علوم الأندلسيين
ليس من الممكن أن يقلب العلم الواحد على أنواع متغايرة إلا ما يكون متسعًا بطبيعته لمسابقة الخواطر واستنان القرائح، وهذا شأن أكثر العلوم قبل أن تقرر قواعدها وتمهد طرقها، إذ ليس العلم بخصوصه إلا نوعًا من التاريخ يضبط أعمال القرائح ويرتب نتائجها، فإذا بلغ أن يكون في حكم المفروغ منه لبعض الاعتبارات، كمفردات اللغة مثلًا من ذهب أهلها المأخوذة عنهم، فذلك هو العلم الذي لا فضل فيه لأحد إلا بإتقانه وحسن القيام عليه والاستنباط منه إذا قبل الاشتقاق والتفريغ، ولكن من أنواع العلوم ما يتصل بأجزاء الطبيعة، فهو أبدًا مادة الاكتشاف، وقد يكون هذا الاتصال عامًّا كالشعر ونحوه مما لا يقيَّد بموضوع محدود، وقد يكون خاصًّا كعلم النبات مثلًا، وهذه الأنواع هي التي يتفاضل فيها الأقوام وتمتاز القرائح والأفهام، فالعلم منها أشبه بالتاريخ السنوي لأمة لا تزال باقية ممدودًا لها في أجر العمران والحضارة.
وقد برز الأندلسيون في جميع الأنواع التي تناولوها وأحسنوا القيام عليها واضطلعوا بها، غير أن أكثر تلك العلوم إنما وقع إليهم تامًّا أو هو في حكم الذي تمَّ؛ لأن العراقيين سبقوهم إلى الاشتغال به، كعلوم اللغة والفلسفة بأنواعها، فلم يتركوا لهم إلا فضل التحقيق وما كانت تساعد عليه أحوال تلك الأزمنة من الاكتشافات وما اقتضته طبيعة أرضهم من الاختراعات الهندسية. وكأن هذا الشعب كان من فطرته وحكم الطبيعة له أن يكون متفضلًا، فعوَّضه التاريخ من الفضل على المشرق فَضْلَه على أوربا، وعلى ذلك فلا يكون بحثنا في علوم الأندلسيين علميًّا؛ إذ هم لم يبتدئوها ولم يتمموها، ولكنه تاريخي يبسط حقيقة التاريخ لا حقيقة العلم ذاته. ولقد يصح أن يكون للأندلس بحث فني يذهب برأسه في تاريخ الفنون والصناعات عامة — وسنلم بشيء منه في موضع آخر من هذا الكتاب.
اشتغل الأندلسيون بعلوم الفلسفة جميعها المعروفة في التمدن العربي، وهو علم النجوم والأفلاك، والمقادير — الهندسة — والرياضيات، وآثار الطبيعة، والطب، والموسيقى، والمنطق، والفلسفة الإلهية، والسياسات المنزلية والمدنية، وبعلوم اللغة والأدب، من النحو والتصريف والتاريخ والرواية والمحاضرة، وبسائر العلوم الدينية، وسنقسم الكلام في ذلك إلى قسمين: العلوم الفلسفية، والأدبية:
(١) العلوم الفلسفية
سبق لنا فيما أسلفناه من هذا البحث كلام متفرق عن التنجيم وبعض من عُرفوا به وعناية الملوك بعلوم الفلسفة وذكر الفلاسفة والشعراء، فلا نعيد شيئًا من ذلك هنا، وإنما نستوفي ما يتم به هذا الموضع، تفاديًا من الملل والسآمة.
ومن أشهر أئمة الفلك بالأندلس إبراهيم بن يحيى النفاش المعروف بولد الزرقيال. قال ابن القفطي: إنه أبصر أهل زمانه بأرصاد الكواكب وهيئة الأفلاك واستنباط الآلات النجومية، وله صحيفة الزرقيال المشهورة في أيدي أهل هذا الفرع التي جمعت من علم الحركات الفلكية كل بديع مع اختصارها، ولما وردت على علماء هذا الشأن بأرض المشرق حاروا لها وعجزوا عن فهمها إلا بعد التوقيف، وله أرصاد قد رصدها ونُقلت عنه.
