زهير بن أبي سُلمى
وإلى هذه الرواية يرجع كل ما ورد عن ابن عباس وعمر بن الخطاب وغيرهما من الحجازيين في تقديم زهير وأنه أشعر الشعراء.
وقد ورث زهير الشعر عن أبيه وخاله، وورَّثه لولده، قال ابن الأعرابي: كان لزهير في الشعر ما لم يكن لغيره، كان أبوه شاعرًا، وخاله شاعرًا، وأخته سلمى شاعرة، وابناه كعب وبجير شاعرين، وأخته الخنساء شاعرة، وابن ابنه المضرَّب بن كعب شاعرًا.
وفي رواية حماد وابن الكلبي عن أبيه قال: كان بسامة بن الغدير خال أبي سلمى، وكان زهير منقطعًا إليه معجبًا بشعره … وكان بسامة أحزم الناس رأيًا، فكان غطفان إذا أرادوا أن يغزو أتوه فاستشاروه وصدروا عن رأيه، فإذا رجعوا قسموا له مثل ما يقسمون لأفضلهم، فمن أجل ذلك كثر ماله، فلما حضره الموت جعل يقسم ماله في أهل بيته وبين بني إخوته فأتاه زهير فقال: يا خالاه، لو قسمت لي من مالك! فقال: والله يا بن أختي لقد قسمت لك أفضل ذلك وأجزله. قال: وما هو؟ قال: شعري ورثتنيه. وقد كان زهير قبل ذلك قال الشعر. وكان أول ما قاله، فقال له زهير: الشعر شيء ما قلته فكيف تعتدُّ به عليَّ؟ فقال له بسامة: ومن أين جئت بهذا الشعر؟ لعلك ترى أنك جئت به من مزينة؟ — هي قبيلة من مضر ينسبونه إليها، قال ابن قتيبة: وإنما نسبه في غطفان، ورده ابن عبد البر في الاستيعاب — وقد علمت العرب أن حصاتها وعين مائها في الشعر لهذا الحي من غطفان، ثم لي منهم، وقد رويته عني.
حتى قال أبو عبيدة: إن لشعره ديباجة إن شئت قلت شهد إن مسته ذاب، وإن شئت قلت صخر لو رديت به الجبال لأزالها.
وعمَّر زهير طويلًا، وتوفي قبل البعثة بسنة، وديوان شعره معروف وعليه شروح طُبع منها في «ليدن» شرحه للأعلم الشنتمري سنة ١٨٨٩ للميلاد.
مختاراتها وسببها
كان ورد بن حابس العبسي قتل هرم بن ضمضم المري الذي يقول فيه عنترة وفي أخيه:
فتشاجر عبس وذبيان قبل الصلح، وحلف حصين بن ضمضم أن لا يغسل رأسه حتى يقتل ورد بن حابس أو رجلًا من بني عبس، ثم من بني غالب … ولم يطلع على ذلك أحد، وقد حمل الحمالة الحارث بن عوف بن أبي حارثة، فأقبل … حتى نزل بحصين بن ضمضم، فقال له حصين: مَن أنت أيها الرجل؟ قال: عبسي، قال: من أي عبس؟ فلم يزل ينتسب حتى انتسب إلى بني غالب، فقتله حصين، وبلغ ذلك الحارث بن عوف وهرم بن سنان فاشتد عليهما، وبلغ بني عبس فركبوا نحو الحارث، فلما بلغه ركوبهم إليه وما قد اشتد عليهم من قتل صاحبهم وأنهم يريدون قتل الحارث، بعث إليهم بمائة من الإبل معها ابنه، وقال للرسول: آلإبل أحب إليكم أم أنفسكم؟ فأقبل الرسول حتى قال لهم ذلك، فقال لهم الربيع بن زياد: يا قوم إن أخاكم قد أرسل إليكم: آلإبل أحب إليكم أم ابني تقتلونه مكان قتيلكم؟ فقالوا: نأخذ الإبل ونصالح قومنا ونتم الصلح.
