طرفة بن العبد
كان طرفة ابن أخت الشاعر المتلمس، وابن أخي الشاعر المعروف بالمرقش الأصغر، فالتقى إليه الشعر من طرفيه، وكان في حسب من قومه، جريئًا على هجائهم وهجاء غيرهم، ولا يُعرف من تاريخ نشأته إلا القليل مما لا يتهيأ به الحكم على مبلغ تأثير نشأته في شعره، غير أن جملة ما يؤخذ من ذلك أنه كان أبيًّا معتدًّا لنفسه، مدلًّا على قومه، واثقًا بمنزلته منهم، جريئًا بمقدار ما تدفع هذه الثقة، مترفعًا إلا عن الملوك، يرجوهم ويهجوهم، فهو يذهب إليهم بنفسه ولكنه يمثل لديهم وكأن في برديه حاشيتي قومه. ولا يعلل ذلك إلا بأنه كان غرًّا لم تسلم به السن بعدُ إلى مذهب عن نزق الحداثة وسكرة الشباب؛ لأنه مات وله خمس وعشرون سنة بدليل قول أخته الخِرنِق في رثائه:
القحم: المتناهي في السن. ويروى: ستًّا وعشرين حجة. وقال بعضهم: إنما بلغ عمره نيِّفًا وعشرين سنة، فلا يبعد أن تكون ثمَّ رواية: إحدى وعشرين حجة، وعلى أي هذه الأقوال فقد خبَّ هذا الشاعر وركض بسنيه القليلة في مثل الأعمار الطوال، وكان منصبًا على اللهو، يعاقر الخمر ويتلف بها ماله، فأورثته جنون الكبرياء وقتلته بلسانه الذي انتضى منه سيف الهجاء. روى الجاحظ (البيان: الجزء الأول): قيل لامرئ القيس بن حجر: ما أطيب عيش الدنيا؟ قال: بيضاء رعبوبة، بالطِّيب مشبوبة، بالشحم مكروبة! وسُئل الأعشى فقال: صهباء صافية تمزجها ساقية، من صوب غادية، وقيل مثل ذلك لطرفة فقال: مطعم شهيٌّ، ومركب وطيٌّ!
لم يسمعها عمرو بن هند، حتى خرج يومًا إلى الصيد فأمعن في الطلب، فانقطع في نفر من أصحابه حتى أصاب طريدته، فنزل وقال لأصحابه: اجمعوا حطبًا، وفيهم ابن عم طرفة، فقال لهم: أوقدوا، فأوقدوا نارًا وشوى، فبينما عمرو يأكل من شوائه وعبد عمرو يقدم إليه، إذ نظر إلى خصر قميصه منخرقًا فأبصر كشحه وكان من أحسن أهل زمانه جسمًا، وقد كان بينه وبين طرفة أمر وقع بينهما منه شرٌّ فهجاه طرفة بأبيات فقال له عمرو بن هند، وكان سمع تلك الأبيات: يا عبد عمرو، لقد أبصر طرفة حسن كشحك، ثم تمثل فقال:
فغضب عبد عمرو مما قاله وأنف فقال: لقد قال للملك أقبح من هذا! قال عمرو: وما الذي قال؟ فندم عبد عمرو وأبى أن يُسمعه، فقال: أسمعنيه وطرفة آمن، فأسمعه القصيدة التي هجاه بها … فسكت عمرو بن هند على ما قرر في نفسه، وكره أن يعجل عليه لمكان قومه فأضرب عنه — وبلغ ذلك طرفة — وطلب غِرته والاستمكان منه، حتى أمن طرفة ولم يخَفْه على نفسه، فظن أنه قد رضي عنه، وقد كان المتلمس — وهو جرير بن عبد المسيح — هجا عمرو بن هند، وكان قد غضب عليه، فقدم المتلمس وطرفة على عمرو بن هند يتعرضان لفضله، فكتب لهما إلى عامله على البحرين وهجر … وقال لهما انطلقا إليه فاقبضا جوائزكما، فخرجا، فزعموا أنهما لما هبطا النجف قال المتلمس: يا طرفة، إنك غلام غرٌّ حديث السن، والملك من قد عرفت حقده وغدره، وكلانا قد هجاه، فلست آمنًا أن يكون قد أمر فينا بشرٍّ، فهلم ننظر في كتابنا، فإن يكن أمر لنا بخير مضينا فيه، وإن يكن أمر فينا بغير ذلك لم نُهلك أنفسنا، فأبى طرفة أن يفك خاتم الملك، وحرص المتلمس على طرفة فأبى، ثم كان من أمرهما أن قتل طرفة، قتله عامل عمرو بن هند على البحرين ويقال إنه لما قرأ العامل الصحيفة عرض عليه فقال: اختر قتلة أقتلك بها، فقال: اسقني خمرًا، فإذا ثملتُ فافصد أكحلي، ففعل حتى مات، وذكر ذلك البحتري بقوله:
وأبو المنذر هو النعمان بن المنذر، وكان النعمان بعد عمرو بن هند، وقد مدح طرفة المتلمس في النعمان، فلا يجوز أن يكون عمرو قتله، فيشبه أن تكون القصة مع النعمان.
