زمن، وذلك مما يكون سبيله سبيل المعاني الطبيعية، ولا يتفاوت في الناس إلا بمميزات أخرى ترجع إلى النشأة وسلامة الذوق وخلوص الفطرة ونحوها من الصفات التي هي تأويل معنى التفاوت.
وقال: إن امرأ القيس لا يقول مثل هذا، وأحسبه للحطيئة. فما استطاع أن يستدل على ذلك إلا بقوله فيها:
وقد بالغوا في الحمل عليه حتى كأنه دابة الشعر، فنسبوا له سخف القول وساقط الكلام وما يجري مجرى الهذيان، ورأيت في بعض نسخ ديوانه قصيدة لامية أشبه شيء بالجلجوتية وشعر الطلاسم، منها:
فلو أن امرأ القيس لم يكن من أهل نجد لكانوا قد أهملوا رواية شعره ثم هو كان يعرف أن امرأ القيس بن حذام يبكي في شعره الطلول، فأخذ ذلك عنه كما أخذ صفة الخيل عن أبي دؤاد، وتراه يحاول أن يلحقه في إجادة نعتها والشهرة بذلك؛ حتى لا يخلو أكثر شعره من هذا الوصف.
وقد كان يعاصره من الشعراء والمعروفين: علقمة بن عبدة، وعبيد بن الأبرص، والشنفرى، وأبو دؤاد، وسلامة بن جندل، والمثقِّب العبدي، والبراق بن روحان، وتأبط شرًّا، والتوءم اليشكري، وكان من حشم أبيه شاعر عمرو بن قصبة، وهو الذي ذكره في قصيدته التي قالها حين توجه إلى قيصر، وذلك في قوله:
وكل هؤلاء لم يقع للرواة من شعرهم مقدار ما وقع في أيديهم لامرئ القيس، فكان ذلك سببًا من أسباب تميُّزه وانفراده.
وثم سبب آخر، وهو أن الذي في يد العلماء من أهل الغريب والعربية وعلماء البيان لا يجتمع منه لشاعر واحد جاهلي ما اجتمع لامرئ القيس، وهو عندهم طبقة متميزة لفصاحته وقدمه، فشعره أشبه شيء بأقدم كتاب في اللغة عند من يظفر به من المتأخرين، وكأنما كان بعضهم يجلُّه عن الانتقاد في ألفاظه، فكل ما استعمله فصيح من حيثما تلقفه وكيفما جاء به، وإن كان ذلك لا شك في صحته دون فصاحته، فإن أهل النظر من علماء البصرة يقولون في تأويل بيته:
إنما لما جاور في طيء علق من لغتهم، وهم يقلبون الياء ألفًا، يقولون في رضينا: رَضَانَا، وكذلك خظاتا أصله خظيتا، فقلب الياء ألفًا، وهي لغة لم يلتزمها الشاعر، ولا وجه لها إلا أن يكون ميزان لسانه قد تعطل في هذه الكلمة كما تعطل في غيرها، فانحدرت منه ثقيلة غثة باردة، والعجيب أن علماء المعاني والنحو والعروض انتقدوه جميعًا وأخذوا عليه أشياء كثيرة، ولكن مات الانتقاد وبقيت الألفاظ حية، حتى إن أكثر ما قالوه لا يُعرف اليوم ولم يُورِد منه شُرَّاح ديوانه إلا القليل، ولعلهم فعلوا ذلك ليتكافأ الانتقاد مع شهرة الرجل، وهؤلاء أصحاب البيان ما زالوا يطأطئون من الغدائر المستشزرات في كلامه ويضربونها مثلًا في التنافر والثقل، ولكن (مستشزرات) هذه كانت قد رسخت قبلهم حتى لم يستطيعوا أن يحدروها عن منزلتها من الشهرة، وذلك من عجائب امرئ القيس، فإن له ألفاظًا وإن كانت أحجارًا، إلا أنها ثابتة من شهرته في جبل.