فقال زهير هذه القصيدة يمدح الحارث وهرمًا، وتلك منقبة ليس لها إلا المديح من شاعر ورع حكيم كزهير، وقد ذكرهما بها في قصيدته الأخرى التي مطلعها:
إلى أن يقول:
وهذان البيتان من الروحانيات التي لا تزال تطير بين السماء والأرض.
شعره
قد تقدم أن زهيرًا أشهر من عُرف من العرب باستثبات اللفظ وتخيُّر الكلمة وتنقيح العبارة، فلا جرم كان أحصفهم شعرًا، وأفصحهم لفظًا، ولا يزال قد رمى في شعره بالحكمة الرائعة، والمثل السائر، والمعنى اللطيف، واللفظ الفخم الجليل، والقول المنسق النبيل، وقد سلس له النظام، وأطاعه عصيُّ الكلام، فلا تتبين في ألفاظه ذلة الاستكراه، ولا هوان الاعتساف، بل تراها من الروعة والفخامة وحسن الاستواء كأنما كانت تهدر في قلبه لا في شدقه، ولكأني أرى أبياته موازين، فلا تكاد اللفظة تميل في الكفة حتى تقع أختها في الكفة الأخرى فتتساويا، ومن أجل ذلك قل المنحول في شعره لأنه ديباجة غير ممزقة، ونسيج غير مخرَّق، ولا يأخذه نظر الناقد حتى ينفيه، وقد نحلوه أبياتًا يقال إنها لصرمة الأنصاري يقول في أولها:
فنفاها الأصمعي لأنها لا تشبه كلامه، إذ كانت ألفاظ زهير طريقة بينة، وكان شعره نَفَسًا لا فتور فيه ولا تلبُّث، وحسبه بمثل هذا الدليل: إذا كان الدخيل في القوم لا يُسْتَدَلُّ بغير انقطاع نسبه على أنه دخيل.
ويظهر لمن تدبر شعر زهير أنه ضعيف الابتكار والاختراع، لا يعارض في ذلك الفحول المعدودين كامرئ القيس وغيره، ولكن ألفاظه وصنعته غطَّت على هذا النقص، فقلما تنكشف إلا لمن عارض وتتبع، وقد تراه يأخذ في صفة من الصفات كنعت الناقة أو حمر الوحش أو طراد الصيد، فلا يزال ينحتها من ألفاظه حتى تتمثل كأنها دمية مصور إن لم تكن فيه حياة فإن الحسن في تمثالها حيٌّ.
ولعمري إن هذه الآنية الملاء لطرفة من طرف الاستعارة، وإن حسنها إنما تم بذكر البيوت في صدر الشعر. وفيها أيضًا:
ويُروى: لكل منكرة كفاء، وهي لمحة دالة أشار بها لقبح ما كان يصنع به لو لقيه، وهذا البيت عند قدامة أفضل بيت في الإشارة التي لا يأتي بها إلا الشاعر المبرز والحاذق الماهر.
