الإسلام
مضى على مولد السيد المسيح نحو ستة قرون قبل ظهور الإسلام، تشعبت في خلالها المذاهب المسيحية بين قائل بطبيعة واحدة للسيد المسيح وقائل بطبيعتين اثنتين: هما الإنسانية والإلهية، وبين مؤلِّه للسيدة مريم ومنكر لهذا التأليه، وبين مفسر لبنوة السيد المسيح بأنه ابن الله ولكنها بنوة على المجاز بمعنى القرب والإيثار على سائر المخلوقات، وقائل بأن السيد المسيح هو ابن الله على الحقيقة التي يفهمها المؤمن على نحوٍ يليق بالذات الإلهية.
وتسربت هذه المذاهب جميعًا إلى الجزيرة العربية مقرونة بالبراهين الجدلية التي يستدل بها كل فريق على صحة تفسيره وبطلان تفسير معارضيه، وكان كثير من تلك البراهين مستمدًا من المنطق ومذاهب حكماء اليونان، فإن أوريجين ونسطور وآريوس أصحاب الآراء الفلسفية واللاهوتية التي جاءت بها الفرق المختلفة كانوا من المطلعين على الفلسفة الإغريقية والملمين على التخصيص بآراء هيرقليطس وأفلاطون وأرسطو وزينون.
وقد عرف العرب أطرافًا من هذه المذاهب بعد هجرة المهاجرين منهم إلى العراق وسورية وفلسطين، كما عرفوها بعد هجرة المهاجرين إلى بلادهم من رهبان تلك الأمم وتجارها وسائحيها، وهم غير قليلين.
وتسربت مذاهب اليهودية قبل ذلك إلى أنحاء الجزيرة العربية، ولم تزل تتسرب إليها بعد ظهور المسيحية واحتكاك اليهود بالنصارى في جوانب الدولة الرومانية، وكانت لليهود مذاهب في الدين تمتزج بالفلسفة حينًا وبالتأويلات اللاهوتية حينًا آخر، على مثال الامتزاج بين مذاهب المسيحية وأقوال الفلاسفة واللاهوتيين.
وكانت جزيرة العرب على اتصالٍ لا ينقطع بالفرس ومن جاورهم من أمم المشرق ولا سيما في بلاد البحرين وبلاد اليمن على الشواطئ وفي داخل الصحراء العامرة، فنقل الفرس إلى تلك الأصقاع هياكل النار وعبادة الكواكب وغيرها من بقايا الديانة المجوسية.
ولم يتلق العرب النصرانية من مصدرٍ واحد أو من مصدر الشمال دون غيره، فقد كانت للحبشة نصرانية ممزوجة بالوثنية التي تخلفت من عقائدها الأولى، وكان يهود الحبشة على شيء من الوثنية يختلط بعقائد المجوس وعقائد الأحباش والعرب الأقدمين.
ودان قليل من العرب بهذه الديانات على أوضاعها الكثيرة التي يندر فيها الإيمان بالوحدانية الخالصة وعقيدة التنزيه والتجريد. أما الأكثرون منهم فكانوا يعبدون الأسلاف في صور الأصنام أو الحجارة المقدسة، وكانوا يحافظون على هذه العبادة السلفية كدأب القبائل جميعًا في المحافظة على كل تراث من الأسلاف ولكنهم كانوا يعرفون «الله» ويقولون أنهم يعبدون الأصنام ليتقربوا بها إلى الله.
فلما ظهر الإسلام في الجزيرة العربية كان عليه أن يصحح أفكارًا كثيرة لا فكرة واحدة عن الذات الإلهية، وكان عليه أن يجرد الفكرة الإلهية من أخلاطٍ شتى من بقايا العبادات الأولى وزيادات المتنازعين على تأويل الديانات الكتابية.
