براهين وجود الله
في رأينا أن مسألة وجود الله مسألة «وعي» قبل كل شيء.
فالإنسان له «وعي» يقيني بوجوده الخاص وحقيقته الذاتية، ولا يخلو من «وعي» يقيني بالوجود الأعظم والحقيقة الكونية؛ لأنه متصل بهذا الوجود، بل قائم عليه.
والوعي والعقل لا يتناقضان، وإن كان الوعي أعم من العقل في إدراكه؛ لأنه مستمد من كيان الإنسان كله، ومن ظاهره وباطنه، وما يعيه هو وما لا يعيه، ولكنه يقوم به قيامًا مجملًا محتاجًا إلى التفصيل والتفسير.
ونحن نخطئ فهم العقل نفسه حين نفهم أنه مقصور على ملكة التحليل والتجزئة والتفتيت، وأنه لا يعمل عمله الشامل إلا على طريقة التقسيم المنطقي وتركيب القضايا من المقدمات والنتائج وإثباتها بالبراهين على النحو المعروف.
فالعقل موجود بغير تجزئةٍ وتقسيم.
وهو في وجوده ملكة حية تعمل عملًا حيًّا ولا يتوقف عملها على صناعة المنطق وضوابطه في عرف المنطقيين.
وهو في وجوده هذا يقول: «نعم» ويقول: «لا» ويحق له أن يقولهما مجملتين في المسائل المجملة على الخصوص.
وقد يخطئ القول في بعض الأشياء ولا يضمن الإصابة في كل شيء، ولكن الخطأ ينفي العصمة الكاملة ولا ينفي الوجود، فقد يكون العقل المجمل موجودًا عاملًا وهو غير معصوم عن الخطأ الكثير أو القليل، ولن يقدح ذلك لا في وجوده ولا في صلاحه للتفكير؛ لأن «التقسيم المنطقي» يخطئ أيضًا كما يخطئ العقل المجمل في أحكامه المجملة، ولا يقال من أجل ذلك إن التقسيم المنطقي غير موجود أو غير صالح للتفكير.
فإذا قالت البداهة العقلية: «نعم. هناك إله» فهذا القول له قيمة في النظر الإنساني لا تقل عن قيمة المنطق والقياس؛ لأنها قيمة العقل الحي الذي لا يرجع المنطق والقياس إلى مصدر غير مصدره أو سند أقوى من سنده، وقد كان العقل المجمل أبدًا أقرب إلى الإيمان أو أقرب إلى قولة «نعم» في البحث عن الله، ولم يستطع التقسيم المنطقي أن يقول: «لا» قاطعة مانعة في هذا الموضوع.
ويبقى بعد ذلك أن «الوعي» أعم من العقل المجمل وأعمق منه وأعرق في أصالة وجوده مع الحياة الإنسانية منذ نشأتها الأولى، ونعتقد أن الوعي الكوني المركَّب في طبيعة الإنسان هو مصدر الإيمان بوجود الحقيقة الكبرى التي تحيط بكل موجود.
وللإنسان وعي بما في الكون من جمال، وله وعي بما فيه من نظام، وله وعي بما فيه من أسرار وألغاز وغيوب، فإذا احتجب الجمال عن أناس وأسفر لأناس آخرين فليس ذلك بقادحٍ في وجوده أو صدق الإحساس بمعانيه، وإذا تناسقت البدائِهُ «الرياضية» والنظم الكونية في بعض العقول فليس يقدح في هذا النسق أنه مضطرب أو مفقود في غيرها من العقول، وإذا خيل إلى فريق من البشر أن هذا الكون السرمدي خلو من الأسرار والغيوب فليس لهذا الفريق حق الاستئثار بالتصديق دون الفريق الذي يستشعر تلك الأسرار والغيوب ويبادلها المكاشفة والمناجاة، وليست «لا» أحق بالتصديق من «نعم» لأنها إنكار؛ إذ إن الإنكار في المسائل السرمدية هو الادعاء الذي يطالب صاحبه بالدليل، وما زالت صورة الكمال المطلق مقترنة بصورة الحقائق السرمدية في بدائه العقول، فالذي يقول إن الحقيقة السرمدية الكبرى يمكن أن تكون قاصرة في هذه الصفة أو يمكن أن يتخيلها العقل بغير كمال وإطلاق فهو الذي يدعي ما يناقض البدائه ولا يقوم عليه دليل.
ونحن إذا رجعنا إلى تاريخ الإيمان في بني الإنسان وجدنا أن اعتماده على «الوعي» الكوني أعظم جدًّا من اعتماده على القضايا المنطقية والبراهين العقلية، وأنه أقوى جدًّا من كل يقين يتأتَّى من جانب التحليل والتقسيم، ولم تكن الفلسفة نفسها في عصورها القديمة معنية بإقامة البراهين على وجود الله للإقناع بعقيدة والتوسل إلى إيمان، وإنما كان الكلام في وجود الله عند الفلاسفة الأقدمين من قبيل الكلام على مباحث العلوم وتفسير الظواهر الطبيعية، فأرسطو مثلًا لم يثبت وجود الله ليقنع به منكرًا يدين بالكفر والإلحاد، ولكنه أثبته لأن تفسيره لظواهر الكون لا يتم بغير هذا الإثبات، ولم يحاول أن يقنع به أحدًا في زمانه على طريق التدين والإيمان.
فليس وجود الله عند أرسطو وأمثاله مسألة دينية أو مسألة غيبية يختلف الأمر فيها بين الإثبات والنفي كاختلاف الهدى والضلال، ولكنها حقيقة عقلية كالحقائق الهندسية التي يتم بها تصور الحركات والأشكال في الأفلاك والسماوات.
ولما ظهرت الأديان الموحدة كان الجدل في صفات الله أكثر وأعنف من الجدل في وجوده، فقضى اللاهوتيون زمنًا وهم لا يشعرون بالحاجة إلى إقناع أحد بوجود خالق لهذه المخلوقات، ولم يشعروا بهذه الحاجة إلا بعد اختلاط العقائد الدينية بالآراء الفلسفية، ومناظرتهم للمناطقة والمتفلسفين في صناعة الجدل والبرهان.