وكما كان القرن الخامس أشهر عصور الأدب في الأندلس، كان القرن السادس أشهر عصور الفلسفة فيها، ظهر فيه الحكيم أبو بكر بن الصائغ الذي كان يحدث عن نفسه أنه يُحسن اثني عشر علمًا أيسرها النحو الذي هو أشهر علوم الأندلسيين، وابن طفيل، وابن رشد، وأبو العلاء بن زهر فيلسوف عصره وحكيمه المتوفى سنة ٥٣٥ وأمية بن عبد العزيز بن أبي الصلت، وقد مرَّ ذكره، وأبو بكر بن زهر الطبيب المتوفى سنة ٥٩٥، وقد كاد هذا الرجل يكون تاريخ القرن السادس كله؛ لأنه ولد سنة ٥٠٧؛ وهو مع طبِّه اللغوي الأديب الذي امتاز بالموشحات الطائرة بين المغرب والمشرق، وله أخت كانت هي وبنتها نابغتين في الطب. وأبو الحكم المغربي المتبحر في الفلسفة والأدب، وقد مرَّ ذكره في الشعراء الفلاسفة، وتوفي سنة ٥٤٩، وإن الواحد من هؤلاء ليكفي أن يكون فخر أمة، فكيف بهم مجتمعين في قرن من الزمن؟
وقد كان لكل منهم تلامذة جلة، ولم تنجب الأندلس بعدهم من يضاهيهم إلا أفرادًا قليلين، كمحمد بن الحسن المذحجي، وابن عياش الزهراوي ومطرف الإشبيلي في القرن السابع.
على أن من الأندلسيين أفرادًا آخرين اشتهروا بفنون أخرى كالنبات والفلاحة وخواص العقاقير والسموم وعلم الحيوان وغيرها، فضلًا عمن نبغوا من أصحاب المنطق والموسيقى، ومن كانوا هناك من أئمة الفنون ومهرة الصناعات، فلم نرَ أن نصلهم بهذا الفصل؛ إذ استقصاء ذلك كله مما يقتضي كتابًا برأسه، وهو فرع إن كان مهمًّا في بسط الحضارة فليس كذلك في تاريخ الأدب.
مقاومة الفلسفة العربية الطبيعية في أوربا وانتشارها
وهنا موضع هذه الكلمة؛ لأن الأوربيين لم يعرفوا الفلسفة العربية إلا من طريق الأندلس أولًا، وسنأتي على أمر النقل والترجمة إليهم في فصل آخر من هذا البحث.
أول ما دخل إلى أوربا من الفلسفة العربية كتب ابن سينا وبعض كتب الفارابي والكندي ثم دخلت كتب الغزالي وابن رشد، وكانت فلسفة أوربا يومئذ بعض تعاليم لاهوتية مستخرَجة من كتب مختلفة لأصحاب المذاهب اللاتينية، فلما دخلت إليها فلسفة العرب في القرن الثاني عشر للميلاد وما بعده لم تلبث أن انتشرت في المدارس والمجتمعات وأقبل عليها الناس، فرأى المجمع الأكليريكي الذي عُقد في باريس سنة ١٢٠٩م أنها ستذهب بالتقاليد الدينية المعروفة التي لا قرار لها على مذاهب العلم الطبيعي فحُكِمَ على المشتغلين بها يومئذ من الأوربيين وهم أموري ودفيدوي دينان وتلامذتهما، وفي سنة ١٢١٥ حرَّم الإكليروس تعاليم أرسطو وخصوصًا تلاخيص ابن سينا، وفي سنة ١٢٣١م حرم البابا غريغوريوس التاسع كل من يشتغل بفلسفة العرب.
