صناعات مختلفة
لسنا نزعم أننا بما أتينا على بيانه من هذه الصناعات قد استوفينا هذا البحث وتركناه في حكم المفروغ منه، ولكنا إنما جئنا بأشياء استخرجناها من زوايا النسيان، ونفضنا عنها غبار القِدم، وأحصيناها من صحف التاريخ إحصاءَ الحسنات والسيئات، وزوايا النسيان مظلمة، وغبار القِدم متجحِّر، وصحف التاريخ لا تعدُّ وما عسى أن يسمَّى هذا العناءُ الناصب إلا بحثًا، بل ما عسى أن يكون البحث غير ذلك، فإذا كانت الأيام قد طوت بعض الصناعات في صدور أصحابها، أو ذهبت النكبات بآثارهم، أو قطع الإهمال عرق التاريخ في بعض هذه الآثار حتى أصبح لا يعرف أصله، ولا كيف نشأ وتقلب — فليس ذلك مما يلحق المؤرخ تبعة التقصير فيه، إذ هو إنما يستنطق الآثار، ويتعلق بالأخبار، فأما أن ينقب السماء ويدخل منها إلى الماضي ويبحث فيه عن الغيب ويحدس ويتكهَّن، فذلك شيء غير التاريخ.
ومن أجل هذا رأيت قلمي أصبح يطلب الوقوف بعد أن وصل إلى الصحيفة التي لا يجري فيها إلا قلم الغيب. وسنشير فيما يلي إلى ما بقي من الصناعات التي انقطع دونها التاريخ وكانت دليلًا على غيرها مما انقطع عنا بتاريخه، إن كان ثمَّت من هذا شيءٌ أو أشياء.
المشجر
هو نوع من النظم يُجعل في تفرعه على أمثال الشجرة — وسُمِّي مشجرًا لاشتجار بعض كلماته ببعض، أي تداخلها، وكل ما تداخل بعض أجزائه في بعض فقد تشاجر — وذلك أن يُنظم البيت الذي هو جذع القصيدة، ثم يُفَرَّع على كل كلمة منه تتمة له من نفس القافية التي نُظم بها، وهكذا من جهتيه اليمنى واليسرى، حتى يخرج منه مثل الشجرة، وإنما يشترط فيه أن تكون القطع المكملة كلها من بحر البيت الذي هو جذع القصيدة، وأن تكون القوافي على رويِّ قافيته أيضًا؛ وهو متأخر عن القرن الحادي عشر؛ إذ مر بك في مبحث التشطير أن أدباء ذلك القرن كانوا يسمونه بالمشجَّر هذا النوع المعروف اليوم بالمطرز، ولا تحضرنا في ذلك أمثلة جيدة نرضاها للتمثيل.
ولعل أخذ هذه التسمية مما يسمونه بشجرة النسب، إذ هما متشابهان في الوضع متفقان على الجملة في الترتيب، وهذه الكلمة (شجرة النسب) كانت مستعملة في القرن الرابع وما بعده، بدليل وجود بعض كتب في الأنساب مسماة بهذا الاسم (راجع فهرست المكتبة الخديوية).
المقطع والموصل
ومعنى الأول أن تكون كلمات المنظومة كلها منفصلة الأحرف رسمًا، وهو بخلاف الثاني، فإن جميع أحرفه ينبغي أن تكون متصلة بعضها ببعض في كل كلمة، ولم نر من ذلك شيئًا لغير الصفي الحلي، فربما كان أول من خصصه بالنظم وربما كان متابعًا، وعلى أيهما فذلك من عبث الصناعة؛ ومثل الموصل قول الصفي:
وهي ثلاثة أبيات تدور في جملتها على هذه الأحرف؛ لأن الحروف التي تُرسم منفصلة معدودة؛ ومثال الثاني قوله:
وجميعها سبعة أبيات، وكل ذلك في ديوانه.
المصحفات
هذا نوع يلحق بالصناعات؛ لأن المدار فيه على القصد والتعمل، فتجيء بالألفاظ توهِم المدح، فإذا صُحِّفت خرجت ذمًّا وقدحًا، كما تقول: هو كاتب أمين فإذا صحَّفته قلتَ هو كاذب أفين، مثلًا، فذلك كالهجو في معرض المدح الذي يعرفه البديعيون، وهو من مستخرجات ابن أبي الإصبع، ولكن ذلك في الألفاظ بما يدل ظاهرها وباطنها باعتبار مواقعها في الكلام لا غير.
وقد ينظمون الأبيات إذا قرئت صدورها وأعجازها كانت مدحًا، فإذا أفردت الصدور خرجت منها أبيات في الذم، وأبياتًا أخرى إذا قُرئت معكوسة الألفاظ كانت هجاءً وهي في طردها مديح.
ولم نعثر من نوع المصحفات على شيء من النظم، بل لم نهتدِ إلى أنه من الصناعات إلا بكلمة صاحب الشقائق التي أوردناها، وهو رجل كان لا يحفل بحياة التاريخ فأماته في كتابه؛ لأنه قلما ترجم إلا الأسماء والصفات الجامدة، فكأن كتابه بعد عصره إنما يترجم الموتى للموتى، فإنه لم يذكر في ترجمة شمس الدين — على أنه من أفراد الموسيقى ومن عجائب المصنِّعين — إلا أسطرًا، وكذلك شأنه في غيره، وأين من ذلك حقيقة التاريخ؟