سيَّما الشعراء
لا بد لكل متميز من شكل ومنظر يلقي في الأنفس عنوان حقيقته؛ ومرجع التميز في
الأشكال من اللباس والحلية وهيئة الحالة ونحوها إنما يكون إلى مطابقة إحساس الشخص
أو موافقة إحساس المجتمع الذي هو مناط العادات ومبنى الصفة القومية، فليس زِيُّ
الشاعر في بيته وهيئته فيما ينشد لنفسه كزِيِّه في يوم الحفل وبين السماطين، ولا
كهيئته فيما ينشد للناس يومئذ. وقد اصطلح أهل الأدب والمناصب العلمية وغيرها من رتب
الملك في الاجتماع الإسلامي على أزياء يرون فيها أنفسهم أجزل اعتبارًا وأكمل وقارًا
وأفخم أقدارًا، وكذلك تحشو هذه الآلات صدور الناس من إفراط التعظيم، وتملأ قلوبهم
من سكون المهابة؛ وقد شاع ذلك في الحضارة الإسلامية منذ أمر أبو جعفر المنصور رجاله
سنة ١٥٣ أن يتخذوا القلانس١ الفارسية الطويلة تدعم بعيدان من داخلها، بدل العمائم التي كانت إلى
ذلك العهد من مميزات العرب، وأن يعلقوا السيوف في أوساطهم وأن يكون شعارهم السواد
كما كان البياض شعار الأمويين؛ ثم تنوعت الأزياء، فكان للقضاة زِي ولأصحابهم زِي
وللشرط زِي، وللكُتَّاب زِي، ولكُتاب الخبر زِي، وأصحاب السلطان ومَن دخل داره على
مراتب، فمنهم من يلبسُ المبطنة، ومنهم من يلبس الدراعة، ومنهم من يلبس القباء.
وهكذا مما لا محل لاستيفائه وتفصيله هنا.
وفي علم الفراسة نوع من قيافة الآثار النفسية يمتاز به الناس، وربما وجدت من
الشعراء مثلًا من يكون منظر وجهه وحالة تركيبه أشعر عند التأمل من شعره؛ وكان العرب
يعرفون هذه القيافة ولكنهم يستعملونها في تحقيق الأنساب وتميز القبائل، وفي الحديث:
أن قومًا يزعمون أنهم من قريش أتوا عمر بن الخطاب رضي الله عنه وكان قائفًا ليثبتهم
في قريش. فقال: اخرجوا بنا إلى البقيع، فنظر في أكفهم ثم قال: اطرحوا العطف (جمع
عطاف) ثم أمرهم فأقبلوا وأدبروا، ثم أقبل عليهم فقال: ليست بأكف قريش ولا شمائلها،
فأعطاهم فيمن هم منه.٢ ولسنا بسبيل ما يكون من هذه القيافة في الشعراء، ولكنا نذكر ما وقفنا
عليه من تمييز الهيئة دلالة السيما بعد مطاولة التعب في البحث والتنقيب.
ذكر المرتضى في أماليه في خبر وفود العامريين على النعمان بن المنذر وكانوا
ثلاثين رجلًا فيهم لبيد بن ربيعة وهو يومئذ غلام له ذؤابة، وكان القيسيون قد صدوا
وجه النعمان عنهم فأرادوا تقديم لبيد ليرجز بالربيع بن زياد رجزًا مؤلمًا ممضًا،
وكان هو الذي صرف الملك بالطعن فيهم وذكر معايبهم، فحلقوا رأسه وتركوا له ذؤابتين
وألبسوه حلة وغدوا به معهم فدخلوا على النعمان. فقام وقد دهن أحد شقي رأسه وأرخى
إزاره وانتعل نعلًا واحدة، قال: وكذلك كانت الشعراء تفعل في الجاهلية إذا أرادت
الهجاء.٣ وكانت لشعراء الأعراب هيئة في الإنشاد إلى ما بعد الإسلام، فقد دخل
العماني الراجز على الرشيد ينشده شعرًا وعليه قلنسوة طويلة على الزِّي العباسي وخف
ساذج، فقال له الرشيد: إياك أن تنشدني إلا وعليك عمامة عظيمة الكور (الطي) وخفان
دمُالقان، فبكر عليه من الغد وقد تزيا بزي الأعراب فأنشده٤ … وكان الشاعر العربي يُنشد في يوم الحفل وقد أخذ المخصرة بيده أو اتكأ
على سية قوسه؛ وإذا فاخر جاثى خصمه والناس حولهما؛ وكذلك كان للخطيب زي خاص سنذكره
في بحث الخطابة.
وكان زي حسان بن ثابت في خضابه، فكان يلوث شاربيه وعنفقته٥ بالحناء دون سائر لحيته، فيبدو لأول وهلة كأنه أسد والغ في
الدم.٦ ومن أزياء الجاهلية وإن كانت في غير ما نحن بسبيله، أن فرسان العرب
كانوا في أيام المواسم والجموع وأسواق العرب كعكاظ وذي المجاز وما أشبه ذلك،
يتقنعون، وذلك زِيهم، إلا ما كان من أبي سليط طريف بن تميم أحد بني عمرو بن جندب،
فإنه كان لا يتقنع ولا يبالي أن يثبت عينه جميع فرسان العرب، وكانوا يكرهون أن
يعرفوا، وربما أعلم الفارس نفسه بسيما، كريشة نعامة أو عمامة مصبغة.٧
وكان من زي الكاهن أن لا يلبس المصبغ، والعرَّاف لا يدع تذييل قميصه وسحب ردائه،
والحكم لا يفارق الوبر.٨
وكان الشعراء في أوائل الدولة العباسية يلبسون الوشي والمقطعات والأردية السود
وكل ثوب مشهر، قال الجاحظ: وكان عندنا منذ نحو خمسين سنة شاعر يتزيا بزي الماضين
وكان له بُرد أسود يلبسه في الصيف والشتاء،٩ وهذا يدل على أن ذلك الزي بطل في زمنه.
وقد اخترعوا في تلك الدولة أثواب المنادمة وهي خاصة بالشعراء والأدباء ولا تقييد لها بشكل خاص إلا ما يكون من الأصباغ والخلوق ونحو ذلك مما يستعان به على زيادة التبسط والانشراح، ولا يزال مثل ذلك في جهات العراق إلى اليوم؛ ومن هذه الثياب رداء يسمونه رداء الشرب، ويظهر أنه كان خاصًّا بالشعراء في منادمة الملوك والأمراء، وقد وصفه ابن الحجاج من شعراء المهلبي بقوله:
أبيض الغزل فيه خط سواد
مثل خط الرئيس في القرطاس١٠
هوامش
(١) قلت: القلانس: مفردها (القَلَنْسُوَة): لباس للرأس مختلف الأنواع
والأشكال.
(٢) الكامل للمبرد: ١ / ١٣.
(٣) أمالي المرتضى: ١ / ١٣٥.
(٤) البيان: ج١.
(٥) قلت: العنفقة: شعيرات بين الشفة السفلى والذقن لخفة شعرها.
(٦) الأغاني: ٤ / ٣.
(٧) البيان: ج٢.
(٨) البيان: ج٢.
(٩) نفس المرجع السابق.
(١٠) تميمة الدهر: ٢ / ٢٣٧.