الحضارة الأندلسية
الأندلس إقليم في جنوب إسبانيا، وقد أطلق اسمه على البلاد كلها مجازًا، ولهذه البلاد إسبانيا في تاريخ الحضارة أربعة أعصر: الأول عصر الفينيقيين الذين اكتشفوها، والثاني عصر الرومانيين، والثالث عصر القوطيين … والرابع العصر الإسلامي. وكانت إسبانيا قبل أن يكتشفها الفينيقيون ما بين القرن الرابع عشر والخامس عشر قبل الميلاد، معمورة بقبائل يسمونهم «الأيبيريين» وقد وقع الخلاف في أصلهم، قالوا: ومن هذا الاسم اشتق اسم «هباريا» الذي كان الاسم الأول لتلك البلاد، ثم صار إسبانيا بعد ذلك.
فلم تكن حضارة العرب في الأندلس ابتداءً، وإنما كانت تتميمًا، ولولا ذلك لتبيَّن النقص الطبيعي في أدب تلك البلاد، ولبلغ الكبر قبل أن يشبَّ شبابه الذي بهر التاريخ؛ لأن الأدب لا يتبع الحضارة لنفسها، ولكن لفلسفتها وحواشيها الرقيقة، فليس الشأن في بناءٍ يُقام وبلد يعمر ونهر يبثق وأرض تفلح، ولكن الشأن في فلسفة ذلك جميعه، من جمال الشكل وإحكام الهندسة وجلاء الطبيعة وحسن التنسيق، وأنت مع استفحال الحضارة الإسلامية واستبحار عمرانها وسموق مبانيها ودقة فنونها، خصوصًا في الأندلس، لا تكاد تجد لأفراد الشعراء المعدودين في وصف المباني إلا ما كان للبحتري في وصف قصور المتوكل كالجعفري وغيره، وللشريف الرضي في وصف ما كان في الحيرة من منازل النعمان، والصابي في وصف قصر روح بالبصرة، وشعراء الدَّاريات، وهم الذين نظموا في وصف دار الصاحب بن عباد كأبي سعيد الرستمي والخوارزمي وغيرهما، وقد ذكرهم صاحب اليتيمة وأورد قصائدهم، وابن حمديس في مباني المعتمد على الله وما شاده المنصور بن أعلى الناس وهو أشهر الشعراء في ذلك، وأبي الصلت أمية الأندلسي في مباني علي بن تميم بن المعز العبيدي بمصر، وأبي محمد المصري في وصف قصر المأمون بن ذي النون بطليطلة، وقطع متفرقة لغير هؤلاء، وهم مع ذلك لا يذكرون مادة البناء ولا يصورون هندسته؛ لأن الشعر ليس مادة جامدة يأتلف مع الجوامد، وإنما هو يتبع زخرف الحضارة وفلسفتها.
وقد وجد العرب في الأندلس حضارة ممهدة وسبيلًا مطروقة إلى الفنون الدقيقة والجمال الطبيعي، وجاءهم بعد ذلك من بني أمية أمراء الحضارة الشرقية ومنافسو العباسيين فيها. فجلوا شبابًا كاد يوفى على الهرم، وكان رأسهم في ذلك عبد الرحمن الداخل الذي بدأ في بناء جامع قرطبة الأعظم والقصر الكبير الذي كان في الأبنية كأنه قصيدة في الشعر، إذ كان من قصوره التي يحتويها: الكامل، والمجدد، والحائر، والروضة، والزاهر، والمعشوق، والمبارك، والرستق، وقصر السرور، والتاج، والبديع، وغيرها، وهي المعاهد التي كانت مذكورة في ألسن الشعراء وفرسان الأدب، وكان عبد الرحمن بن معاوية صاحب قصر الرصافة ينقل لجنانه غرائب الغروس وأكارم الشجر من كل ناحية، وأرسل إلى الشام رسوليه: يزيد وسفر، في جلب النوى المختارة والحبوب الغريبة، ولسنا الآن في شرح مواد هذه الحضارة من أنواع النقش والحيَل الصناعية ووصف القصور والمتنزهات وسرد أسمائها، ومجالس الخلفاء وأنواع زينتهم ولهوهم وما سفهوا فيه من السرف والبذخ ونحوها، فليس في كتابنا موضع يسع مثل هذا، وقد تكفل بذلك الشرح جميعه كتاب نفح الطيب للمقري، فضلًا عن أن فيه أشياء أمسكناها لبحث الصناعة العربية تجيء في موضعها من هذا الكتاب، وإنما غرضنا هنا أن نضع أساس البحث في الحضارة الأدبية لأنها تابعة للحضارة الفنية، تغتذي بمادتها وتشرق بجمالها، وإنما الأدباء أقلام التاريخ التي تخلد حضارة الدول وتصف زينة الملك وتراسل عن الملوك بالثناء وحسن الذكر وطيب الأحدوثة، فيد الدولة التي لا تكون لها هذه الأقلام يد شلاء يبترها التاريخ ولا يصفها إلا بالعجز وسوء التعلق والمغالبة على الوجوه بغير حق.