وقد أسفرت مباحث الفلاسفة المؤمنين عن براهين مختلفة لإثبات وجود الله بالحجة والدليل، ونحسب أننا نضعها في موضعها حين نقرر في شأنها هذه الحقيقة التي يقل فيها التشكك والخلاف: وهي أن البراهين جميعًا لا تغني عن الوعي الكوني في مقاربة الإيمان بالله والشعور بالعقيدة الدينية، وأن الإحاطة بالحقيقة الإلهية شيء لا ينحصر في عقل الإنسان ولا في دليل يتمخض عنه عقل الإنسان، وإنما الترجيح هنا بين نوعين من الأدلة والبراهين، وهما نوع الأدلة والبراهين التي يعتمد عليها المؤمنون، ونوع الأدلة والبراهين التي يعتمد عليها المنكرون، فإذا كانت أدلة المؤمنين أرجح من أدلة المنكرين فقد أغنى الدليل غناءه وأدى القياس رسالته التي يستطيعها في هذا المجال، وهي في الواقع أرجح وأصلح للإقناع بالفكر — فضلًا عن الإقناع بالبداهة — كما يبدو من كل موازنة منصفة بين الكفتين.
ولا يخفى أن قاعدة الإثبات والنفي في مناقشات الخصوم لا تنطبق على هذا الموضوع الجليل، فليس للعقل البشري خصومة في الإثبات ولا في خصومة في الإنكار، وليس على أحد عبء الدليل كله ولا على أحد عبء الإنكار كله في البحث عن حقيقة الوجود، وليس للمنكر أن يستريح في مرقده ليقول للمؤمن: إنها قضيتك فابحث عنها وحدك واجهد لها جهدك ثم أيقظني لتسمع مني ما أراه فيما تراه، فربما كان المنكر هنا هو صاحب الادعاء وهو أحق الخصمين بالجهد في طلب الدليل؛ لأنه إذا قال إن المادة قادرة على كل تدبير نراه في هذا الكون فليس كلامه هنا مجرد إنكار لوجود الله أو التزام للخطة الوسطى بين الإثبات والإنكار.
•••
ونحن لا نحصي هنا جميع البراهين التي استدل بها الفلاسفة على وجود الله فإنها كثيرة يشابه بعضها بعضًا في القواعد وإن اختلفت قليلًا في التفصيلات والفروع، ولكننا نكتفي منها بأشيعها وأجمعها وأقربها إلى التواتر والقبول، وهي: برهان الخلق، وبرهان الغاية، وبرهان الاستكمال أو الاستقصاء، وبرهان الأخلاق أو وازع الضمير.
ويسمى هذا البرهان في أسلوب من أساليبه المتعددة ببرهان المحرك الذي لا يتحرك، أو المحرك الذي أنشأ جميع المحركات الكونية على اختلاف معانيها، ومنها الحركة بمعنى الانتقال من مكانٍ إلى مكان، والحركة بمعنى الانتقال من حالٍ إلى حال، والحركة بمعنى الانتقال من حيز الإمكان إلى حيز الوجود، أو من حيز القوة إلى حيز الفعل، وفحوى البرهان أن المتحرك لا بد له من محرك، وأن هذا المحرك لا بد أن يستمد الحركة من غيره، وهكذا إلى أن يقف العقل عند محرك واحد لا تجوز عليه الحركة لأنه قائم بغير حدود من المكان أو الزمان، وهذا هو «الله.»
وجواب الماديين على هذا البرهان أنه لا مانع أن يكون المحرك الأول ماديًّا أو كونيًّا وأن يكون وجوده أبديًّا أزليًّا بغير ابتداء، ولا انتهاء؛ لأن قدم العالم أمر لا يأباه العقل ولا يستحيل في التصور، وحدوثه مشكلة تستدعي أن نسأل: ولم كان بعد أن لم يكن؟ وكيف طرأت المشيئة الإلهية بإحداثه وليست مشيئة الله قابلة للطروء ولا لتغير الأسباب والموجبات؟
ومن هؤلاء الماديين من يجزم بأن هذا الكون كله لا يحتوي شيئًا واحدًا يلجئنا إلى تفسيره بموجود غيره، ولا استثناء عندهم في ذلك للنظام ولا للعقل ولا للحياة.
فمن أقوالهم: إن المصادفة وحدها كافية لتفسير كل نظام ملحوظ في الكائنات الأرضية، وضربوا لذلك مثلًا صندوقًا من الحروف الأبجدية يعاد تنضيده مئات المرات وألوف المرات وملايين المرات على امتداد الزمان الذي لا تحصره السنون ولا القرون، فلا مانع أن هذه التنضيدات تسفر في مرة من المرات عن إلياذة هوميروس أو قصيدة من الشعر المنظوم والكَلِمِ المفهوم، ولا عمل في اتفاق حروفها على هذه الصورة لغير المصادفة الواحدة التي تعرض بين ملايين الملايين من المصادفات.
وهكذا الكون المادي في اضطرابه المشتت الذي تعرض له جميع المصادفات الممكنة في العقول، فلا مانع في العقل أن تسفر مصادفة منها عن نظام كهذا النظام وتكوين كهذا التكوين في عالم الجماد أو في عالم الحياة.
وهذا المثل نفسه ينقض دعوى قائليه ويستلزم فرضًا غير فروض المصادفات التي تتكرر على جميع الأشكال والأحوال.