كانوا يرمون بذلك إلى محو هذه الفلسفة ولكنهم لفتوا إليها الغافلين ونبهوا إلى هذه الشكوك من يسمونهم أهل اليقين، فاضطر علماء اللاهوت بعد ذلك إلى درسها، ليتخذوا من الداء دواءً وليضربوا العلم في أرق مقاتله، فقام منهم غيليوم دوفرن وحمل على فلسفة ابن سينا ثم خفف من حملته قليلًا وانعطف برفق ظنه قاتلًا إلى فلسفة ابن رشد، وقد كان يثني عليه بعض الثناء، وبعده قام اللاهوتي البير الكبير، وهو من المعجبين بابن سينا والمزدرين لابن رشد، وله ردود كثيرة على الفلسفة العربية، ثم قام بعدهما ألدَّ أولئك الأعداد، وهو القديس توما الشهير أعظم حكماء الكنيسة الغربية وأكبر فلاسفة اللاهوت في العصور المتوسطة. ولكن كل أولئك لم يقووا على نقض الفلسفة العربية، فإنهم إنما كانوا يروون بالألسنة على القلوب، والحجج اللسانية قد تحرج القلب في مبادئه التي يصبو إليها ولكنها لا تصرفه عن هذه المبادئ ما دامت قوتها لفظية؛ ومن أجل ذلك حاول بعد هؤلاء ريمون مارتيني أن يضرب اليقين بالشك ويدخل إلى تلك القلوب من بعض جوانبها، فجعل ينشر كتب الغزالي للرد على فلسفة ابن سينا وابن رشد، ثم تتابع جيل دي ليسين وبرناردي تريليا وهرفه نديليك ودانت الشاعر الإيطالي المشهور صاحب رواية الجحيم وجيل دي روم، وهو الذي بلغ في ذلك قريبًا من القديس توما، وجاء بعدهم الأرعن الأخرق ريمون لول الذي صرف عمره خصوصًا من سنة ١٣١٠ إلى سنة ١٣١٢م في التجوال بين باريز وفيينا ومونبليه وجنوى ونابولي وبيزه، محرِّضًا الناس على ازدراء العرب ونبذ فلسفتهم، حتى إنه لما اجتمع مجمع فيينا سنة ١٣١١م رفع إلى البابا اكليمنضس الخامس كتابة يقترح فيها إنشاء مجتمع يخوَّل من السلطة ما يساعد على إسقاط الإسلام وإقامة كليات لدرس اللغة العربية وحَرْمُ المسيحيين الذين ينتصرون لفلسفة ابن رشد وطرح كتبه من المدارس الأوربية!
وفي هذا القرن الرابع عشر كانت كتب ابن رشد قد انتشرت في أوربا، خصوصًا في فرنسا وإيطاليا وإسبانيا، حتى غطَّت عندهم على ابن سينا وأخملت من شهرته بعد أن كان هو المتميز في القرن الثالث عشر، ثم أصبحت تلك الفلسفة في القرن الخامس عشر وهي روح العلم الطبيعي في أوربا، وذلك بعد أن صارت من الدروس الحافلة في كلية بادو المشهورة بإيطاليا التي استتبعت حركة الفلسفة الأوربية يومئذ، وأول ناشري تعاليم ابن رشد فيها بطرس دانو الذي لم يجد ديوان التفتيش سبيلًا إلى عقابه إلا بحرق عظامه من بعده …
وقد شرح أساتذة هذه الكلية فلسفة الحكيم القرطبي، ونبغ فيها منهم كثيرون أكسبوها الاحترام وعلو الرأي، ولا جرم أنهم بذلك قد رفعوا أنفسهم أيضًا.
ولما أراد لويس الحادي عشر ملك فرنسا، إصلاح التعليم الفلسفي في سنة ١٤٧٣م، طلب من أساتذة المدارس تعليم فلسفة أرسطو وشرح ابن رشد عليها لأنه استثبت فائدة هذا الشرح وأيقن بصحته.