ويقال: إن ذلك كان سنة ٥٥٢ بعد الميلاد، وقيل: سنة ٥٦٤.
شعره
ولم يجدوا له مخترعًا في غيرها إلا قليلًا.
روى بعضهم في سبب قولها، إنه كان لطرفة أخ اسمه معبد، وكان لهما إبل يرعيانها يومًا ويومًا، فلما أغَبِّها طرفة قال أخوه معبد: لِمَ لا تسرح في إبلك؟ تُرى أنها إن أُخذت تردها بشعرك هذا؟ قال: فإني لا أخرج فيها أبدًا، حتى تعلم أن شعري سيردُّها إن أخذت! فتركها وأخذها ناس من مضر.
وقيل: بل إن الإبل التي ضلَّت هي إبل معبد فسأل طرفة ابن عمه مالكًا أن يعينه في طلبها فلامه، وقال: فرطت فيها ثم أقبلت تتعب في طلبها! فقال قصيدته، وهي تربي على مائة بيت، وتختلف بعد المائة باختلاف الروايات، ذكر فيها الأطلال واستوقف بها ثم شبَّه قباب النساء بسفين الماء، ووصف ذات هواه في الحي فبسط من ذلك صورة رائعة من صور الطبيعة، ثم التفت إلى ناقته فأمضى بها الهم عند احتضاره، واستأمن بها على وضح الطريق من عثاره، ووصف من توثيق خَلْقها وطيب مرعاها وكرم العتق فيها وتراصف عظامها وتداخل أعضائها؛ فبنى على ذلك بناء يحسن أن يكون بابًا من علم التشريح البيطري في الجاهلية … ثم ذكر نشاطها وإسراعها وسهولتها، ونقل من ذلك إلى نفسه فوصف نفاذه ومضيُّه على الهول وأنه يتقلب على جنبي السيادة واللهو، ونسج من ذلك حاشيته، ثم كأنما سكر كلامه فوصف من سفهه ما تحامته من أجله العشيرة حتى أُفرد إفراد البعير الأجرب المذلل … وبعد أن انتهى إلى المذلة صحا على لائمه وأخذ يعدُّ لذاته مما وصفه بالمخيلة والفتوة ونضرة العيش، ثم خرج من ذلك بالسوداء، فذكر الموت ووازن بينه وبين الحياة، ليدل على أن ربح الحياة هو الربح وصار كلامه من ذكر الموت إلى النزع، غير أنه هجم بهذا الموت يعاتب ابن عمه مالكًا الذي ضيَّع إبله، فكأنه يذكره أن ضياع إبله خطب يسير، إذ يحمّ القضاء فتضيع روحه في الوادي الذي لا يتقدم فيه يطلبها ولا تنشد فيها عند ربها، ثم جعل يذكِّره بالقربى ورعايتها كأنه يستعطف، ولكنه اتخذ من ذلك وسيلة تخلص بها إلى عمرو بن مرثد أحد سادات العرب، فقال:
وكان عمرو هذا كثير الولد، فقالوا إنه لما بلغه قولُ طرفة وجه إليه وقال: أما الولد فالله يرزقك، وأما المال فسنجعلك فيه أسوتنا، فأمر سبعةً من ولده فدفع إليه كل واحد عشرًا من الإبل، وأمر ثلاثة من بني بنيه فدفع إليه كل واحد عشرًا.
ثم عاد طرفة فنفض غبار الذلة، واتكثر بعد القلة، وتميَّح في شعره وهدرت هذه الكمات في أشداقه، حتى قطع القصيدة على حكمة بالغة لا تزال تدور في الناس فهو بها على الفناء يتجدَّد، وكأنها كانت نفَسًا من أنفاس المخلود فقرنت باسمه من هذه القوافي الدالية قافية «المخلَّد».
ومن مختار تلك القصيدة قوله:
وقوله مفتخرًا فيها:
وختامها:
مذاهبه في الشعر
ليس فيما وقع إلينا من شعر الجاهلية ما ينطق بأن صاحبه شاعر قبيلة بمجموع هذا المعنى، غير شعر طرفة؛ فهو إذا فخر رأيته يتكلم بلسان ملك قد ضمن طاعة قومه واستمسك بميثاقهم، وما كان أحق امرئ القيس بمثل هذا الفخر فيقيم به جهة من شعره قد تركها وهي تريد أن تنفضَّ.