فقد فاتهم أنهم قدموا الفرض بوجود الحروف المتناسبة التي ترتبط بعلاقة اللفظ وينشأ منها الكلام المفهوم، فإن وجود الفاء والياء واللام والسين والواو مثلًا لا يكون قبل وجود كلمة أو كلمات تشتمل على هذه الحروف، فمن أين لهم أن أجزاء المادة المتماثلة ترتبط بينها علاقة التشاكل أو التشكيل على منوال العلاقة التي بين الحروف الأبجدية؟ ومن أين للمادة هذا التنويع في الأجزاء؟ ومن أين لهذا التنويع أن تكون فيه قابلية الاتحاد على وجهٍ مفهوم؟
وفاتهم كذلك أنهم قدموا الفرض بوجود القوة التي تتولى التنسيق والتنضيد، وليس من اللازم عقلًا أن توجد هذه القوة بين الحروف، وأن يكون وجودها موافقًا للجمع والتنضيد وليس موافقًا للبعثرة والتفريق.
وفاتهم مع هذا وذاك أنهم فرضوا في هذه القوة الجامعة أنها تعيد تنسيق الحروف على كل احتمال كأنها تعرف بداءة كيف تكون جميع الاحتمالات، فلم تستنفد هذه القوة جميع الاحتمالات إلى آخرها ولا تتخبط في بعضها قبل انتهائها ثم تعيدها وتعيدها أو تكررها بشيء من الاستئناف وشيءٍ من التجديد في جميع المرات إلى غير انتهاء؟
وفاتهم عدا ما تقدم أن الوصول إلى «تنضيدة» مفهومة منظومة لا يستلزم الوقوف عندها وتماسك الأجزاء عليها، فلماذا تماسك النظام في الكون بعد أن وجد مصادفة واتفاقًا ولم يسرع إليه الخلل وتنجم فيه الفوضى قبل أن ينتظم على نحوٍ من الأنحاء؟ وما الذي قرره وأمضاه وجعله مفضلًا على الخلل والفوضى وهما مثله ونظيره في كل احتمال؟
والعجب في تفكير الماديين أنهم يستجيزون الكمال المطلق في كل عنصر من عناصر الوجود إلا عنصر «العقل» وحده فإنهم يحدونه بالعقل الذي يتراءى في تكوين الإنسان دون سواه، فلا حدود عندهم لمادة الأكوان ولا لاستمرارها في الزمان والمكان، ولا لما اشتملت عليه من القوة والحركة والتكرار، ولكنهم إذا تكلموا عن أشرف هذه العناصر — وهو العقل — أجازوا حصره في البنية الإنسانية ولم يطلقوه من الحدود التي أطلقوا منها جميع عناصر الوجود.
فكيف جاز عندهم أن تكون المادة قادرة على خلق العقل ثم جردوها منه ملايين الملايين من السنين قبل ظهور الإنسان بين هذه الكائنات؟
وهل هي ملايين الملايين من السنين وكفى؟
كلا، فإن الكون الذي لا أول له قد انقضت عليه آماد وآماد لا تحسب بالملايين ولا بأضعاف أضعاف الملايين، فلماذا طبعت المادة على تكوين العقل ثم تجردت منه إلى ما قبل ظهور العقل الإنساني، وهو تاريخ قريب — بل جد قريب — بالقياس إلى تلك الأوائل التي لا يحيط بها الحساب؟
إن بعضهم يفسرون ذلك بتسلسل الدورات في المادة منذ الأزل الذي لا أول له إلى الأبد الذي لا تُعرف له نهاية في الزمان، ويعنون بتسلسل الدورات أن الكون ينتظم ثم ينحل في كل دورة من دوراته التي تمتد ربوات بعد ربوات من الدهور فتنشأ المنظومات السماوية ويتهيأ كوكب من كواكبها لظهور الحياة عليه، وترتقي أطوار هذه الحياة حتى تبلغ مرتبة الحياة الإنسانية بما يقارنها من العقل والتمييز، ثم تنتهي بعد ذلك إلى تمامها فتؤذن بالدثور والانحلال، ثم تعود كرة أخرى دواليك من بداية السديم المنتشر في الفضاء إلى نهاية تلك الدرجة المقدورة من عنصر العقل: وهي درجة العقل الإنساني أو ما يشبه عقل الإنسان.
ويحسب هؤلاء الماديون أنهم أبطلوا بتفسيرهم هذا غرابة الظاهرة العقلية التي تختفي من الأزل ولا تبرز في الكون إلا قبل آلاف محدودة من السنين، أو قبل الملايين وهي في حكم الآلاف، فلا غرابة إذن في دعواهم لأن العقل قديم يتجدد من أزل الآزال إلى أبد الآباد.
فهل زالت الغرابة بهذا الفرض العجيب؟ وهل يجيز العقل أن يكون العقل وحده هو العنصر المحدود بأرقى ما يرتقي إليه الإنسان؟ وأنه هو العنصر الطارئ العرضي في كائن واحد من الكائنات وهو الإنسان؟ لماذا لا يكون العقل أزليًّا في الوجود فيكون عقل إله لأن الأزل أليق الصفات بصفات الله؟ لماذا نقبل «الدورات الأزلية» ولا نقبل العقل الأزلي وهو أولى بالقبول؟ لماذا نتحكم في تقرير حدود العقل ونتحكم في اختلاق تلك الدورات الأبدية وليس شيء من ذلك بعيان شهود، ولا بمنطقٍ صحيح ولا بعلمٍ من علوم التجربة والاستقراء؟
إن قبول فكرة الله أيسر من قبول هذه الأوهام ومن التعسف في إقامة هذه الحدود، وآخر من يجوز لهم هذا التطوح في تلك الأوهام والفروض هم أولئك الماديون الذين يبطلون كل شيء غير الحس والتجربة والاستقراء، فإنهم إذا دخلوا في عالم الغيب والإيمان سقط مذهبهم كله من تحتهم وهم لا يشعرون.
•••
وخلاصة الفكرة الأساسية في هذين المذهبين أن المادة تتجه إلى التركيب أو تكوين المركبات الكاملة، وأن الحياة تظهر فيها عند التركيب كما تظهر الخصائص الكيمية من بعض العناصر عند امتزاجها، ولم تكن قبل ذلك ظاهرة في هذه العناصر على انفراد، ومذهب صمويل إسكندر أعم من مذهب المارشال سمطس في هذه الفكرة؛ لأنه يقول بأن العقل الإلهي نفسه قد نشأ في الكون على هذا المنوال، فكانت المادة من أزل الآزال ثم بزغ منها العقل الإلهي في طور من أطوار التفاعل والتآلف بين الذرات والأجزاء.