والعلماء بالشعر يقولون إن امرأ القيس لم يتقدم الشعراء لأنه قال ما لم يقولوا، ولكنه سبق إلى أشياء فاستحسنها الشعراء واتبعوا فيها؛ لأن أول من لطف المعاني، ومن استوقف على الطلول، ووصف النساء بالظباء والمها والبَيْض، وشبَّه الخيل بالعقبان والعصيَّ، وفرق بين النسيب وما سواه من القصيدة، وقرب مآخذ الكلام، فقيَّد الأوابد، وأجاد الاستعارة والتشبيه، وقلما يخلو كتاب في الأدب من هذه الكلمة، وهي مع ذلك مقبولة كأنها ناموس من نواميس الطبيعة في شهرة هذا الشاعر، على أنها — كما ترى — لم تعزَّز ببرهان، ولم يمسكها دليل، فليس ما يمنعنا أن نمسها بالمحك فنخلص إلى حقيقتها.
أما أنه أول من لطف المعاني واستوقف على الطلول إلخ، فلا يكون دليله إلا تتبع كلام العرب ممن كانوا قبله، وإدارة الآذان في هواء الجزيرة من أكنافه، وهو شيء لا يصدَّق مدعيه كائنًا من كان؛ لأن العرب أنفسهم أهملوا رواية كلام أبي دؤاد كما ذكر الأصمعي، وسبيله سبيل غيره، فضلًا عمن أهملهم الزمن وجُلِّدت صدورهم التي هي دواوين أشعارهم بصفحات من الكفن، وانظر ما معنى قول ذلك القائل: «وإنه أول من فرق بين النسيب وما سواه من القصيدة» فإن هي إلا كلمة مولِّد قصير النظر في مطارح الكلام، كأن شعراء العرب كلهم كانوا على سنَّة المولدين من افتتاح القصيدة بالنسيب ثم التخلص بعد ذلك إلى ما يأخذون فيه من المعاني، وهو رأي لم يقل به أحد، ولا يزال في القصائد المروية قبل امرئ القيس بقية من القوة على تكذيبه.
وأما أن هذا الشاعر أول من قرَّب مآخذ الكلام، فقيد الأوابد، وأجاد الاستعارة والتشبيه، فهو الصحيح، ولكن لا على أنه أول من ابتدأ ذلك، بل على أنه أول من اشتهر به وابتدع فيه، وجملة ما حفظ له منه أشياء معدودة، غير أنها لو توزَّعها شعراء الجاهلية لزانتهم جميعًا.
شعر امرئ القيس
لم نعدّ ما عددناه من أسباب شهرة هذا الشاعر وهو قليل مجمل، إلا توطئة لما يأتي من انتقاد كلامه، فإنه عند المتأخرين أُفق لا يُحس إلا بالنظر، ورجل كأنما كانت شهرته قدرًا من القَدَر، يأخذون ذلك بالتسليم، ويقولون: هو أمر كان من قديم، مع أن أدباء الصدر الأول قد تكلموا في خطئه في العروض والنحو والمعاني، وعابوا عليه كثيرًا من شعره وخطَّأوه في وجوه من التصرف، ولا يزال ديوانه يدعو إلى ذلك؛ لأنه هو هو اليوم وقبل اليوم، غير أن أولئك المتأخرين أصبحوا يرون هذا الديوان كدار الآثار: لا يطمع الحي ببعض الإجلال لميت من أمواتها …
كل ما يتناوله امرؤ القيس في شعره من المعاني، لا يتجاوز الغزل، والاستهتار بالنساء، ووصف الصيد والخمر والطيب والخيل والنوق وحمر الوحش والطلول والجبال والبرق والمطر، أما افتخاره في شعره فقليل جيد، والحكمة فيه أقل وأكثر جودة، ومن عيونها قوله:
وهو يُخرج بعض ذلك مخارج نافرة، فلا يتناسب شعره في الجودة، ولا يطرد في سلامة اللفظ، ولا يتشابه في صحة المعنى، بل يجيء بالشريف والسخيف، والمبتذل والضعيف؛ حتى كأن شعره صُوِّر على اضطراب أخلاقه، ولا يعلل ذلك إلا بتفاوت الأحوال التي يقول فيها، وأنه لم يقصد إلى الشعر قصدًا إلا في القليل الذي أجاده وبرع فيه، أما فيما عدا ذلك فقد منعته الثقة بنفسه أن يتتبع عليها ويقابل بين وجوه الكلام، وذلك بديهي: وإلا فلا معنى لأن يكون مرة نجمًا في السحاب ومرةً حجرًا في التراب؛ والشاعر الذي يسف إنما يسقط في طبقات الهواء لا في طبقات التراب؛ ولذلك كان جيد امرئ القيس أجود شيء، ورديئه أردأ شيء.