وأساس الحضارة الأدبية في الأندلس تلك الطبيعة التي كانت ترسل النسمات أنفاسًا موسيقية تؤخذ شعرًا وتلفظ ألحانًا، وبذلك حبَّب إلى أهلها الأدب وطبعوا على هذه الشيمة، حتى كان ذلك ظاهرًا في مثل وادي الأشات من أعمال غرناطة، وهي مدينة خص الله أهلها بالأدب وحب الشعر، لما أحدق بها من المواضع الفرجة والبساتين الغناء، وما زالوا يضربون المثل بأهل إشبيلية بلد المتنزهات في الخلاعة والمجون والتهالك على الشعر والغناء، وإنما كان يعينهم على ذلك واديها البهيج، وبنت إشبيلية هذه مدينة شريش، وواديها ابن واديها، وقد قالوا فيها: ما أشبه سعدي بسعيد! وهي مدينة وصفوها بأنه لا يكاد يُرى فيها إلا عاشق أو معشوق …
ومما خُصت به غرناطة التي تُسمى دمشق الأندلس، نبوغ النساء الشواعر منها، كنزهون القلعية وحفصة الركونية وغيرهما، وناهيك بهما من شاعرتين ظُرفًا وأدبًا، فإذا كانت أنوثة تلك الطبيعة قد أنطقت النساء فكيف بالرجال؟
أدباء ملوك الأندلس
أما ملوك الطوائف فحسبك بالمعتصم بن صمادح ملك المرِّية وأولاده الواثق عز الدولة، ورفيع الدولة أبو زكريا يحيى بن المعتصم، وأبو جعفر، وأم الكرام، وكذلك المعتمد بن عباد صاحب إشبيلية ملك الشعراء، وأولاده: الرشيد، والراضي، وبثينة، ثم ملوك بني الأفطس أصحاب بطليوس وما إليها، ومنهم المظفر صاحب الكتاب المظفري في التاريخ والأدب — وسيأتي ذكره — وبنو هود أصحاب سرقسطة، وكان منهم القائمون على الرياضيات والفلسفة، وأشهرهم المقتدر بن هود الذي كان آية في علم النجوم والهندسة والفلسفة، فقُل في زمن كان يقوم بأمره أمثال هؤلاء: وإنما الأمر بالأمير.
مبلغ عنايتهم بالعلم والأدب
يخلص مما استوفيناه إلى الآن أن أمراء الأندلس وخلفاءها كانوا فيها كعواطف القلب التي تتحرك إلى المنافسة، فهم من جهة بإزاء العباسيين وأمرائهم في المشرق، ومن جهة أخرى بإزاء الطبيعة التي أنشأت الأندلسيين نشأة عقلية غير النشأة الأولى التي يساهم فيها كل أفراد النوع، وهي النشأة القلبية، فلم يكن بد لأولئك الأمراء من أن يكونوا على الحقيقة رؤوس هذا الشعب الطروب، وهي لا توفق بين اندفاع وكبحه إلا إذا كان منها حيِّز للسياسة الحكيمة والعزمة الرحيمة، وهذا لا يتأتى مع جهل ولا جاهلية، وكذلك، ليس العلم المحض بنافع فيه على الإطلاق، وإنما لا بد من علم منوَّع وافتنان يوافق به الأمير أو الخليفة معظم السواد من حاشيته وقومه، فالأمير الفيلسوف لا يصلح للرعية الفقهاء، وحينئذ لا بد أن يكون الفقه في الكفة الراجحة من ميزان سياسته، فتكون له الفلسفة في خاصة نفسه، والفقه وما يُستعان به على تجميل الملك وسياسته كالكتابة والشعر وغيرهما — فيما ظهر منه للناس.
ولما كانت السيادة لعلم الفقه في أول أمر الأندلس كان الأمراء من بني أمية يعنون بشأن الفقهاء والتودد إليهم والانصياع لمشورتهم، ليتألَّفوا الناس بذلك ويديروا بهم الرحى الطاحنة التي هي الحرب؛ حتى إن الحكم بن هشام بات يتململ على فراشه وبَعُدَ عنه نومه حين مرض قاضيه وسمع النائحة عليه؛ لأن هذا القاضي كان يكفيه أمور رعيته بعدله وورعه وزهده.
ولكتاب ديسفوريدس هذا شأن عند العرب، وقد نقله عن اليونانية اصطفان بن باسيل أيام المتوكل العباسي وترك أسماء كثير من العقاقير على لفظها اليوناني، إذ لم يحسن تغريبها، ووقعت هذه النسخة العربية إلى الأندلس، فلما أهدى الكتاب إلى الناصر أرسل إلى ملك القسطنطينية في أن يبعث إليه براهب يعرف اليونانية واللاتينية، وكان في الأندلس من يحسن هذه اللغة، فبعث إليه راهبًا اسمه نقولا وصل إلى قرطبة سنة ٣٤٠ فتعاونوا على استخراج ما فات ابن باسيل، ثم جاء ابن جلجل الطبيب الأندلسي في آخر القرن الرابع فألَّف كتابًا فيما فات ديسفوريدس من أسماء العقاقير والأدوية، جعله ذيلًا على ذلك الكتاب.