والمسألة هنا كما نرى مسألة اعتقاد وتقدير، ومتى كانت كذلك فلا ندري لماذا يسهل على العقل البشري أن يتصور الله مخلوقًا من المادة ولا يتصور المادة مخلوقة بقدرة الله؟ ولماذا يرجح ذلك الاعتقاد على هذا الاعتقاد؟
أما القول بأن المادة تتجه إلى التركيب فتنبثق الحياة منها ضرورة في بعض الأطوار فليس فيه تفسير لظهور الحياة، بل كل ما فيه أنه وصف للظواهر الحية التي يقع عليها الحس ونعرفها بالاختبار، فقد شوهدت الأجسام الحية فقيل إن المادة تميل إلى تكوين الأجسام الحية ووقف التفسير عند تسجيل الظواهر المحسوسة واعتبار وجودها تفسيرًا لأسباب هذا الوجود.
لكن هذا القول لا يفسر لنا اختصاص بعض الأجزاء بظهور الحياة فيها دون جميع الأجزاء التي تشتمل عليها الأكوان في الأرض والسماء، فإن أجزاء المادة قد بدأت معًا ولم تبدأ بفروق بينها تستلزم أن يتركب بعضها ويبقى سائرها بغير تركيب، فلماذا وقع فيها هذا الاختلاف؟ بل لماذا كان هذا الاختلاف مقصودًا لتدبير البيئة التي تعيش فيها الحياة، وموافقة هذه البيئة لمطالب الأحياء من غذاء وحركة وامتياز عما حولهم من الجماد.
وإذا فرضنا أننا استطعنا في يومٍ من الأيام أن نركب عناصر المادة كما تتركب في جسم الكائن الحي المريد فهل تبرز فيها الحياة على المنوال الذي وصفوه؟ وإذا أتينا إلى رجل بعينه فاتخذناه مثالًا للتركيب، ووضعنا في المخلوق المركب نموذجًا لكل خلية من خلايا جسمه بمادتها الطبيعية، فهل تظهر في هذا المخلوق المركب أعراض الأخلاق الموروثة والملكات العقلية والخصائص التناسلية التي ينقلها الآباء إلى الأبناء؟ تُرى لو أننا ركبنا أسدًا بخلايا جسمه كلها، هل ينجم هذا الأسد مفترسًا محبًّا لأكل اللحوم صالحًا لتوليد الأشبال من اللبؤات؟ تُرى لو أننا ركبنا بلبلًا بخلايا جسمه كلها، هل ينجم هذا البلبل مغردًا يتعشق الورود ويألف الغناء بالليل ويخشى الصقور والنسور كما تخشاها هذه البلابل المتوالدة من الذكور والإناث؟ تُرى لو ركبنا رجلًا على مثال أهل الصين ورجلًا على مثال الزنوج ورجلًا على مثال الهنود الحمر ورجلًا على مثال الأمريكيين البيض هل تكفي محاكاة الخلايا المادية لإبراز ما بين هذه الأجناس من الفروق والمزايا، ومن العداوة والصداقة، ومن الأذواق والشهوات؟ وهل يسعى هذا الرجل إلى الزوجة أو المعشوقة كأنه الرجل الأصيل؟ وهل يحنو على الوليد كأنه أبوه؟ وهل يتكلم اللغة التي يتكلمها صاحب النموذج المحكي في تركيب الخلايا والأعضاء؟
الواقع أن خلايا الحياة تحمل في تركيبها من الخصائص ما لا تحمله خلية أخرى في عالم المادة جمعاء، وأول هذه الخصائص قابلية التكرار والتنويع وتعويض النقص وحفظ النوع وتجديده على النحو الذي ينفرد به كل نوع من الأنواع، فكل خلية في الجسم تعمل ما ينبغي على النحو الذي ينبغي وفي الوقت الذي ينبغي أن تعمل فيه، وأعجب العجب في توزيع أعمالها إنما هو ذلك التنويع المعجز الذي يظهر من خلية واحدة يضعها الذكر وخلية واحدة تضعها الأنثى، فتنقسم بالمقدار اللازم لتكوين الجسم كله، وتذهب كل خلية إلى موضعها في القلب أو الرئة أو الكبد أو الدماغ، فيتسق منها الجسم وتجري فيها وظائف الحياة، وليس يقتصر عملها بعد ذلك على الانتظام في بنية واحدة، بل تنحل وتندفع الأجزاء المنحلة إلى حيث ينبغي أن تندفع، وتتلقى البنية العوض الذي يعيدها إلى الانتظام من جديد، حتى الخلايا التي تتجه إلى تكوين الأسنان مثلًا تتجه بالمقدار الذي يحفظ لكل سنٍّ مادتها وحجمها وعملها في مضغ الطعام، وتتجه في وقتها وأوانها وعلى حسب الحاجة إليها، وتتجه في كل نوع على حسب المعهود في ذلك النوع مع وحدة المادة التي تتألف منها في جميع الأنواع، ومن اللغو الهازل أن يقاس هذا التقسيم العجيب إلى تقسيم البلورات التي تتكرر على نحوٍ واحد في بعض المواد، فإن العوامل الآلية تحدث هذا التكرار ولا يمكن أن تحدث سواه، ولكن الأمر يحتاج إلى عوامل غير العوامل الآلية العمياء لتفسير هذا القصد المحكم في وضع كل خلية تتركب منها أجسام الأحياء.
والحكم العقلي المستقيم إذا رأينا عملًا يحقق قصدًا أن نفهم أن القصد له قاصد مريد، إلا إذا كان واجب العقل أن ينكر كل قصد ولا يقبل تفسيرًا غير تفسير المصادفة والاتفاق، وهل للعقل أن يفترض المصادفة إلا إذا استحال عليه أن يفترض القصد والإرادة؟ أو كان التفسير بالمصادفة والاتفاق أيسر وأوضح من التفسير بعمل القاصد المريد؟
إن بعض العلماء البيولوجيين يزعمون أن قوانين المادة وحدها كافية لتفسير ظواهر الحياة في الأجساد، ويخيل إلى بعض الناس أن «البيولوجيين» أحق العلماء بالحكم الفصل في هذا الموضوع، لأن علمهم يسمى على الألسنة بعلم الحياة.