فإذا كانت رسالة المسيحية أنها أول دين أقام العبادة على «الضمير الإنساني» وبشر الناس برحمة السماء — فرسالة الإسلام التي لا التباس فيها أنها أول دين تمم الفكرة الإلهية وصححها مما عرض لها في أطوار الديانات الغابرة.
فالفكرة الإلهية في الإسلام «فكرة تامة» لا يتغلب فيها جانب على جانب، ولا تسمح بعارضٍ من عوارض الشرك والمشابهة، ولا تجعل لله مثيلًا في الحس ولا في الضمير، بل له الْمَثَلُ الْأَعْلَىٰ وليس كمثله شيء.
فالله وحده لَا شَرِيكَ لَهُ، وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْك، فَتَعَالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ.
والمسلمون هم الذين يقولون: مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللهِ، وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا.
ويرفض الإسلام الأصنام على كل وضع من أوضاع التمثيل أو الرمز أو التقريب.
ولله المثل الأعلى من صفات الكمال جمعاء، وله الأسماء الحسنى، فلا تغلب فيه صفات القوة والقدرة على صفات الرحمة والمحبة، ولا تغلب فيه صفات الرحمة والمحبة على صفات القوة والقدرة، فهو قادر على كل شيء وهو عزيز ذو انتقام، وهو كذلك رحمن رحيم وغفور كريم، قد وسعت رحمته كل شيء، ويَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ.
وهو الخلاق دون غيره وهَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللهِ.
فليس الإله في الإسلام مصدر النظام وكفى، ولا مصدر الحركة الأولى وكفى، ولكن اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ وإِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ، وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ.
ومن صفات الله في الإسلام ما يعتبر ردًا على «فكرة الله» في الفلسفة الأرسطية كما يعتبر ردًا على أصحاب التأويل في الأديان الكتابية وغير الكتابية.
فالله عند أرسطو يعقل ذاته ولا يعقل ما دونها، ويتنزه عن الإرادة؛ لأن الإرادة طلب في رأيه والله كمال لا يطلب شيئًا غير ذاته، ويجل عن علم الكليات والجزئيات؛ لأنه يحسبها من علم العقول البشرية، ولا يعني بالخلق رحمة ولا قسوة؛ لأن الخلق أحرى أن يطلب الكمال بالسعي إليه.
ولكن الله في الإسلام عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ولَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ وهو بكل خلق عليم وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ، وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا، أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ، عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ.
وهو كذلك مريد وفعال لما يريد. وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ ۚ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا ۘ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ وفي هذه الآية رد على يهود العرب بمناسبة خاصة تتعلق بالزكاة والصدقات كما جاء في أقوال بعض المفسرين، ولكنها ترد على كل من يغلُّون إرادة الله على وجه من الوجوه، ولا يبعد أن يكون في يهود الجزيرة من يشير إلى رواية من روايات الفلسفة الأرسطية بذلك المقال.
وقد أشار القرآن الكريم إلى الخلاف بين الأديان المتعددة، فجاء فيه من سورة الحج إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَىٰ وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۚ إِنَّ اللهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ وأشار إلى الدهريين فجاء فيه من سورة الأنعام: وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ وجاء فيه من سورة الجاثية: وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ ۚ وَمَا لَهُم بِذَٰلِكَ مِنْ عِلْمٍ ۖ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ.
فكانت فكرة الله في الإسلام هي الفكرة المتممة لأفكار كثيرة موزعة في هذه العقائد الدينية وفي المذاهب الفلسفية التي تدور عليها، ولهذا بلغت المثل الأعلى في صفات الذات الإلهية، وتضمنت تصحيحًا للضمائر وتصحيحًا للعقول في تقرير ما ينبغي لكمال الله، بقسطاس الإيمان وقسطاس النظر والقياس.
ومن ثم كان الفكر الإنساني من وسائل الوصول إلى معرفة الله في الإسلام، وإن كانت الهداية كلها من الله: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ، وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ.
ومجمل ما يقال في عقيدة الذات الإلهية التي جاء بها الإسلام أن الذات الإلهية غاية ما يتصوره العقل البشري من الكمال في أشرف الصفات.