آخرة الفلسفة العربية
ثم حدثت مسألة خلود النفس في أواخر القرن الخامس عشر وخاض فيها علماء إيطاليا، وكانوا يجدون في شروح ابن رشد لفلسفة أرسطو أن النفس خالدة بعد الموت، ولكن «بومبوتا» العالم المشهور أثبت من كتب «إسكندر دفروريزياس» الفيلسوف اليوناني الذي شرح أرسطو قبل ابن رشد، أنه لا خلود غير الخلود الإنساني النوعي في الأرض، فانشق العلماء وطار الجدال في هذه النازلة حتى انقعد مجمع لاتران في سنة ١٥١٢م وحرم كل من يقول بأن النفس غير خالدة، وبعد هذا الانتصار للفلسفة العربية طُبعت كتب ابن رشد وطارت إلى أيدي طلَّابها والمعجبين بها من كل جهة، غير أن ذلك كان مبدأ للرجوع إلى النص اليوناني في فلسفة أرسطو، ثم انتبه العلماء إلى فائدة ذلك، ففي أبريل من سنة ١٤٩٧م صعد الأستاذ «نقولا ليونيكوس توموس» منبر التعليم في كلية بادو، وألقى أول مرة فلسفة أرسطو باللغة اليونانية، وما كاد أمره يذيع حتى أخذوا ينهضون في ذلك، ثم عادت بادو والبندقية وشمال إيطاليا إلى نص أرسطو، وعادت فلورنسا إلى نص أفلاطون، واستمر ذلك إلى أن ظهرت الفلسفة الطبيعية الحديثة في أواخر القرن السادس عشر، فأتت على الفلسفة العربية، حتى لم تجئ سنة ١٦٣١م حتى انقلبت تاريخًا يُذكر بعد أن كانت علمًا يُنشر، وذلك بوفاة آخر القائمين عليها في أوربا وهو «قيصر كريمونيتي» المتوفى في تلك السنة.
(٢) العلوم الأدبية
كتاب سيبويه عندهم
علماء العربية والأدب
بقي أن نذكر أسماء المشاهير من علماء العربية بالأندلس غير من ذكرناهم وقد أبقينا لهذا الموضع أسماء الشعراء وأئمة الأدب؛ لأننا إنما نتفادى من الإطالة بسرد الطائفة الواحدة، ولا نعتمد إلا أن يكون وفاء البحث في جملة أجزائه لا في بعضها، وهي طريقتنا التي نجري عليها في هذا الكتاب.
كان في القرن الثاني حمدون النحوي بعد المائتين — وقد سبق ذكره — وكان هو والمهدي متعاصرين ولهما زعامة النحو واللغة، إلا أن المهدي امتاز باللغة وامتاز حمدون بالنحو … فكان فيه الغاية التي لا بعدها، وقد أخذ عن علماء ذلك العصر ابن وضاح والخشني ومطرف بن قيس.
واشتهر في القرن الثالث الخشني القرطبي، وهو نحوي لغوي شاعر لقي بالمشرق السجستاني والرياشي والزيادي، وأدخل الأندلس كثيرًا من اللغة والشعر الجاهلية، وتوفي سنة ٢٨٦ عن ثمانين سنة.
وكان يعاصره محمد بن عبد الله القرطبي وهو الذي أخذ عنه أهل الأندلس الأشعار المشروحة.
ومحمد بن عبد السلام بن ثعلبة، وقد أدخل الأندلس أيضًا كثيرًا من كتب اللغة والشعر الجاهلي.
وجابر بن غيث اللبلي النحوي الشاعر الأديب المتوفى سنة ٢٩٩.
ومحمد بن أصبغ المتوفى سنة ٣٠٦ وهو مولى الوليد بن عبد الملك.
وهشام بن الوليد النحوي العروضي الأديب، وهو مؤدب أولاد الناصر توفي سنة ٣١٧.
ومحمد بن يحيى المعروف بالرياحي مؤدب المغيرة بن الناصر، وهو إمام في العربية والأدب، فقيه شاعر.
وأحمد بن إبراهيم بن أبي عاصم، حافظ للعربية والغريب، متقدم في النقد، شاعر منفرد، شرح أكثر دواوين العرب، توفي سنة ٣١٨.
وقاسم بن أصبغ (٢٤٧–٣٤٠) وهو فرد في النحو والغريب والشعر، وكانت إليه الرحلة بالأندلس كما كانت بالمشرق يومئذ لأبي سعيد بن الأعرابي.
ثم أبو عبد الله المعروف بابن خنيس، وكان كاتبًا بليغًا عالمًا باللغة والغريب والأخبار والتاريخ توفي سنة ٣٤٣.
