الأدب الأندلسي
هنا مشرَعُ القلم ومصرعه، والمورد الذي يُرويه ماؤه تُظمِئه أدمغه، فلو كان القلم سحابًا لاحترق من أسى البكاء بما فيه من البرق، ولو كانت الصحيفة صحيفة الشمس وهي تندب مجد المغرب لأظلم بها الشرق. أيام أدب مرّت كنور النهار أصبح به حينًا وبات، بل كانت خفقات قلب الزمان عاش بها دهرًا ومات، فنضَّر الله سعدًا لا عيب له إلا أنه من الزمن وآخر الزمن شقِي، ورحمه الله عهدًا لا نقص فيه إلا قول المؤرخ بعده: لو بقِي!
(١) الأدب وتأثره بالتاريخ السياسي
لما قرأنا تاريخ الأندلس وأخذنا في درس أدبها واستخلاصه من جملة التاريخ، رأينا ما أذهلنا من إغفال المؤلفين في الأدب والعلوم وتراجم رجالها لهذا الفرع الفينان من الحضارة العربية، فإنك إن جهدت أن تتمثل صورة مجملة لآداب الأندلسيين، فكأنما تجهد أن ترجع إلى خيالك شبابًا أخلَقْتَ عَهْدَه، وكأنك خُلقت بعده، فمهما تأتِ من ذلك لا تزيد على الذكرى التي يبلغ من ضعفها أن لا يكون فيها إلا بعض أنقاض التاريخ، وأنت تريد الأنقاض كلها، بل صورة البناء قبل أن ينقض.
لذلك رأينا أن نضع هذه الصفحة جديدة في تاريخ الأدب العربي، ولما شرعنا في ذلك رأينا أن لا بد من أن يأخذ الكلام في طريقيه: فالأول في ظاهر الأدب وتأثره بالتاريخ السياسي، والثاني في حقيقته وتأثر التاريخ السياسي به، وهذا مما انفرد به الأدب الأندلسي؛ لأنه بدأ عربيًّا وانتهى أعجميًّا — كما سترى — ومن أجل ذلك قسمنا الكلام إلى قسمين:
القسم الأول: الأندلس من العراق
وقد يكون دخول العراق عند بعض العلماء من قبيل قولهم: «مَن حفظ حجة على من لم يحفظ» لأنه عندهم زيادة في الاطلاع وتحقُّق بالثقة في الرواية، ولما قدم عليهم أبو علي القالي سنة ٣٣٠ في زمن الناصر، أمر ابنه الحكم وكان يتصرف عن أمر أبيه، أن يجيء مع أبي علي إلى قرطبة، ويتلقاه في وفد من وجوه رعيته، ينتخبهم من بياض أهل الكورة تكرمةً له، وباسم الحكم طرز أبو علي كتاب الأمالي المشهور، وكان قبل ولاية الأمر وبعدها ينشطه ويعينه على التأليف بواسع العطاء ويشرح صدره بالإفراط في الإكرام، وقد اعتنى الأندلسيون بكتاب الأمالي فشرحوه وألفوا على منزعه، كما فعل الشَّقُوري رئيس كتاب الأندلس في كتابه سراج الأدب، وحفظه كثير منهم حتى في النساء — كما سيمر بك — ومن أجله جعلوا أبا علي أندلسيًّا بالموطن دون المنشأ، ليصح لهم الاختصاص به، مع أن القالي لم يكن في قرطبة أعرابيًّا في أعاجم، ولا كان وحده فيهم كالذهب في تراب المناجم، بل كان في قرطبة كثير منهم، وحسبك بمحمد بن القرطبة، وهو الذي كان يبالغ القالي في تعظيمه، وشهد له بأنه أنبل أهل الأندلس في اللغة، وكان إمام الأدب في ذلك الزمن أبا بكر الزبيدي.
غير أن التاريخ قد فسر هذا التفاوت؛ فإنه عدَّ أبا علي حسنة من حسنات الدولة الأموية في الأندلس، حتى وقع ذلك موقع المنافسة من المنصور بن أبي عامر المتوفى سنة ٣٩٣، فإنه لما قدم عليه أبو العلاء صاعد بن الحسين البغدادي اللغوي عزم على أن يعفِّي به آثار أبي علي الوافد على بني أمية، ليفوز بإحدى الحسنيين، ولكنه لم يجد عنده ما يرتضيه، وكان الرجل يتنفق بالكذب — وقد مرَّ من ذلك شيء في بحث الرواية — فأعرض عنه أهل العلم، وقدحوا في روايته وحفظه، ولم يأخذوا عنه شيئًا لقلة الثقة.