ولا بأس أن ننسحب على هذا الأثر من البديع، فإن ذلك من متممات زهير، ولولاه لما كانت لصنعته شأن، وقد كان يتوكأ في هذه الطريقة على ما تقدمه من الفحول ويلوذ بهم، كامرئ القيس وأوس بن حجر وأبي دؤاد الأيادي، كما أتبع في صفته امرأ القيس قوله:
فإنه أوغل في التشبيه إيغالًا، بتشبيهه ما يتناثر من فتات الأرجوان بحب الفنا الذي لم يحطم لأنه أحمر الظاهر أبيض الباطن، فإذا لم يحطم لم يظهر فيه بياض البتة، وكان خالص الحمرة، وقد أتبع بيت امرئ القيس:
وكذلك أتبع في نفي الشيء بإيجابه حيث يقول:
فأثبت لها في اللفظ وصيدًا، وإنما أراد ليس لها وصيدٌ فيسدُّ، وله في المبالغة والتتميم العجيب قوله:
فإنه يريد بقوله: (على علاته) ما يكون من قلة الماء والعُدم، أي فكيف به وهو على خير تلك الحال، وقد جاء له في هذه القصيدة:
ذلك بعض صنعته، أما معانيه فإن أكثر ما قُدِّم به زهير المديح، وهو الذي ألقى عن المادحين فضول الكلام، وله في ذلك أبيات لم يسبَق إليها، كأبياته القافية التي يقول فيها:
ونحو قوله:
وقصيدته اللامية التي مطلعها:
وفيها يقول:
كذلك أبياته التي استجمع فيها ضروب المديح من العقل والعفة والعدل والشجاعة، وهي التي يقول فيها، وهي من المديح المنصوص عليه، وقد عدُّوها شرفًا لمن قيلت فيهم.
وقد اختار قدامة في نقد الشعر وشرحها على ذلك التقسيم.
ونحن لسنا في سبيل الاختيار، وإنما نسوق ما لا يزيلنا عن طريق البحث، ولزهير طريقة في تقريب المبالغة والبلوغ إلى الإفراط والإغراق من طريق الحقيقة، كراهية للكذب الثقيل، وبغضة لسوء التأليف الذي يجيء من ناحية الإغراب، فتراه يداور المعاني حتى يبصر لها طريقًا إلى الحقيقة، ويجد لها مخلصًا إلى الواقع كقوله:
وقوله أيضًا:
وعلى هذه الطريقة يُحمل قول عمر: إنه لا يمدح الرجل إلا بما فيه، ولا ترى زهيرًا يشُذّ عنها في شيء، حتى لقد بلغ من معرفتهم ذلك له أنهم حملوا عليه الجواب المرويَّ عن أوس بن حجر حين سأله رجل وقد سمعه يقول:
فقال له: أنت لا تكذب في شعرك، فكيف جعلته أشجع من الأسد؟ فقال أوس: إني رأيته فتح مدينة وحده، وما رأيت أسدًا فتحها قط — وذلك لتخصص زهير بتلك الطريقة والتزامه إياها.
على أن سبب هذا الالتزام قد يكون من ضعف الخيال؛ لأنه لم تستقل له طريقة فيه، ولا هو كان من المتبسطين في فنون المجاز، كما قد يكون أنفةً ونزوعًا إلى مذاهب السيادة، وتورعًا عن أمثال تلك التكاذيب، وهو الأرجح عندنا لما قدمنا من أن هذا الرجل خُلِق سيدًا قبل أن يُخلق شاعرًا، ولذلك قصُر مديحه ولم يجعله تجارة كما جعله الأعشى، ولا انحط فيه إلى تساقط الهمة كما فعل النابغة، ولا زين باطلًا، ولا اختلق موضوعًا، بل كان مديحه تاريخًا صحيحًا.
ومن أجل هذا كان لا يحتال إلى التخلص في قصائده، بل يقتضب المديح، أو يتخلص بمثل قوله:
ولو شاء ذلك تفتقت له الحيلة، ثم كان يتناول البسيط من معاني المديح وما لا يُمدح به عادةً، فتدفعه سلامة النية إلى إقحامه في شعر كقوله:
فهذا البيت لا يرضى أحمق العرب أن يُمدح به، ولكن زهيرًا يعرف أن هرمًا يرضاه، بل يعرف كيف يرضيه به، ومثله قوله في معناه:
وكلمة «على علاته» هذه لا تزال تدور في الناس إلى اليوم، وكذلك كلمته في قوله:
يعني المنية، فقد أجراها الظرفاء على الحذف، فيقولون إلى حيث ألقت … لمن يودِّعون وجهه ويستقبلون قفاه …