أما الحقيقة فهي أن البيولوجيين يعرفون أعضاء الأجسام الحية ولكنهم في أمر الحياة نفسها لا يمتازون على أحدٍ من العلماء، وليس من اللازم أن يكون النبوغ في التشريح ودراسة الوظائف العضوية مقارنًا للنبوغ في الفلسفة والبحث عن الأصول الكونية الكبرى وأولها أصل الحياة، وعلى هذا المثال لا يجوز للكيماوي أن يستأثر بالقول في أصل المادة وقدم الزمان والمكان لأنه يعرف تراكيب الأجسام ويعرف النسب التي تختلف بها هذه التراكيب، ولا يجوز لمهندس الطباعة أن يستأثر بالحكم في معاني الحروف وأسرار الكلمات لأنه يصب الحروف ويدير الآلات ويخرج من بين يديه كل نسخة من الكتاب، ولا يجوز للنجار الذي يصنع الشطرنج أن يزعم أنه أقدر اللاعبين على تحريك هذه القطع في الرقعة وفقًا للحساب وطبقًا للقصد الذي يتوخاه اللاعب الماهر، وإن كان هذا اللاعب الماهر أعجز الناس عن صنع قطعة أو إصلاح رقعة أو التفرقة بين خشب وخشب في صنع القطع والرقاع.
وخلاصة الرأي في برهان الخلق أن القول بأن الحياة والعقل من عمل حي عاقل قضية عقلية لا غبار عليها، وأن القول بأن المادة هي مصدر كل شيء في الكون يلجئنا إلى فروض لا يقرها الحس ولا المنطق، ولا توافق القسطاس الذي جعله الماديون مرجعًا لجميع الآراء والأحكام، وهو قسطاس المشاهدة والدليل المحسوس.
•••
لأنه يتخذ من المخلوقات دليلًا على وجود الخالق ويزيد على ذلك أن هذه المخلوقات تدل على قصد في تكوينها وحكمة في تسييرها وتدبيرها، فالكواكب في السماء تجري على نظام وتدور بحساب وتسكن بحساب، وعناصر المادة تتألف وتفترق، وتصلح في ائتلافها وافتراقها لنشوء الحياة ودوام الأحياء، وأعضاء الأجسام الحية تتكفل بأداء وظائفها المختلفة التي تتحقق الحياة بمجموعها وتكملة عضو منها لعضو ووظيفة لوظيفة، ومن عرف التركيب المحكم الذي يلزم لأداء وظيفة البصر في العين تعذر عليه أن يعزو ذلك كله إلى مجرد المصادفة والاتفاق، ويقال في كل حاسة من الحواس ما يقال في العين أو العيون التي تتعدد بتعدد الأحياء.
وقد توجهت لهذا البرهان ضروب شتى من النقد لم تصدر كلها من جانب الماديين أو القاطعين بالإلحاد.
فقد أنكر بعض الإلهيين أن يحيط العقل البشري بحكمة الله وأن تكون لله جل وعلا غايات تناط بالأحياء والمخلوقات، وفهموا الغاية على أنها نوع من الحاجة التي يتنزه عنها الواحد الأحد المستغني عن كل ما عداه.
وليس أضعف من هذا الاعتراض سواء عممناه على الخلق كله أو فصلناه بالنظر إلى جميع الخلائق من الأحياء وغير الأحياء.
فإذا كان الله غنيًّا عن الحاجة فالمخلوقات لا تستغني عنها، وإذا كانت حكمة الله أجلَّ وأسمى من طاقة العقل البشري فالعقل البشري يستطيع أن يميز بين الأعمال المقصودة والأعمال المرسلة سُدًى بغير قصد وعلى غير هدى، وإذا كانت القدرة السرمدية لا تحدها الغايات فالكائن المحدود لا بد له من غاية ولا بد لتلك الغاية من تقدير وتدبير، ومن أين يكون التقدير والتدبير في نظر الإلهيين إن لم يكن من الله؟
وليس اعتراض الماديين على هذا البرهان بأقوى من اعتراض هؤلاء الإلهيين؛ لأنهم يقولون: إن نظام الكواكب لا يحتاج إلى تنظيم، وإن كيان العناصر لا يحتاج إلى تكوين، وإن طبائع المادة وحدها كافية لفهم هذا النظام وتفسير ذلك الكيان.
فالمادة الحامية تتحرك، والحركة تشع الحرارة، ومتى حدث الإشعاع قلَّت الحرارة في بعض الأجزاء واختلفت بينها درجة البرودة، فانشق بعضها عن بعض، ووجب بقانون الحركة المركزية أن يدور الصغير حول الكبير ويصمد على الدوران، وهكذا تحدث المنظومات الشمسية وتثبت الثوابت وتدور السيارات حولها بحساب يوافق اختلافها في الحجم والسرعة والمسافة ودرجة الإشعاع.
ويقولون: إن العناصر تتركب من نواة وكهارب، ولا يعقل العقل إلا أن تكون نواة وكهربًا واحدًا أو نواة وكهربين أو نواة وثلاثة كهارب أو أربعة أو خمسة إلى آخر ما تحتمله قوة النواة على التماسك والاجتذاب، وكلما اختلف العدد ظهر في المادة عنصر جديد بالضرورة التي لا محيص عنها، وليس هنالك سبب غير هذا السبب لتعدد العناصر والأجسام.
وكل هذا صحيح من وجهة الواقع الذي نراه.
ولكن من أين لنا أن الواقع الذي نراه هو كل ما يحتمله العقل من فروض ووجوه؟
ألازم هذا بحكم البداهة؟ أم هو لازم لغير شيء إلا أنه كان على هذا النحو وشهدناه؟
فالبداهة لا تستلزم أن تكون الحركة ملازمة للحرارة وأن تكون الحرارة ملازمة للإشعاع.