وغزل هذا الشاعر ساقط كله؛ لأن استهتاره وتبذُّله معناه أن يتلطف في المعاني بما يستلزمه الإبداع في التعريض والكتابة، والاكتفاء باللمحة الدالة، فبردت حرارته بذلك التصريح، وثقل على القلوب إلا قليلًا مما يفتنَّ فيه، فيجيء حسنُه من صنعة المعنى لا من المعنى نفسه، كقوله:
فإنه نزع فيه إلى الحماسة، وهو بيت لو دار في كل أمة لوجد له في شعرها موضعًا، وكذلك قوله:
وليس فيما دوَّنوه لامرئ القيس، والتوليد فيه بيِّن.
فإنه قال: وأصل هذا كله من قول امرئ القيس:
ومهما تهافت امرؤ القيس فلا أراه يسقط على مثل هذا.
استعارته
وليس يخفى أن العربي الذي يجيء بالاستعارة المتمكنة إنما كان ينظر فيها ويديرها إدارةً، بحيث لا تتفق اتفاقًا ولا تجيء عفوًا إلا في النادر، ولذلك قل الجيد منها في كلامهم حتى نزل القرآن، فتكون من هذه الجهة اختراعًا يدلُّ على قوة غير قوة الفطرة، وهي في شعر امرئ القيس أكثر منها في المأثور من شعر غيره من الجاهلية، وأصفى ماءً، وأعذب رواءً، وحسب ذلك أن يكون دليلًا على تفضيله، وأشهر الاستعارات التي اتفقت له هذان البيتان.
فاستعار لليل سدولًا يرخيها، وصلبًا يتمطى به، وأعجازًا يردفها وكلكلًا ينوء به. وقد تنازعهما الأدباء، حتى جريا مجرى المثل، وقلما تجد كتابًا في البيان خاليًا منهما، وقد ذكر الآمدي في الموازنة البيت الثاني، ورد عليه ابن سنان وجعله من الاستعارة المتوسطة، وفرق بينهما صاحب المثل السائر، ولكنه على كل حال بمنزلة من الحسن.
وسنخط في البيتين كلمة موجزة: أما الأول فإن تشبيه الليل بموج البحر تشبيه لا أحسن منه، لما يجيش فيه من الظنون ويتقلب من الخواطر، ثم هو مرمى البصر من سريرة الكون، فذلك شَبَّه اتساع البحر وغوره بالنسبة لما يدرك النظر منه، غير أن قوله: أرخى سدوله، ذهب بذلك الحسن كله؛ إذ أفاد أن الغرض من التشبيه غرض محسوس، وهو أدنى أنواعه؛ لأن إرخاء السدول إنما يدل على السكون والحجاب، لا أكثر من ذلك، والكلمة استعارة لظلام الليل، فصارت لفظة الموج لا معنى لها إلا إقامة الوزن، وهي التي كانت عمود الحسن في التشبيه.
وأما البيت الثاني فقد أجمعوا على أنه في وصف طول الليل، ولست أراه كذلك، وإلا فلو تمطى كلب ما زاد في وصف طوله على هذه الألفاظ، وإنما أراد الشاعر ثقل الليل وفتوره، وأنه كلما هم أن ينجلي سقط، كما يفعل الذي يتمطى ثم يردف أعجازه ثم ينوء بكلكله. فالوصف حقيقة ممثلة تصوير ناطق، وعلى ذلك المعنى تكون الاستعارة أبلغ ما يمكن أن يقع في هذا الموضع، وما أخطأ من عده من التشبيه المضمر الأداة؛ لأنه به أليق.
ومن تصرِّفه بالاستعارة في شعره قوله:
هرٌّ: هي المعروفة بابنة العامري، وكان يشبب بها امرؤ القيس، وبفاطمة، والرباب، وهند، وفرتنا، ولميس، وسلمى، ومعنى البيت أن أباه أفلت منها، ولو رآها لصادته فيما تصيد. قالوا: واستعارة الصيد مع الهر مضحكة، ولو أن أباه من فارات بيته ما أسف على إفلاته منها هذا الأسف …!