ومحمد بن أصبغ المتفنن في العلوم من النحو واللغة والحساب والفرائض والشعر وغيرها، وتوفي سنة ٣٤٤.
وممن نبغ في القرن الرابع محمد بن أبان المتوفى سنة ٣٥٤، وكان فردًا في اللغة والعربية والأخبار والتواريخ، فكان مكينًا عند المستنصر.
وابن القوطية القرطبي إمام اللغة والعربية في زمنه، توفي سنة ٣٦٧.
وأبو بكر القرطبي المعروف بابن العريف النحوي، قيل إنه صنع لولد المنصور بن أبي عامر مسألة فيها من العربية ٢٧٢٠٩ أوجه، وتوفي سنة ٣٦٧.
والحسين بن الوليد من مؤدبي أولاد المنصور أيضًا، وهو شاعر أستاذ في الأدب إمام في العربية.
وأبو بكر الزبيدي الإشبيلي واحد عصره في النحو واللغة، وقد أدَّب ولد المستنصر، توفي سنة ٣٧٩.
وأحمد بن أبان بن سعيد صاحب شرطة قرطبة، الإمام في العربية واللغة صنَّف كتاب السماء والعالم في اللغة، مائة مجلد، وقد رأينا هذا الاسم في كتب أرسطاطاليس التي ذكرها ابن القفطي، وقال: هو أربع مقالات في الطبيعة نقله ابن البطريق (ص٣٠) وتوفي ابن أبان سنة ٣٨٢.
ومحمد بن عاصم النحوي من كبار الأدباء، توفي سنة ٣٨٢.
وقد أوردنا فيما سبق أسماء أكثر علماء القرن الخامس، ولكنا نذكر منهم هنا محمد بن سليمان المعروف بابن أخت غانم، وهو من أحفظ أهل زمانه للنحو واللغة، لا سيما كتب أبي زيد والأصمعي وتمام بن غالب بقية شيوخ اللغة الضابطين لحروفها الحاذقين بمقاييسها، وكان إمامًا فيها ثقة في إيرادها توفي سنة ٤٣٣.
وابن سيده صاحب كتاب المخصص وغيره، وهو فرد في اللغة والنحو متوفر على علوم الحكمة، توفي سنة ٤٥٩.
وغانم بن وليد المالقي المتوفى سنة ٤٧٠، وكان أهل الأندلس يعدون أئمة الأدب في ذلك الوقت ثلاثة: أبو مروان بن سراج بقرطبة، والأعلم الشنتمري بإشبيلية، وغانم هذا بمالقة، لكن زاد غانم عليهما بالفقه والحديث والطب والكلام، أما أبو مروان فهو الشاعر النحوي الإمام في الأدب، توفي سنة ٤٨٩، وكان الأعلم عالم اللغة والعربية والشعر، وقد توفي سنة ٤٧٦.
وممن ختمت بهم هذه المائة سراج بن عبد الملك بن سراج النحوي، كان يجتمع إليه أربعون وخمسون من مهرة النحاة، كابن أبي فرس، وابن الأبرش، وكلهم إليه مفتقرون، لوقوفه على مواد النحو وأشعار العرب ولغاتها وأخبارها، وقد توفي سنة ٥٠٨.
المائة السادسة
ثم كان من مشاهير القرن السادس محمد بن عبد المنعم أبو عبد الله السبتي من صور الحفاظ لم يستظهِر أحد في زمانه من اللغة ما استظهره، آية تتلى ومثالًا يُضرب، وقد امتاز عن سائرهم بأنه كان يعرب أبدًا كلامه.
وأبو محمد اللوشي البارع في الأدب والنحو واللغة والكتابة والشعر والخطابة، وقد أخذ أدباء عصرهم عن الثلاثة الذين مرَّ ذكرهم، وتوفي سنة ٥١٨.
وجعفر بن محمد بن مكي، وكان عالمًا باللغات والآداب، ذاكرًا لهما، معتنيًا بما قِبَله منهما ضابطًا لذلك، وعُني بهما العناية التامة، وجمع من ذلك كتبًا كثيرة كان له بها اليد الطولى الباسطة في علم اللسان.