وقد وصف طرفة النوق وصفًا شعريًّا، ولكنه قصر في صفة الخيل وجاءت في كلمه متفرقاتٌ من الحكم والأمثال، وهي أبدع ما في شعره، ثم هو قد ضرب في الهجاء بالسهم الصائب ورجم فيه بالشهاب الثاقب، ولكنه قليل المديح نازل الطبقة فيه، ولم يؤثر له في ذلك إلا ما يرد على قومه، وهو مدحه لقتادة بن سلمة الحنفي حين أصاب قومه سنةٌ فأتوه فبذل لهم، وثم أبياتٌ قالوا إنه مدح فيها سعد بن مالك حين أُطرد فصار في غير قومه وقد ذكرهم فيها بقوله:
ولعل مديحها منحول إذ يقول فيه:
وليس مثل هذا مما يقوله طرفة.
ويمتاز هذا الرجل بالمبالغة والإغراق، فكأنه ينظر إلى دقائق الوصف بعين من البلور … وذلك كقوله في وصف الناقة:
فقد أراد أن يصف ذنب الناقة بكثرة الهلب، وهو الشَّعر الكثير، فشبهه بجناحي النسر، وجعل فخذيها كبابي الصرح الممرَّد، وشبه تباعد ما بين مرفقيها وزورها بكناس الظبي حول الشجر، ثم شبه الناقة في ارتفاعها بقنطرة الرومي الذي جعله يقسم على قنطرته لتُحاطنَّ بالبناء، وتشادنَّ بالقرمد، ولعمري ليس هذا القَسم بأكثر من اللغو. وقد مر في مثل هذه التشبيهات حتى وصل إلى عيني الناقة فجعلهما من حجاجيهما في مثل غارين من الجبل، ولو أنه مد في عنق هذه الناقة فشبهه بأطول من خراطيم السحاب …
وإنما تحسن المبالغة إذا لم يكن التشبيه منكشفًا هذا الانكشاف فيكون في إحدى جهاته سبب الأسباب التي يصح أن تتعلق عليه المبالغة، وسيأتيك هذا في موضعه مفصلًا.
ومن نوع قسم الرومي في شعر طرفة قوله متغزلًا يصف الأقحوان:
فحاصل البيتين أنه يُشَبِّه ثغر التي يتغزل فيها بالأقحوان الندي، ويقول إنها قد ذرَّت الإثمد على لثاتها (وسائر العرب يفعلن ذلك في الشفاه واللثات ليكون أشد للمعان الأسنان) غير أن تخلُّل الدعص الندي من الأقحوان المنوَّر لحرِّ الرمل، والوصول من ذلك كله إلى تشبيه الثغر بالرفيف واللمعان لا يُعدُّ فلاحًا في الغزل وأولى به أن يكون فلاحة …
والصنعة في شعر طرفة قليلة إلا أنها جيدة، وأرى شعر هذا الرجل كالشباب: حقيقة جماله في القوة والمتانة، فإن اتفق معه شيء من ظواهر الجمال كان ذلك بمجموعه كمالًا، فمن مشهور استعاراته قوله:
وهي غاية من غايات هذا الجواد: فإن البيت يصور الجمال والقوة والكبرياء، ويكاد يريك الناس مطرقين قد تعلقت أعينهم بهُدَّاب تلك الأزرُ. ومن هذه القصيدة بيت دائر في كتب اللغة والأدب، وهو قوله:
غير أن حياة هذا البيت تاريخية لا شعرية؛ لأنه إنما سار وبقي للاستشهاد بألفاظه، ومن كلماته الجميلة قوله: (وعامت بضبعيها). إذ يصف الناقة بأنها تمد يديها كهيئة السابح وقوله: (طُرَّاد الغرام) في صفة قومه بالبذل والسفَه، وقوله في صفة الحرب يذكر قومه:
فهذه الكلمة (أخا رجل) في موضعها من أبلغ الكلم، بل هي من جوامعها؛ لأنها تدل على كثرة قومه وإقدامهم، وتوزعهِم في الحرب توزع الآجال واستغراقهم أعدائهم، إلى نحو ذلك، ومن هذه القصيدة الحكمة السائرة:
ومما أختاره له في الحماسة قوله:
ولا يزال الكتَّاب لعهدنا يكتبون «علم ليس بالظن» وهم يظنون أنها معرَّبة … وقد جاءت في شعر إسلامي من شعر المائة الأولى: وأعلم غير الظن، وهي أبلغ وأوجز.