والبداهة لا تستلزم أن يكون الصغير منجذبًا إلى الكبير، وأن تقضي الحركة المركزية بالدوران في فلك لا تتعداه.
وجائز في رأي العقل كل الجواز أن تكون حرارة ولا إشعاع، وأن يكون انشقاق ولا انجذاب.
وجائز في حكم العقل ألا تكون نواة ولا تكون كهارب، أو أن تكون حرارة ولا برودة، وأن يكون تركيب من أجزاء متشابهة لا يتولد منها اختلاف.
فلماذا حدث هذا ولم يحدث غير هذا؟
ولماذا كان حدواث هذا موافقًا لاختلاف الكواكب، وكان اختلاف الكواكب موافقًا لاختلاف العناصر، وكان اختلاف العناصر موافقًا لاختلاف الفصول والمواسم، وكان اختلاف الفصول والمواسم موافقًا لقبول الحياة وتدبير ما يلزمها من نسب الحرارة وما يلزمها من قوام وغذاء؟
إن العقل البشري هنا بين فرضين يختار منهما ما يشاء، ولا محيص له من الاعتماد على سبب مفهوم لهذا الاختيار.
فإما أن يفرض أن القصد مستحيل وأن الجائز دون غيره هو أن يحدث النظام لامتناع الفوضى، وتحدث الحياة لامتناع الموت، ويحدث الإبصار لامتناع العمى، ويحدث كل شيء سلبًا بغير إيجاب.
وإما أن يفرض أن القصد يدل على القاصد المريد، وأن الحقيقة الإيجابية شيء له وجود، وليس الوجود كله للحقيقة السلبية في هذا الكون «الموجود.»
ولكنه لا يستطيع أن يفرض الفرض الأول لغير سبب، فما هو هذا السبب؟ وما هو الموجب لهذا الادعاء؟
بل نحن لو فرضنا أن العلل السلبية هي التي تؤدي إلى هذه النتائج الإيجابية لما أعفانا ذلك من الحكم بأن العلل السلبية هي التدبير الذي يؤدي إلى تحقيق الغاية المقصودة.
فلك أن تقول: إن الأحياء قد عاشت لأنها لم تنقرض كما انقرضت الأحياء الأخرى التي أعوزتها وسائل المعيشة وأسباب البقاء، ولكن ليس لك أن تقول: إن هذا التفاضل بين الأحياء لم يكن هو الطريق الذي اختاره الخالق المريد لاستبقاء الحياة المثلى والترقي بها في معارج الكمال، ولا أن تقول إن المصادفة أقرب إلى التصور من هذا التفسير، ولا سيما إذا رأيت أمامك أمثلة الترقي بالحياة من الخلية المفردة إلى عقل الإنسان.
ويبدو لنا أن الاعتراض الذي يقام له وزن بين جميع الاعتراضات المتجهة إلى هذا البرهان هو الاعتراض بوجود الشر والألم في الحياة، فكيف يقال: إن القصد ظاهر في هذا العالم ثم يجتمع القصد مع وجود الشر والنقص والظلم فيه؟ هل يقال إذن: إن الشر مقصود؟ وهل يقال: إن الظلم مما يليق بحكمة الحكيم؟
وليس جوابنا على هذا الاعتراض أن نعزو إلى الله دواعي مقدرة لخلق هذه الأمور، فإن الدواعي التي نقدرها لن تبلغ بنا إلى نهايات الأشياء، ولن تزال واقفة بنا عند بدايات مفروضة لا تغني عن تلك النهايات.
ولكننا نرجع إلى المقابلة بين هذا العالم وبين العالم الذي يتخيله أولئك المعترضون وافيًا بالقصد أو جديرًا بحكمة الله، فإن كان هو أقرب إلى التصور فقد صدقوا وأصابوا، وإن كان العالم الذي نحن فيه هو الأقرب إلى التصور فقد سقط الاعتراض.
فما العالم الذي يتخيل المعترضون أنه أجدر من عالمنا هذا بحكمة الله وقصد المدبر المريد؟
هو عالم لا نقص فيه فلا نمو فيه، ولا آباء ولا أبناء، ولا تفاوت في السن والتهيؤ والاستعداد، ولا تقابل في الجنس بين الذكور والإناث، بل جيل واحد خالد على المدى لا يموت ولا يتطلب الغذاء ولا الدواء.
عالم لا نقص فيه فلا حدود فيه، وكيف يوجد الناس بلا حدود بين واحد منهم وأخيه؟ بل لماذا يوجد الألوف ومئات الألوف نسخة واحدة لا فرق فيها بين أحدٍ وأحد، ولا محل فيها للاختلاف، إذ كان الاختلاف يستدعي نقص صفة هنا ووجودها هناك؟
إذن يخلق إنسان واحد يحقق معنى الإنسانية كلها ولا يكون فيه نقص ولا تعدد ولا تكون له بداية ولا نهاية، فلذلك إذن إله آخر مستمتع بكل صفات الكمال والدوام!
عالمهم المتخيل هو عالم لا حرمان فيه، فلا ينتظر فيه الحي شيئًا يجيء به الغد ولا يشتاق اليوم إلى مجهول.
بل ماذا نقول؟ أنقول الغد واليوم؟ ومن أين يأتي الغد واليوم في عالم لا تغاير فيه ولا تنوع في التراكيب والحركات؟ إنما يأتي اليوم والغد من تغاير الكواكب بالحركة والضخامة والدوران، فإذا بطل التغاير والتركيب فلا شمس ولا أرض ولا قمر ولا أيام ولا أعوام.
هو عالم لا ألم فيه ولا اجتهاد فيه، ولا اتقاء لمحذور ولا اغتباط بمنشود.
هو عالم لا أمل فيه ولا محبة ولا حنان ولا صبر ولا جزع ولا رهبة ولا اتصال بين مخلوق ومخلوق؛ لأن الاتصال تكملة ولا حاجة إلى التكملة بأرباب الكمال.