ولسنا نفيض في وصف زمن الناصر وإقبال الوفود عليه من ملوك أوربا والملوك المتاخمين له ومخاطبته في أمر الهدنة والسلم والتماس رضاه وتقبيل يده، ولا في وصف المجلس التاريخي العظيم الذي أعدَّه لاستقبال تلك الوفود، فإن حواشي التاريخ ليست من شرطنا في هذا الكتاب، وإنما نقول: إن زمن هذا الخليفة كان شباب الأدب، ولغلبة العلوم عليه من اللغة والنحو والحديث والفلسفة لم يكثر شعراؤه كثرتهم في أواخر هذا القرن وفي القرنين الخامس والسادس. وقد كان من تأثير ذلك أن صار أكثر الفقهاء وسائر أصناف العلماء رواة للشعر والأخبار، واستفاض ذلك إلى آخر عصور الأندلس، فنشأ من مشاهيرهم مثل أبي مروان عبد الملك الطبي، وأبي الوليد الباجي، وأبي أمية إبراهيم بن عصام، وابن حزم الظاهري، وأبي بكر الطرطوشي، والحافظ الحميدي، وابن الفرضي، وغيرهم، حتى إن من لم يكن فيه هذا الأدب من العلماء كانوا يعدُّونه غفلًا مستثقلًا. ولم يكن يشتهر بذلك قبلهم إلا القليل من الفقهاء، كعبد الملك بن حبيب المتوفى سنة ٢٣٨، والقاضي منذر بن سعيد المتوفى سنة ٣٣٥ وكانوا يقولون في عبد الملك إنه عالم الأندلس وإنَّ عيسى بن دينار فقيهها، وأشهر شعراء الناصر: ابن عبد ربه صاحب العقد الفريد المتوفى سنة ٣٢٨، وهو الذي نظم بعض غزواته في أرجوزته المشهورة، وحاجبه أحمد بن عبد الملك بن عمر بن أشهب، ووزيره عبد الملك بن جهور، وآخرون.
وإذا كان التاريخ قد ذهب بكثير من أسمائهم، فقد رأينا في بعض أنبائه أن من الكتب التي أُلفت للحكم المستنصر كتبًا في شعراء الأندلس، منها أخبار شعراء ألبيرة في عشرة أجزاء، وقد وقف عليه الوزير أبو محمد بن حزم؛ وهو الذي ذكره في بعض رسائله ولم يذكر اسم مؤلفه (ص١٢٣ ج٢)، ولكنا وقفنا في طبقات اللغويين والنحاة للسيوطي على اسم هذا الكتاب في ترجمة مطرف بن عيسى الألبيري المتوفى سنة ٣٥٧، وقال: إن له كتابًا آخر في فقهائها، وكتابًا في أنساب العرب النازلين بها وأخبارهم (ص٣٩٢).
ولعل هذه الكتب مما يساق فيه القصص الموضوع على غرض من أغراض السياسة والأدب، ويقول صاحب المعجب: إن كتاب الهجفجف وضعه على نحو كتاب أبي السري سهل بن أبي غالب، فيا أسفاه على كتب أصبحت أسماؤها تحتاج إلى تفسير … وقد ذكر الفتح بن خاقان في المطمح في ترجمة الوزير حسان بن مالك بن أبي عبدة أنه دخل على المنصور وبين يديه كتاب ابن السري وهو به كلف وعليه معتكف، فخرج وعمل على مثاله كتابًا سماه ربية وعقيل، وأتى به منتسخًا مصوِّرًا في ذلك اليوم من الجمعة الأخرى (ص٣١٤ ج٢) فهذا يفيد أن هذه الكتب جميعها على مثال كليلة ودمنة المشهور.
وكان للمنصور مجلس في كل أسبوع يجتمع فيه أهل العلم والمناظرة بحضرته ما كان مقيمًا بقرطبة؛ لأنه كان مواصلًا لغزو الروم مفرطًا في ذلك لا يشغله عنه شيء، حتى إنه ربما خرج للمصلى يوم العيد فحدثت له نية في ذلك فلا يرجع إلى قصره، بل يخرج بعد انصرافه من المصلى كما هو من فوره إلى الجهاد، فتتبعه عساكره وتلحق به أولًا فأولً. وقد غزا في أيام ملكه التي دامت إلى سنة ٣٩٣ نيفًا وخمسين غزوة.
ورأس الشعراء في أيامه عبادة بن ماء السماء المتوفى سنة ٤٢٢ وقيل: سنة ٤١٩، وهو أول من أتقن الموشحات بالأندلس حتى كأنها لم تُسمع إلا منه، وللرمادي في ذلك يدٌ أيضًا.