وأبو الحسين بن الطراوة، نحوي ماهر وأديب بارع، يقرض الشعر وينشئ الرسائل البليغة، وله آراء في النحو تفرَّد بها وخالف فيها جمهور النحاة، وعلى الجملة كان مبرزًا في علوم اللسان كلها، وتوفي سنة ٥٢٨ عن سن عالية.
ومحمد بن يوسف المعروف بابن الاشتراكواني، المتوفى سنة ٥٣٨، كان لغويًّا أديبًا شاعرًا معتمدًا في الأدب فردًا في وقته، وهو صاحب المقامات اللزومية الشهيرة — وسيأتي ذكرها في موضعها — وقد اعتمد عليه أبو العباس بن مضاء في تفسير كامل المبرد لرسوخه في اللغة العربية.
والوزير ابن أبي الخصال (سنة ٤٦٥–٥٤٠) وكان على براعته في الفقه وصناعة الحديث والمعرفة برجاله والتقييد لغريبه، فردًا في اللغة والأدب والنسب والتاريخ، إمامًا متفقًا عليه، متحاكَمًا إليه في الكتابة والشعر، لم يكن في عصره مثله، حتى قال بعضهم إنه كان آخر رجال الأندلس علمًا وفهمًا وذكاءً وتفننًا في العلوم.
ومحمد بن أحمد أبو عامر الوزير الكاتب، كان لغويًّا أديبًا شاعرًا عارفًا بالتاريخ والأخبار، وهو من المؤلفين في ذلك كله، وكان موجودًا بعد سنة ٥٥٠.
وأبو العباس الجراوي المالقي المتوفى سنة ٥٦١، وكان على بلاغته في الشعر والكتابة من كبار النحاة والأدباء بالأندلس، درس هذين الفنين كثيرًا وأدَّب في آخر أيامه بني عبد المؤمن بمراكش.
وأبو بكر بن قبلال الأديب اللغوي الكاتب الشاعر النحوي الطبيب توفي سنة ٥٧٣.
وأبو بكر الإشبيلي المعروف بالخِدَبِّ أستاذ ابن خروف قريبًا من سنة ٥٨٠، وكان من حُذَّاق النحويين وأئمة المتأخرين، يُرحل إليه في العربية، واشتهر بكتاب سيبويه وطرره المدوَّنة عليه. والخدب: الرجل الطويل.
ومحمد بن جعفر المرسي الأديب الكاتب النحوي الذي كان إليه المرجع في إيضاح مبهم الكتب وفتح أقفالها، توفي سنة ٥٨٧.
وداود بن يزيد الغرناطي المتوفى سنة ٥٧٣، كان يُقرئ العربية واللغة والأدب، وهو عالي المرتبة في ذلك رفيع الطبقة، قيل فيه: إنه كان آخر النحاة بغرناطة.
وعبد الرحمن بن محمد المعروف بالمكناسي، المتفنن في ضروب الآداب واللغات، الحافظ لأيام العرب وفرسانها، الكاتب البارع الشاعر البليغ، واشتهر بعمل المقامات خصوصًا اللزومية منها — وسيأتي ذكره في بحث الصناعات اللفظية — توفي سنة ٥٩١.
وقاضي الجماعة أبو العباس الجياني القرطبي، كان من أصحاب الآراء في العربية وخالف فيها جمهور أهلها، وكان رحلة في الرواية وعقلًا في الدراية، عارفًا بالأصول والكلام والطب والحساب والهندسة، شاعر بارع كاتب بليغ، وتوفي سنة ٥٩٢.
وأحمد القرطبي المشهور بالوزغي، المبرز في العربية والأدب، شاعر راوية مكثر، وتوفي سنة ٦١٠.
وأبو الحسن بن خروف، إمام العربية في زمنه، وهو أحد الذين مُلئت كتب العربية بأسمائهم، وتوفي سنة ٦٠٩، وهو على التحقيق خاتمة هذا العصر.