ولكنهم جهلوه فيها هذا الجهل وكيف بمثله من مثله؟ والذي أرى أنهم غفلوا عن المعنى الذي قصد إليه، فإن هرًّا كانت من كلب، وكان امرؤ القيس في كلب وطيء أيام نفاه أبوه، فهو إنما يتنادر عليه، وإذا خرج على هذا المعنى كانت الاستعارة فيه متوسطة، ولكنها تكون سببًا لكناية من أبلغ الكنايات …
ومن استعارته البديعة كلمته التي كأنما قيد بها شهرته في هذه الحياة، وذلك قوله في الجواد: قيد الأوابد. ولقد حاول المولِّدون أن يجيئوا بمثلها، غير أنها بقيت مفردة، وذلك كقول ابن الرومي في الحديث: شرك العقول وعقلة المستوفز، وقول المتنبي في صفة الجواد: أجل الظليم وربقة السرحان، ورأيت لدريد بن الصمة كلمة تكاد تساويها في الحسن، وهي في قوله:
تشبيهاته
قد قلنا في استعارات امرئ القيس، وترسمنا آثاره في ذلك المذهب بما يؤدي إلى حكم في الصناعة، ويكشف عن غاية من غايات الرجل، ونحن وإن لم نكن أفضنا في ذلك، إلا أن هذا المنزع قريب، ربما أغنى في بعضه المثال الواحد؛ إذ كان امرؤ القيس مبتدئًا في شيء ومبتدعًا في شيء، وجهده في جميع ذلك أن تُحصى له الكلمات المعدودة، وهي لا تحتمل الإفاضة على تقسيم الكلام إلى فصول وتمييز بعضها من بعض. ثم هو إنما كان شاعرًا من شعراء الفطرة، يَعرض للسانه القول كما يعرض لعينه الوحش؛ فينطلق كلاهما على نفَس واحد يصنع القليل ولا ينقح الجملة؛ فكان ما يجيء في كلامه من بدائع الصنعة هو الدليل على فضل قوته التي تغمر فؤاده وتصرفه إلى مشايعة طبيعة اللغة في النمو، ولو صرفت تلك القوة إلى الصنعة التي يعرق فيها الكلام من كثرة تقليبه، لكان للكلام في شعره مذهب آخر، وأنت قد تجد للمتنبي بيتًا واحدًا لو جُمِع اختلاف العلماء فيه لزاد على اختلافهم في جميع شعر امرئ القيس.
أما تشبيهاته فهي بجملتها ترمي إلى غرض واحد، وهو تصوير الحقيقة تصويرًا غير ملون، وله فيها طرائق بديعة هو أول من ابتكرها، كتشبيه الإضافة في قوله:
يريد أن لها متنين كساعدي النمر البارك، في الغلظ واكتناز اللحم، والمستحب عندهم تعريق المتن وتعريق الوجه، كما قال طفيل وهو أحد نُعَّات الخيل المجيدين:
أي معرقة الوجوه ويكاد يستبين العصب من قلة اللحم، وكذلك المتون، وقد وصف امرؤ القيس الخيل في هذه القصيدة وصف سمسار يزين فرسًا في السوق لا وصف فارس، ولولا تصعلكه لجاد من ذلك بما لا يلحق له الشعراء غبارًا، وهذا شيء تعرفه بمقارنة معانيه في الخيل بمعاني غيره من فرسانها. ومن قبل ما نحن فيه قوله في الغزل:
يصف تفَتُّر الحسناء في مشيتها بمشية المنزوف دمه أو عقله بالسكر إذا صعد كثيبًا فانقطع نفسه من الإعياء والكلال، فانظر هذه المبالغة الباردة وهذا التشبيه القبيح، وما عسى أن تكون تلك الحسناء إلا في الدرجة الثالثة من السل …
ولهذا الشاعر طريقة في التشبيه جاء منها بأبيات معدودة، وهي تناسب التتبيع الذي سنتكلم عنه؛ لأنه كان أول من اخترعه، وهذه الطريقة هي أن يريد من الوصف ما يلزم من حقيقته الممثلة في الذهن، وقد اتفق له من ذلك ما يُعدُّ غاية في الحسن، كقوله في وصف سالفة الفرس:
فلقد أراد من وصف عنق الفرس بأنها شجرة متوقدة من شجر الكندر ما يستتبعه هذا الوصف من لون النار، وهي الشُّقْرة، فكأنه أراد أن يقول إن فرسه شقراء، فاحتال لذلك بهذا التشبيه البديع، وقد أخذ هذا التشبيه أوس بن حجر فقال:
وبمقدار ما أحسن امرؤ القيس في هذا القول أساء في قوله:
وهل على طريقته تلك؛ فإنه أراد أن يصف توقُّد الحلي وصفاءه على لبات تلك الحسناء، فخلص إلى ذلك من طريق الشياطين والزبانية … إذ لم يكفه أن جعله على صدرها كالجمر، بل خصه بجمر المصطلى؛ لأنه لا يزال يُذكيه ويقلبه فهو يتوقد ويظهر جمرة جمرة، ثم كأنه استقل هذا كله على صدرها فجعل الجمر من الغضا، وهو شجر معروف يقال: إن جمره أبقى الجمر وأحسنه، ثم جعل لهذا الجمر كفافًا من أصول الشجر، وهي الأجزال، حتى تزيد في وهجه وتوقده، ثم لما كان قدُّ تلك الحسناء لا بد أن يكون ممشوقًا فقد جعل هذه النار من صدرها على مثل اليفاع من الأرض، لتكون الريح أشد تمكنًا منها، ثم جعلها في منازل راجعين من الأسفار فهي توقد لهم ويحتفل فيها على ما هو معروف من عوائدهم. فليت شعري هل يبقى بعد هذا الحريق من لبات الحسناء ما يُناط به الحلي، فضلًا عما يظهر حُسْنُهُ وتَوقدُّهُ …؟
وأعجب شيء في أوصاف امرئ القيس وهو ابن ملك، أنه يصف الجميلة بحسن الغذاء، ويصف سنا البرق بمصابيح راهب أهان في ذُبالها السَّليط، وهو الزيت، فلم يعزه لكثرته عنده … وهكذا مما لا يؤخذ منه إلا أنه كان صعلوكًا يصف للصعاليك، وهو دليل أيضًا على ما قدمناه من أن شعره صورة غير مرتبة من حياته.
ومن بدائع التشبيه التي اتفقت له قوله:
ومن هذه القصيدة قوله يذكر العقاب حين شبَّه فرسه بها، وهو من المخترعات أيضًا في معناه، وأسلوبه طريقة من طرائقه المبتكرة:
العُنَّابُ ثمر أحمر، والحشف ما يبس من الثمر ولم يكن له طعم ولا نوى. وقد أجمع الرواة على أن هذا أحسن بيت جاء في تشبيه شيئين بشيئين في حالتين مختلفتين. وتقديره: كأن قلوب الطير رطبًا العناب ويابسًا الحشف البالي، فشبه الطريء من القلوب بالعناب، والعتيق بالحشف، وخص قلوب الطير؛ لأن فرخ العُقاب فيما يقال يأكل لحم الطائر ما خلا قلبه، فلذلك كثرت قلوب الطير عندها، وقيل غير ذلك. والتشبيه كما ترى ليس بشيء، غير أن الطريقة التي جاء بها هي دليل من الأدلة على فضل صاحبها، ولم يُحفَظ قبل امرئ القيس بيت على هذا النمط، فهو أول من جاء بذلك من الشعراء، وقد رووا أن بشار بن برد قال: ما قرَّ بي قرار بعد أن سمعت بيت امرئ القيس حتى صنعت:
فقد اتبع الطريقة نفسها؛ وقالوا في بيته: إنه لم يقع بعد بيت امرئ القيس في الترتيب أحسن منه، ولكن البيت الأول يَفْضُله بأنه أورد التشبيه في حالتين مختلفتين؛ إذ قلوب الطير واحدة، ولكن التشبيه إنما وقع على حالتيها من الطراءة واليبوسة، وقد غفل عن ذلك بشار، وبالجملة فإن امرأ القيس وسط بين شعراء التشبيه، وإن كان قد أكثر منه واحتذى فيه فعل أبي دؤاد والمهلهل وغيرهما، إلا أن له طرقًا في هذا التشبيه هي من مبتكراته، وهي كل ما في يدنا من الأدلة على براعته وحسن تصرفه ورجحانه على غيره من متميزي الشعراء. وقد عدل المولدون عن تشبيهات الجاهلية إلى ما هو أليق بأزمانهم وأدنى شبهًا منها، ولكنهم مع ذلك لا يزال في مجموع أشعارهم موضع لبعض أبيات امرئ القيس، كقوله: سموت إليها … وغيره، على أن أكثر شعراء الجاهلية قد خرجوا من هذا الباب، ولم يرضَ المولدون أن يقفوا عليه ولا وقفة الحُجَّاب!