فالله هو الْمَثَلُ الْأَعْلَىٰ.
وهو الواحد الصمد الذي لا يحيط به الزمان والمكان وهو محيط بالزمان والمكان وهُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ، وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ.
وقد جاء الإسلام بالقول الفصل في مسألة البقاء والفناء، فالعقل لا يتصور للوجود الدائم والوجود الفاني صورة أقرب إلى الفهم من صورتهما في العقيدة الإسلامية؛ لأن العقل لا يتصور وجودين سرمديين، كلاهما غير مخلوق، أحدهما مجرد والآخر مادة، وهذا وذاك ليس لهما ابتداء وليس لهما انتهاء.
ولكنه يتصور وجودًا أبديًّا يخلق وجودًا زمانيًّا، أو يتصور وجودًا يدوم ووجودًا يبتدئ وينتهي في الزمان.
وقديمًا قال أفلاطون — وأصاب فيما قال — إن الزمان محاكاة للأبد؛ لأنه مخلوق والأبد غير مخلوق.
فبقاء المخلوقات بقاء في الزمن، وبقاء الخالق بقاء أبدي سرمدي لا يحده الماضي والحاضر والمستقبل؛ لأنها كلها من حدود الحركة والانتقال في تصور أبناء الفناء، ولا تجوز في حق الخالق السرمدي حركة ولا انتقال.
فالله هو الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ، وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وكُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ.
ولا بقاء على الدوام إلا لمن له الدوام ومنه الابتداء وإليه الانتهاء.
وقد تخيل بعض المتكلمين في الأديان أن هذا التنزيه البالغ يعزل الخالق عن المخلوقات، ويبعد المسافة بين الله والإنسان.
وإنه لوهم في الشعور وخطأ في التفكير.
لأن الكمال ليست له حدود، وكل ما ليست له حدود فلا عازل بينه وبين موجود، وفي القرآن الكريم: وَللهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ۚ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ، وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ.
ولا شك أن العالم كان في حاجة إلى هذه العقيدة كما كان في حاجة إلى العقيدة المسيحية من قبلها، وتلقى كلتيهما في أوانه المقدور.
فجاءه السيد المسيح بصورةٍ جميلة للذات الإلهية.
وجاءه محمد عليه السلام بصورة «تامة» في العقل والشعور.
وربما تلخصت المسيحية كلها في كلمة واحدة هي الحب.
وربما تلخص الإسلام في كلمة واحدة هي «الحق.»
ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ، إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا، فَتَعَالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ، قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِن قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ.
ومن ملاحظة الأوان في دعوات الأديان أن المسيحية دين «الحب» لم تأت بتشريعٍ جديد، وأن الإسلام دين «الحق» لم يكن له مناص من التشريع.
فما كان الناس عند ظهور المسيح بحاجةٍ إلى الشرائع والقوانين؛ لأن شرائع اليهود وقوانين الرومان كانت حسبهم في أمور المعاش كما يتطلبها ذلك الزمان، وإنما كانت آفتهم فرط الجمود على النصوص والمراءاة بالمظاهر والأشكال، فكانت حاجتهم إلى دين سماحة ودين إخلاص ومحبة، فبشرهم السيد المسيح بذلك الدين.
ولكن الإسلام ظهر وقد تداعى ملك الرومان وزال سلطان الشرائع الإسرائيلية، وكان ظهوره بين قبائل على الفطرة، لا تترك بغير تشريع في أمور الدنيا والدين يزعها بأحكامه في ظل الحكومة الجديدة، ويوافق أطوارها كلما تغيرت مواطنها ومواطن الداخلين في الدين الجديد، والعبرة بتأسيس المبدأ في حينه، ولم يكن عن تأسيس المبدأ في ذلك الحين من محيد.
وإذا بقي الإيمان بالحق فقد بقي أساس الشريعة لكل جيل، وفي كل حال.