المائة السابعة
كان في أوَّل هذه المائة، أبو بكر الإشبيلي المعروف بابن طلحة، وهو شاعر أديب إمام في العربية والكلام، توفي سنة ٦١٨.
وأبو العباس الشريشي صاحب الشروح الثلاثة على مقامات الحريري، وقد طبع منها الشرح الكبير، وهو أديب مبرز في العربية ذاكر للآداب، كاتب بليغ فاضل ثقة، توفي سنة ٦١٩.
وأبو العباس الإشبيلي المعروف بابن الحاج، وكان متحققًا بالعربية حافظًا للغات مقدمًا في العروض، وقد برع في لسان العرب حتى لم يبقَ فيه من يفوقه أو يدانيه، وهو الذي كان يقول: إذا مت يفعل ابن عصفور في كتاب سيبويه ما شاء! كأنه يرى نفسه خلفًا من سيبويه، وقد مات سنة ٦٤٧.
وأبو يحيى محمد بن رضوان الوادي آشي، وكان مضطلعًا بالعربية والفقه والنسب، إمامًا في ذلك، مشاركًا في علوم أخرى من الحساب والهيئة والهندسة وغيرها، وتوفي سنة ٦٥٧.
وأبو علي الإشبيلي المعروف بالشَّلَوبين — ويخطئ النحاة المتأخرون كثيرًا في ضبط هذا اللقب — إذ يلفظونه بضم اللام — وقد ضبطه السيوطي، وقال: إن معناه (بلغة الأندلس: الأبيض الأشقر) وإلى أبي علي هذا انتهت إمامة العربية بالمشرق والمغرب، فكان آخر أئمة هذا الشأن، وكان مع ذلك نقَّادًا للشعر بصيرًا بمعانيه، وقد أقرأ نحو ستين سنة، حتى لم يتأدب بالأندلس أحد في وقته إلا وأسند إليه مباشرةً أو بواسطة، وتوفي سنة ٦٤٥ وكان مولده سنة ٥٦٢.
وأبو المطرف المخزومي البلنسي وهو خزانة من خزائن العلوم، كان إمامًا في الفقه عالمًا بالمعقولات والنحو واللغة والأدب والطب، متبحرًا في التاريخ والأخبار، بصيرًا بالحديث، روايةً مكثرًا حجة، ناظمًا ناثرًا، يعدُّونه ثاني بديع الزمان في الكتابة، وتوفي سنة ٦٥٩.
وعبد الله بن أبي عامر الكاتب الشاعر الأديب النحوي اللغوي الفقيه المشارك في العلوم، وقد توفي سنة ٦٦٦.
وابن الدباغ الإشبيلي، وهو على انفراده في ذلك العصر يحفظ مذهب مالك، كان عالمًا بالنحو واللغة كاتبًا شاعرًا مؤرخًا، توفي سنة ٦٦٨.
وأبو الحسن بن عصفور، وهو وإن كان لم يكن عنده ما يؤخذ عنه غير النحو إلا أنه كان فيه كوكب سمائه وحامل لوائه، ولا يزال اسمه خالدًا في كتب هذا الفن، توفي سنة ٦٦٩.
وكان خاتمة أدباء هذا العصر حازم بن محمد القرطبي، شيخ البلاغة والأدب، وأوحد زمانه في النظم والنثر والنحو واللغة والعروض والبيان، لم يجمع أحد من علم اللسان ما جمع، ولا أحكم من معاقد البيان ما أحكم، وكانت له يد في العقليات، وذكروا أنه روى عن جماعة يقاربون ألفًا، بين أديب وعالم وحكيم، وقد حوى جملة التاريخ في هذه المائة؛ لأنه ولد سنة ٦٠٨ وتوفي سنة ٦٨٤.
نكت الأندلسيين
وكان في هذه المائة الفقيه أبو الحجاج يوسف بن محمد البَيَّاسي المؤرخ الشاعر الأديب، ولم نقف على سنة وفاته. وقد عُني أتم العناية بفرع لطيف من العلم هو أدب التاريخ، فكان يحفظ نكت الأندلسيين قديمًا وحديثًا إلى زمنه، ذاكرًا لفكاهاتهم؛ وهم أكثر الناس دعابة وأملحهم نادرة، خرجوا في ذلك صنائع إقليمهم فكأنهم أزهار طبيعتها الحساسة، تقابل أزهار الطبيعة الساكنة.