تتمة الانتقاد
بقي علينا — بعد أن تكلمنا في استعارات امرئ القيس وتشبيهاته — أن نأتي على بقية هذا الكلام مما يصف معانيه وألفاظه وما يقع عليه الناقد في سائر كلامه ويصيبه من حسناته المتفرقة في كتب البيان، وقد أشرنا إلى بعض مبتكراته تلك ونحن مستوفون سائرها هنا: قالوا: إنه أول من فتح باب الاحتراس، وذلك في نحو قوله:
أي واليوم بارد، فاحترس وكان الاحتراس بالقافية التي هي تمام البيت وهذا من أبدع ما يجيء؛ لأنه يزيد في تمكين القافية ويكسبها عزة لا تكون لكلمة غيرها في البيت بجملته.
فقوله: (يضحى فتيت المسك) تتبيع، وقوله: (نَئُوم الضحى) تتبيع ثانٍ، وقوله: (لم تنتطق عن تفضل) تتبيع ثالث، وإنما أراد أن يصفها بالترف والنَّعمة وقلة الامتهان في الخدمة، وأنها شريفة مكفية المؤنة، فجاءها بما يتبع الصفة ويدل عليها أفضل دلالة.
وقال ابن رشيق أيضًا في باب التمثيل الذي هو من ضروب الاستعارة — وذلك أن تمثل شيئًا بشيء فيه إشارة إليه — إن امرأ القيس أول من ابتكره، ولم يأتِ أملح من قوله فيه:
وقال في الإيغال: وهو ضرب من المبالغة إلا أنه في القوافي خاصة لا يَعدوها: وليس بين الناس اختلاف أن امرأ القيس أول من ابتكر هذا المعنى بقوله يصف الفرس:
فبالغ في صفته وجعله على هذه الصفة بعد أن يجري شأوين ويبتلُّ عطفه بالعرق، ثم زاد إيغالًا في صفته بذكر الأثأب، وهو شجر للريح في أضعاف أغصانه حفيف عظيم وشدة صوت، ومثل ذلك قوله:
فقوله: (لم يثقب) إيغال في التشبيه، واتبعه زهير فقال:
فأوغل في التشبيه إيغالًا، بتشبيهه ما يتناثر من فتات الأرجوان بحب الفنا الذي لم يُحطَّم؛ لأنه أحمر الظاهر أبيض الباطن، فإذا لم يحطم لم يظهر فيه بياض البتة وكان خالص الحمرة، وتبعهما الأعشى فقال يصف امرأة:
فأوغل بقوله: (الوجِل) بعد أن قال: الوحي، وبهذا تستدل على أن الشعراء كانوا يهتدون في الصنعة بامرئ القيس، فكان شعره لهم أشبه بكتب البلاغة للمتأخرين، وما من نوع من الأنواع التي سلفت إلا وقد اتبعوه فيها وانسحبوا على أثره. وعلى تقليب المولدين لهذه الأنواع حتى لم يغادروا فيها مطمعًا — بقي من شعر هذا الرجل ما هو في بعض نسيج وحده، والمثال الأول في الدلالة على حده.