ولم يكن الشغف بالأسماء والألقاب العراقية مقصورًا على العلماء والأدباء وحدهم، بل تجاوزهم إلى الخلفاء، فإن ألقاب الأول منهم كانت: الأمراء أبناء الخلائف، ثم الخلفاء وأمراء المؤمنين، إلى أن وقعت الفتنة بحسد بعضهم لبعض، وابتغاء الخلافة من غير وجهها الذي ترتبت عليه، فتوثَّب ملوك الطوائف على الألقاب العباسية، وترفعوا إلى طبقات السلطنة العظمى، بما في جزيرتهم من أسباب الترفه والفخامة التي تتوزع على ملوك شتى فتكفيهم وتنهض بهم للمباهاة، وفي هذه الألقاب يقول ابن رشيق:
وبلغ فيها إلى قوله:
ولما احتفل المأمون بن ذي النون، من أعظم ملوك الطوائف في إعذاره المشهور الذي عمله بطليطلة وبالغ في ذلك بما يناسب ما بلغت إليه دولتهم من البذخ والترف، وهو الإعذار الذنُّوني — ضرب أهل المغرب به المثل وفاخروا به المشارقة في عرس بوران بنت الحسن بن سهل التي بنى بها المأمون العباسي. وهو من أكبر الاحتفالات التي حفظها التاريخ.
ذلك طرف من تهافت الأندلسيين في تقليد مشاهير العراقيين، وقد بلغوا من ذلك أنهم لما وفد زرياب المغني تلميذ إسحاق الموصلي على عبد الرحمن بن الحكم ورأوا من ظرفه وفنون أدبه ما رأوا، اتخذه خواصهم قدوة فيما سنه لهم من آدابه في اللباس والفرش والطيب والطعام، ثم امتثلهم عامة الناس. وقد ذكر من ذلك نفح الطيب أشياء قال إنها صارت إلى آخر أيام الأندلس منسوبة إليه معلومة به، فكأن عربية الأندلسيين كانت صغيرة في أنفسهم لنزولها عن العربية العراقية بالمنشأ فهم يحققونها دائمًا بالتقليد، ويتثبتون من بقاء قِدَمِهَا بهذا الجديد، ولا جرم فقد كان أصل حضارتهم أمويًّا، لأن أول من سنَّ سنن الآداب وأقام حالة الملك بالأندلس هو عبد الرحمن الداخل المتوفى سنة ١٧٢ فلءُ بني أمية بالشام، وكان يسميه عدوُّه أبو جعفر المنصور العباسي: صقر قريش، لرقيِّ همته وبُعد مطمحه، وقد طرز ثوب ملكه حفيده الحكم بن هشام فحل بني أمية المتوفى سنة ٢٠٦، فكان أول من جند الأجناد واتخذ العدة، وأول من جعل للملك بأرض الأندلس أبهة واستعد بالمماليك حتى بلغوا خمسة آلاف، منهم ثلاثة آلاف فارس وألفا راجل.
القسم الثاني: عربية الأندلس
(٢) أولية الأدب والعلوم
أما أولية العلوم فإن أقدم ما اشتغلوا بمدارسته من العلوم إنما هو الفقه، حتى كان الأمراء الذين وُلوا الحكم في القرن الثاني، وهم: الداخل، وهشام ابنه، والحكم بن هشام — لا يعنون إلا بالقضاة، ويقرِّبونهم، ولا يألون الناس جهدًا في إقامتهم على الحق وحملهم بالسنَّة الواضحة، ولهم في ذلك الأخبار العريضة.
فتلك جملة تاريخ الأدب الأندلسي في القرن الثاني وما أدركه الفتح من بقية القرن الأول، وهي لا تعدُّ شيئًا في جنب ما كان يومئذ بالشام والعراق في الدولتين الأموية والعباسية، حيث انتهى القرن الثاني بقيام المأمون العباسي الذي بويع سنة ١٩٨، ولكنها كالجاهلية للأدب الإسلامي، ولم تزل سنَّةً أن لا يَتم آخرُ شيءٍ إلا إذا كان النقص في أوله!