الصناعات
مرَّ بك من أمر الصناعتين في النظم والنثر ما تستخرج منه تاريخ الارتقاء في الكلام وتعرف به مدلوله؛ إذ يعطيك من حوادثه الأدبية ما تعطيك الحوادث المادية من القياس الذي تُضبَط به النتائج وتجتمع الحدود، ولا بد لمن أراد أن يستقرئ حوادث الانحطاط من معرفة تاريخ الارتقاء؛ لأنه ضدٌّ معلق على ضده، فلا تنحط الأمة حتى تكون قد ارتقت.
والارتقاء في كل شيء إنما هو تغيُّر في مادته على مقادير تعطيه من القوة بنسبة الزيادة في ذلك التغيُّر في مجموعه؛ فالطفل يرتقي بتغيُّر مادة جسمه إلى مقادير القوة حتى يصير رجلًا، ولكن إذا أخذ جسمه في النماء والزيادة وأخذت حاسة من حواسه في النقص والانحطاط، لم يكن ذلك النماء في مجموعه ارتقاءً مطلقًا، بل احتاج أن يفصل فيه.
وكذلك الشأن في هذه الصناعات الأدبية، فإنها ليست في مجموع اللغة ارتقاءً ولا انحطاطًا، وإنما يوصف كل جنس منها بأثره، فإنك إذا نظرت إلى أن من أنواع البديع ما يورث اللغة حسنًا في الألفاظ، وحلاوة في مخارج الكلام، حتى تحول في العيون عن مقادير صورها، وتربي على حقائق أقدارها بمقدار ما زينت وعلى حسب ما زخرفت، وحتى تكون هذه الزيادة بعينها فيما لها من قوة الهوى والتعشق، وأن تلك الأنواع تقتضي الكاتب أو الشاعر لطافة الحيلة وحسن التأتي وتمكين الأسباب ونحو ذلك مما هو أدخل في باب التكلف — لم يَجُز لك أن تعُدها في اللغة إلا من أسباب الارتقاء؛ لأن اللغة لم تقع لأهلها على الكفاية في كل شيء، وإنما سبيلها تحوُّل المادة وتغيُّر القوة في كل عصر.
وإذا نظرت إلى أن من أنواع البديع أيضًا ما يكسب اللغة هجنة ويلحقها بضروب الصناعات والحرف، ويصير بها إلى حال مضيعة وكلال، وهو على ما يقتضيه من الكد والاستكراه وكثرة التكلف زينة عاطلة وفتنة باطلة، وأن هذه الأنواع مصائد للأقلام وحصائد للألسنة — لم يجُز لك أن تحتسبها في اللغة إلا من أسباب الانحطاط؛ لأنها وإن كانت زيادة في المادة إلا أنها نقص في القوة، فمثلها مثل ما يزيد في الجسم من الأمراض كالسرطان وغيره.
وكان انتشار الصناعات من ابتداء القرن السادس، وظلت إلى أواخر القرن التاسع — وهو زمن سقوط الأندلس — لا تستبد بالأدب وإن كان لها عليه في بعض ذلك سلطان؛ لأن أفراد الكتَّاب والشعراء الذين نبغوا في تلك الأيام لم يكونوا يتناولون منها إلا على سنة التملح والظرف، كأهل القرن الرابع، فكانت فضلًا من القوة، ولا حساب على الفضل، حتى إن صفيَّ الدين الحلي لما دخل إلى مصر في سنة ٧٢٦ أنشده الصاحب شمس الدين بن السندي أبيات سليم الهوى المصغَّرة ألفاظها التي أولها:
واحتال للمدح احتيالًا لطيفًا، فلم يذكر صفات الممدوح ولكنه ذكر عطفه عليه وصغَّر نفسه ووصف حُساده وصغرهم، فكان هذا التصغير مضمَّنًا معنى التعظيم، وخلص بذلك إلى ما أراد، والقصيدة على عقدها لا تغض من قدر الصفي؛ لأنها في سبيل ما وصفنا، والرجل مع ذلك أنبغ المتأخرين في جملة الصناعات بعد الحريري.
ولكنهم ورَّثوها للخلف العاق فتجاوزوا إليها حقائق المعاني وتعبدوا للألفاظ، وساعدتهم أحوال الزمان، فكان الواحد منهم إذا نظم قصيدة أو كتب رسالة فتح بقلمه قبرًا من قبور اللغة، ولم تزل تلك حالهم حتى انتصف القرن الثالث عشر، فأخذت تلك الجراثيم تضعف ثم تقل ثم تتلاشي، إلى النهضة الحديثة، فماتت إلا في بعض زوايا المساجد وبقيت في الزوايا خبايا.
وإنما حملنا على الاهتمام بهذا البحث والصبر على مطاولة التعب في جمعه والتفتيش عنه، أن هذه الصناعات قد طُوِي زمنها ومات شأنها أو دنف بعد هذه الآونة الأخيرة التي نهضت بها اللغة وآدابها، وانصرف أهلها إلى غير هذا التسخير في القرائح، فلا تكاد تجد في أدباء اليوم من يعرف تأريخ نوع واحد منها؛ وإذا ابتعد الزمن بعصرنا هذا أصبحت في الأدب كالآثار المستعجمة، إلا قليلًا مما استوعبت الكتب بعض تاريخه.
وقد برع أدباء اللسانين الفارسي والتركي في هذه الأنواع وفاقوا العرب في أشياء منها، ومن أعجب ما قرأته أن علاء الدين بن شمس الدين الفقازي من علماء الروم المتوفى سنة ٩٠٣ كان يقرئ تلامذته شرح المطول في علوم البلاغة، فلما انتهوا إلى فن البديع صار يورد لكل صنعة عدة أبيات من الفارسية، قالوا: وكان يقرءون كل يوم من الضحوة إلى العصر سطرًا أو سطرين، فلما طال عليهم ذلك قال لهم: هذه قراءة الكتاب فاقرءوا الفن، وصار يُقرئهم كل يوم ورقتين وذلك علم كثير.
وسنأتي على شرح ما عثرنا عليه من الصناعات وتأريخه على مقدار ما وسعه الجهد وبلغ إليه الاطلاع ومكنت منه الفرصة، وإن هذا المبحث لحقيق أن يكون كتابًا برأسه، ولكنه فضلًا عن ذلك لم يجتمع إلى الآن في كتاب.
وقد كان يقع في هذا الفصل كلام في مقارنة هذه الصناعات بعضها ببعض ونسبة أثرها في اللغة وأشياء نحو ذلك، ولكنا سنفرقه على مواضعه ونجيء به عند مقاطعه.