هو عالم لا ظلم فيه، فلا فضيلة ولا رذيلة؛ لأن الفاضل هو الإنسان الذي يعمل الخير ولو شقي به، ويجتنب الشر ولو طاب له مثواه، فإذا ضمن الجزاء العاجل على أعماله أولًا فأول فلا فضل له على الشرير، وإذا وجد العالم وفيه أشرار يجزون أبدًا بالعقاب وأخيار يجزون أبدًا بالثواب فذلك ظلم أكبر من هذا الظلم الذي يأباه المنكرون للقصد والتدبير.
هو عالم لا فرق فيه بين الأبد الأبيد واللحظة العابرة؛ لأنك تريد في كل لحظةٍ عابرة من لحظاته أن تجمع حكمة الآباد، وأن تكون مقاصدها هي مقاصد الكون الذي لا تُعرف نهاية طرفيه، فلا انتظار لبقية الزمن ولا موجب للانتظار، ولن يحيا المخلوق المحدود بغير انتظار إلا كان في حسه لون آخر من ألوان الفناء.
قال صاحبي: وهل وصلت قط من فلسفة حياتك إلى شيء؟
قلت: نعم، إن الله موجود.
قال: باسم الفلسفة تتكلم أو باسم الدين؟
قلت: باسم الفلسفة أتكلم الآن، والفلسفة تعلمنا أن العدم معدوم فالوجود موجود، موجود بلا أول ولا آخر؛ لأنك لا تستطيع أن تقول: كان العدم قبله أو يكون العدم بعده، وموجود بلا نقص لأن النقص يعتري الوجود من جانب عدم ولا عدم هناك، موجود بلا بداية ولا نهاية ولا نقص ولا قصور، والوجود الكامل الأمثل هو الله.
قال: وكيف توفق بين الوجود الأمثل وبين الشرور والآلام في هذه الحياة؟
قلت: هذا سؤال غير يسير؛ لأننا نحن الفانين لن نرى إلا جانبًا واحدًا من الصورة الخالدة في فترة واحدة من الزمان، ومن يدرينا أن هذا السواد الذي يصادفنا هنا وهناك هو جزء لازم للصورة كلزوم النقوش الزاهية والخطوط البيضاء؟ وماذا تستطيع أن تصنع لو ملكت الأمر وتأتى لك أن تقذف بالشرور من الحياة؟ بغير الألم والخسارة ما الفرق بين الشجاع والجبان وبين الصبور والجزوع؟ وبغير الشر والسوء ما الفرق بين الهدى والضلالة وبين النبل والنذالة؟ وبغير الموت كيف تتفاضل النفوس وكيف تتعاقب الأجيال؟ وبغير المخالفة بينك وبين عناصر الطبيعة من حولك كيف يكون لك وجود مستقل عنها منفصل عن موافقاتها ومخالفاتها؟ وبغير الثمن كيف تغلو النفائس والأعلاق؟
قال صاحبي: أليس عجزًا أن نشقى وفي الوسع ألا نشقى؟ أليس عيبًا أن نقصر عن الكمال وفي الوسع أن نبلغ الكمال؟
قلت: وكيف يكون في الوسع أن يكمل المتعددون؟ إنما يكون الكمال للواحد الدائم الذي لا يزول.
قال صاحبي: قل ما شئت فليس الألم مما يطاق، وليس الألم من دلائل الخلود الرحيم.
قلت: على معنى واحد إن هذا لصحيح!
إنه لصحيح إذا كانت حياة الفرد هي نهاية النهايات وهي المقياس كل المقياس لما كان وما يكون، ولكن إذا كانت حياة الفرد عرضًا من الأعراض في طويل الأزمان والآباد — فما قولك في بكاء الأطفال؟ إن الأطفال أول من يضحك لبكائهم حين يعبرون الطفولة، وإنهم أول من يمزح في أمر ذلك الشقاء، وليس أسعد الرجال أقلهم بكاء في بواكير الأيام.
يا صاحبي! هذا كون عظيم، هذا كل ما نعرف من العِظَم، وبالبصر أو بالبصيرة نظرنا حولنا لا نعرف العِظَم إلا من هذا الكون، ماذا وراء الكون العظيم مما نقيسه به أو نقيسه عليه؟ فإن لم نسعد به فالعيب في السعادة التي ننشدها، ولك أن تجزم بهذا قبل أن تجزم بأن العيب عيب الكون وعيب تدبيره وتصريفه وما يبديه وما يخفيه، ولك أن تنكر منه ما لا تعرف، ولكن ليس لك أن تزعم أنه منكر لأنه مجهول لديك.
ونحسب أننا نقابل الاعتراض على دلائل الحكمة المقصودة بما يرجح عليه إذا قابلناه بمثل هذا التذكير والتعقيب، ويكفي عندنا أن يكون برهان الإثبات أقوى من برهان الإنكار، فلسنا نغتر ببرهان من براهين العقل الإنساني حتى نزعم له أنه يستوعب الوجود الإلهي كل الاستيعاب، أو أننا نبلغ به مبلغ البراهين التي نقيمها على كل محدود في عالم المحسوس والمعقول؛ لأن وجود الله أكبر من ذرع العقول، وإنما نعطي العقل حقه حين نضع له البرهانين وندع له أن يوازن بينهما، وأن يطالب نفسه بدليل على الترجيح.
•••
وفحواه في صيغته الجامعة أن العقل الإنساني كلما تصور شيئًا عظيمًا تصور ما هو أعظم منه؛ لأن الوقوف بالعظمة عند مرتبة قاصرة يحتاج إلى سبب، وهو — أي العقل الإنساني — لا يعرف سبب القصور.
فما من شيء كامل إلا والعقل الإنساني متطلع إلى أكمل منه، ثم أكمل منه، إلى نهاية النهايات، وهي غاية الكمال المطلق التي لا مزيد عليها ولا نقص فيها.
