الشعر الأندلسي والتلحين
لقد يخطئ من يزعم أن شعر الأندلسيين يغيب في سواد غيره من شعر الأقاليم الأخرى كالعراق والشام والحجاز، بحيث يشتبه النسيج وتلتحم الديباجة، وذلك زعم من لا يعرف الشعر إلا بأوزانه ولا يميز غير ظاهره، ولكن للشعور روحًا كروح الإنسان: تستوي مع الجنس كله في جملة الأخلاق وتختلف في مفرداتها، حتى لقد يجد اللبيب الحاذق من التفاوت بين أنواع الأشعار إذا هو استقرأها وتقصَّص تواريخ أصحابها ما يصح أن يخرج منه علم يُسمى علم الفراسة الشعرية.
ومن هذا القبيل يمتاز شعر فحول الأندلسي بتجسيم الخيال النحيف وإحاطته بالمعاني المبتكرة التي توحي بها الحضارة، والتصرف في أرقِّ فنون القول واختيار الألفاظ التي تكون مادة لتصوير الطبيعة وإبداعها في جُمل وعبارات تخرج بطبيعتها كأنها التوقيع الموسيقي، بل هي تحمل على التلحين بما فيها من الرقة والرنين ولا يشاركهم في ذلك إلا من ينزع هذا المنزع ويتكلف ذلك الأسلوب؛ لأن جزالة اللفظ في شعرهم إنما هي روعة موقِعه وحلاوة ارتباطه بسائر أجزاء الجملة؛ وتلك فلسفة الجزالة، ومن أجل ذلك أحكموا التشبيه، وبرعوا في الوصف؛ لأنهما عنصران لازِمان في تركيب هذه الفلسفة الروحية التي هي الشعر الطبيعي.
وقد يشاركهم في كثير من ذلك شعراء الشام، ولكن رقة هؤلاء عربية مصفَّاة؛ ولذلك امتازوا على عرب الحجاز والعراق، فهم لا يهولون بالألفاظ المقعقعة، ولا يغالون في فخامة التركيب، ولكن لا يستقبلك في شعرهم ما يستقبلك في شعر الأندلسيين من الشعور الروحي الذي لا سبيل إلى تصويره بالألفاظ، والذي تتبين معه أن الفرق بين الخيالين كأنه الفرق بين البلادين في التبعية والاستقلال. وليس يدل ما قدمنا على أن شعر فحول الأندلسيين ممتاز على إطلاقه وأن غيره لا يمتاز عليه، بل الأمر في ذلك كالجمال: كل أنواعه حسن رائع، ولكن النحافة الليِّنة منه تستدعي مع الإعجاب رقةً هي بعينها التي يجدها من يتدبر ذلك الشعر.