أما ما جاء في شعره من أنواع البديع غير ما ذكرناه، مما مثلوا له في كتبهم بشيء من قوله: كالالتفات، والتقسيم، والمقابلة، والغلوِّ، ونفي الشيء بإيجابه في قوله:
أي لا منار له فيهتدى به، والاتساع، والاشتراك، والإشارة، والإرداف، والترصيع، وجمع المؤتلف والمختلف، وغيرها — فلم ينص أحد من علماء البديع على أنه أول من جاء به، على أنهم في أكثر ذلك لا يستدلون بشعر شاعر معروف قبله أو معاصر له، فإن لم يكن وقع من ذلك شيء فهو مبتكره ولكن شعره على الجملة في ذلك مثال حسن، وبعضه لا يعدلون به شيئًا، كما ذكروا في التكرار الذي لا يكون إلا على جهة التشوق والاستعذاب إذا كان في تغزل أو نسيب — أنه لم يتخلص أحد تَخَلُّصَ امرئ القيس، ولا سَلّم سلامه في هذا الباب إذ يقول:
ولكن بعض تلك الأنواع اتَّبع فيها امرؤ القيس غيرَه، كما احتذى في الغلو على قول مهلهل:
وهو الذي قالوا فيه إنه أكذب بيت قالته العرب؛ لأن بين حجر — وهي قصبة اليمامة — وبين مكان الوقعة عشرة أيام، فقال امرؤ القيس يصف النار:
وفاضلوا بين البيتين فقالوا: إن مهلهلًا أشد غلوًّا من امرئ القيس؛ لأن حاسة البصر أقوى من حاسة السمع وأشد إدراكًا، ثم اتبع امرؤ القيس النابغة في قوله يصف السيوف:
قالوا: وهو دون بيت امرئ القيس في تنوِّر صاحبه إفراطًا، ودون بيت النابغة قول النمر بن تولب في صفة السيف أيضًا:
إذ ليس خارجًا عن طباع السيف أن يقطع الشيء العظيم ثم يغوص بعد ذلك في الأرض؛ فالغلو فيه ضعيف، وقد كدنا نخرج عما نحن بصدد منه، والآن فقد تبينت أن هذا الشاعر بصير بصنعة الكلام، وأن فضله إنما هو في طريق إيراد المعنى مما يلتحق بتأليف اللفظ وتصريف الأسلوب، وانظر إلى قوله:
فقد اعتُرضَ في هذين البيتين وقيل: خالف وأفسد ولو جَمَع الشيء وشكله، فذكر الجواد والكر في بيت، والنساء والخمر في بيت، لكان أصوب، وإنما غفلوا عما قصد إليه من هذا الترتيب، وذلك أن اللذة التي ذكرها في البيت الأول إنما هي الصيد، ثم حكى عن شبابه وغِشْيَانِهِ النساء، فجمع المعنيين للتضايف بينهما، ولو نظم البيت كما قالوا لنقص فائدة تدل عندهم على الملك والسلطان، وكذلك لو فعل في البيت الثاني لكان ذكرُه اللذة زائدًا في المعنى؛ لأن الزق لا يُسبأ إلا للذة، وإنما وصف نفسه بالفتوة والشجاعة بعد أن وصفها بالتملُّك والرفاهية. وقد أَتبعه المتنبي في قوله:
وذكر الواحدي في شرحهما اعتراض سيف الدولة عليه وعلى امرئ القيس وتخلُّص المتنبي لنفسه وله، غير أن ترتيب امرئ القيس أبدع وفيه من الفائدة ما ليس في بيتيِّ أبي الطيب.
بقي أن نذكر بعض المآخذ التي أصبناها في شعر هذا الشاعر، فمن ذلك أنه له استعانة ضعيفة بالحروف والكلمات، كقوله:
إن له تكرارًا قبيحًا في الألفاظ والمعاني يجيء بها على وجه واحد في مواضع مختلفة من غير أن يتصرف في ذلك بما يخفي قبح هذا التكرار وينفي عنه الظنة.
ومنها دخوله في وجوه المناقضة والإحالة في بعض الكلام، وذلك مما يدل على أنه يرسله إرسالًا كما اتفق، لا يبتغي به إلا لذة المنطق، وإلا مواتاة ما في نفسه من الميل إلى القول؛ وبهذا كان ختام قصائده مقتضبًا، وقلما قطع الشعر على كلمة بديعة إلا في القليل كختام قصيدته السينية:
فكأن الشعر يُقتَرح عليه اقتراحًا فتى فرغ من المعنى الذي يريده سكت دون أن ينظر إلى موضع السكوت وأن الإصابة فيه كأحسن الكلام.