المائة الثامنة
وهي بقية مجد الأندلس، لأن القرن التاسع كان حشرجة ونزعًا، وهذه المائة شحيحة بالأئمة عقيمة بالأفراد، وقد أخذنا من فحولها ثلاثة غير من ذكرناهم من قبل في أدبائها، وهم:
محمد بن علي بن هانئ اللخمي، كان أديبًا إمامًا في العربية لا يشق غباره في استحضار الحجج، وهو صاحب كتاب «الغرة الطالعة في شعراء المائة السابعة»، وتوفي سنة ٧٣٣.
وأثير الدين أبو حيان الأندلسي الغرناطي نحوي عصره، ولغويَّه ومفسِّره ومحدثه ومقرئه ومؤرخه وأديبه، وكان الإمام المطلق في النحو والتصريف، خدم هذا الفن أكثر عمره حتى صار لا يدركه أحد في أقطار الأرض، وتوفي سنة ٧٤٥.
ومحمد بن علي المعروف بابن الفخار كان سيبويه عصره، وعدَّه لسان الدين في الإحاطة آخر الطبقة من أهل هذا الفن، وقال فيه: إنه متبحر الحفظ يتفجَّر بالعربية تفجُّر البحر، وقد خالطت لحمه ودمه، لا يشكل عليه منها مشكل، ولا يعوزه توجيه، ولا تشذ عنه حجة … وقلَّ في الأندلس من لم يأخذ عنه من الطلبة، وتوفي سنة ٧٥٤.
(٣) كلمة في تراجم هذا البحث
وبعدُ، فإنا لم نورد هذه الأسماء لأنها أسماء فقط؛ إذ ليس كتابنا هذا من سجلات الإحصاء، وإنما أوردناها على أنها معاني ذلك التاريخ، يظهر منها سير الفنون والعلوم إلى كمالها، فإن قيمة العصر بمن يمتازون من أهله، وعلى حسب كثرتهم وقلتهم يكون وزن اعتباره ومنزلته من المقارنة بينه وبين سائر العصور، وإنما الدولة أمة، والأمة على مقدار الرءوس التي تعمل لها، وهذه الرءوس على مقدار العقول التي تضبطها، وتلك العقول على مقدار الأرواح التي تتميز بالاستئثار والزعامة في أصول الحضارة وفروعها، وما هذه الأرواح الكبيرة إلا أرواح النابغين.
من أجل ذلك أسقطنا من هذه الترجمة التي سقناها في هذا البحث كثيرين ممن لم يتحققوا بالفنون، واقتصرنا على الأئمة والأقطاب، وما منهم إلا من تكتب في ترجمته الأسطر الكثيرة على تحرِّي الإيجاز ومعاناة الاختصار، وهذا إذا لم تبسط تلك الترجمة بسطًا يتناول حالة النشأة العلمية وكهولتها في كل مترجم، وذلك بدرس المذاهب والآراء، وإيراد الشواهد عليها من مواد العلوم المختلفة، وهو منزع بعيد الشقة يحتاج إلى مصابرة ومطاولة، ويخرج إلى أن يكون كتابًا برأسه.
ونحن إنما عُنينا بما جئنا به في هذا البحث خاصةً؛ لأن أكثر العلماء والأدباء أهملوا الأندلسيين وخلطوا مشاهيرهم بغيرهم، غير مميزين بين عصر وعصر، ولا مفرقين بين طبقة وطبقة، واقتصروا مع ذلك على أفراد منهم لا تكافئ جملتهم حضارة تلك الأمة، ولا يستدل بها على شيء من ذلك المجد فأردنا أن نثير تلك الدفائن، ونفتح من كنوز التاريخ تلك الخزائن، وجملة من ذكرناهم تكشف أشعتهم عن ذلك النور الذي غطته ظلمات التاريخ من الجو العربي فألقت عليه سحابة من النسيان، وتركته قطعة مظلمة كأنه من مهملات الزمان.