ومنها استعمال الكلام المؤنث في شعره، كقوله لك الوَيلات إنك مُرجلي، ونحوه، دون أن يوطئ لذلك بما يحسِّن التضمين ويخرج الكلمة المؤنثة مخرجًا لا يكفي فيه أن يكون حلقيًّا فقط …
أما ما وقع له غير ذلك من اضطراب بعض القوافي وثقل الألفاظ مما يكد لسان الناطق المتحفظ، فذلك متجاوَز عنه بعذر البداوة، والغريب عندنا مألوف عند أهله.
المنازعة بين امرئ القيس وعلقمة
لما نزل امرؤ القيس في طيء تزوج امرأة منهم تسمى أم جندب، وكان مُفَرَّكًا وكانت تكرهه، فنزل به علقمة بن عبدة فتذاكر الشعر وادَّعاه كلُّ واحد منهما على صاحبه، فقال علقمة: فقل شعرًا تمدح فيه فرسك والصيد، وأقول في مثل ذلك، وهذا الحكم بيني وبينك — يعني تلك المرأة — فبدأ امرؤ القيس يقول:
فنعت فرسه والصيد حتى فرغ، وقال علقمة:
فنعت فرسه والصيد حتى فرغ، وكان في قول امرئ القيس:
وفي قول علقمة:
وما رأيت أحدًا من أهل النقد وازن بين القصيدتين، بل كلهم متبعون كلمة هذه المرأة، وبعضهم لا يعرف ما كان بينها وبين امرئ القيس فيقول إنهما تحاكما إليها في المفاضلة بينهما لأنها من ذوات العقل والمعرفة. مع أن علقمة معدود من الشعراء المغلَّبين وامرؤ القيس يقول في قصيدته:
وما أرى أم جندب إلا أرادت ما تريد الفارك من بعلها، فقرعت أنفه على حَمِية ونخوة وهي تعلم أنها لا بد مُسرَّحة في زمام هذه الكلمة، وإلا فالبيت الذي توافيا على معناه ليس بموضع تفضيل؛ لأن في قصيدة امرئ القيس ما هو أبلغ في هذه الصنعة من بيت علقمة، وهو قوله:
وقد مر شرحُه وبيان وجه البلاغة فيه، ولكن من التمس عيبًا وجده، ومن تدبر صنعةَ امرئ القيس للخيل في شعره وجد السوط لا يفارقه، فلعلها كانت عادته.
وقصيدة علقمة بجملتها ليست بشيء؛ لأن كل ما فيها من الألفاظ البارعة والمعاني الحسنة مأخوذة من قصيدة امرئ القيس، حتى ليأخذ البيت برمته والشطر بحاله، ومع ذلك فقد أبرَّ عليه امرؤ القيس، في الصنعة، وما أدري كيف هذا، فلولا أن الرواة مجمعون على أن قصيدة علقمة مما صح له لقلت إنها مصنوعة، ثم إن الذين رووا خبر هذه المنازعة منهم، وهم عمرو بن العلاء؛ وأبو عبيدة، والأصمعي، لم يزيدوا شيئًا على ما سبق، وكان طبيعيًّا أن يتكلم امرؤ القيس في ذلك كلمة؛ لأن علقمة إنما رد إليه بضاعته، ولن يبلغ التوارد بين الشاعرين هذا المبلغ وأحدهما يسمع من الآخر، إلا أن يكون الاثنان قد اتفقا في الأخذ عن ثالث، وهو أغرب؛ وإن صح خبر هذه المنازعة فيكون ذلك هو السبب في تعفف امرئ القيس على الشعراء وإدلاله بشعره وذهابه إلى الظنة فيه؛ لأنه رأى من استخذاء علقمة واستجدائه ما ينفخ مثله إلى حد الورم، وما زال على ضلالة حتى لقي التوءم البشكري فقال له: إن كنت شاعرًا كما تقول فملِّط لي أنصاف ما أقول فأجزها، قال: نعم، فقال امرؤ القيس:
فقال التوءم:
وقد رأينا أن نقف من الكلام على امرئ القيس عند هذا الحد، ففي بعض الكفاية كفاية؛ وما يكون دون غاية من الغايات فربما كان في نفسه غاية.