وهذا الموجود الكامل الذي لا مزيد على كماله موجود لا محالة؛ لأن وجوده في التصور أقل من وجوده في الحقيقة، فهو في الحقيقة موجود؛ لأن الكمال المطلق ينتفي عنه بسبب عدم وجوده، ولا يبقى له شيء من الكمال، بل نقص مطلق هو عدم الوجود.
فمجرد تصور هذا الكمال مثبت لوجوده.
والله ثابت الوجود لأنه هو غاية الكمال، وكل نقص عن هذه المرتبة القصوى لا يتصوره العقل ولا يقبله ولا يستريح إليه؛ لأن تصور الكمال الأسمى مرادف لتصور الكمال الموجود.
فالعقل الإنساني لا يتصور إلا أن الله موجود.
والبرهان في الواقع أقوى وأمتن من أن ينال بمثل هذا الانتقاد؛ لأننا نستطيع أن نتصور عشرة دنانير دون أن نستلزم وجودها في الحقيقة، ولكننا لا نستطيع أن نتصور كمالًا لا مزيد عليه، ثم نتصوره في الوقت نفسه نقصًا لا مزيد عليه؛ لأنه معدوم، وإذا قلنا إن الديشليون لا يمكن أن يكون أكبر عدد فالديشليون كالواحد موجود بغير كلام، وإن لم نستخدمه في عد شيء من الأشياء.
وليس ديكارت بالمغالي حين يتوسع في هذا البرهان فيرى أن وجود الله هو الثابت المحقق ومنه يستدل على وجود العالم وما فيه من المحسوسات؛ لأن المحسوسات متغيرة متقلبة والحس قاصر مضلل، والوهم غالب عليه ما لم يثبت وجوده من طريق الحقيقة المطلقة، وهي الله.
فالعقل يستلزم وجود كائن كامل حق منزه عن العيوب، ولا حقيقة ما لم تكن هذه الحقيقة المطلقة ثابتة في العقول، ومن إيمان العقول بها يعلم أن هذا العالم موجود وليس بوهمٍ ولا خداع؛ إذ كان الله خالقه منزهًا عن الوهم والخداع.
ونحن على دأبنا في تلخيص هذه البراهين نكتفي بالموازنة بينها وبين براهين الإنكار أو بينها وبين الردود عليها، ونعلم أنها براهين تستحق الاعتبار إذا رجحت في كفة الميزان على ما يقابلها ويناقضها.
وهذا هو قول المثبتين في تصور الكمال.
فأما المنكرون فيقولون إنهم يستطيعون أن يتصوروا الكون ناقصًا في عنصر العقل مع أنه سرمد لا أول له ولا آخر ولا حدود لمقداره في المادة والقوة، أو يقولون إنهم يستطيعون أن يتصوروا الكون كاملًا في كل شيء إلا في عنصر العقل، فإن محتواه منه لم يتجاوز حدود عقل الإنسان.
ولمن شاء أن يختار من القولين ما يشاء.
•••
ويعتمد عمانويل كانْت — الذي يستضعف هذا البرهان — على برهان أقوى منه وأصح في الدلالة على «الله» كما ينبغي له من الصفات.
فعنده أن برهان الخلق وبرهان القصد يثبتان وجود الصانع القادر ولكنه لا يلزم من قدرته وصنعته أنه «الإله» الذي يصدر منه الخير والرحمة ويعبده الناس عبادة الحب والإيمان.
وإنما يثبت وجود هذا الإله بعلامة في النفس الإنسانية لا يتأتَّى وجودها فيها بغير وجود إله، وتلك هي علامة الوازع الأخلاقي أو علامة الواجب أو علامة الضمير.
فمن أين استوجب الإنسان أن يدين نفسه بالحق كما نعرفه إن لم يكن في الكون قسطاس للحق يغرس في نفسه هذا الوجوب؟ ومن أين تقرر في طبع الإنسان أن الواجب الكريه لديه أولى به من إطاعة الهوى المحبب إليه، وإن لم يطلع أحد على دخيلة سره؟
المستضعِفون لهذا البرهان يقولون: إنها العادة الاجتماعية رسخت في النفس حتى استحالت إلى رغبة مقبولة أو مطلب محبوب.
ولكنهم ينسون أن معرفة السبب لا تقضي بإبطال الغاية أو بفقدان الحكمة.
فنحن نعلم أن القطار يتحرك بغليان المرجل فيه، ونعلم أن المهندس قد مد قضبانه لأنه يكافأ على مدها بأجر يحتاج إليه، وأن نظار المحطات ييسرون حركة القطار لأنهم مجزيون على ذلك أو معاقبون على إهماله، ولكن ذلك كله لا يبطل الغاية ولا يقضي بمسير القطار لغير حكمة وقيام العمل كله بغير تدبير.
ثم ينسى المستضعِفون لبرهان الضمير أن «العادة الاجتماعية» ليست بالتفسير الذي يعلل نشأتها وإنما هي تكرير للمشاهدة كما رأيناها، فإذا سألهم سائل: لماذا نشأت العادة الاجتماعية؟ قالوا للمصلحة الاجتماعية! ولكنهم لا يسألون أنفسهم: لماذا كانت المصلحة الاجتماعية أمرًا مفروغًا منه مقضيًّا بوقوعه، ولماذا تعلل المصلحة الاجتماعية نشوء العادة ولا تحتاج هي إلى تعليل؟
ولم يكن «عمانويل كانْت» أول من قال بهذا البرهان بين الغربيين؛ لأن برهانه صورة مختصرة من برهان القديس توما الأكويني الذي يستدل به على وجود الله من آيات الخير ومحاسن الجمال في نفس الإنسان وفي مشاهد الطبيعة.
فنحن نفضل جميلًا على جميل ومأثرة على مأثرة، ولا تتأتى لنا المفاضلة بينها بغير قسطاس شامل نرجع إليه في فهم الخير والجمال، وهذا القسطاس الشامل لا يكون فيما دون تلك الخيرات والمحاسن، بل فيما فوقها إلى مصدرها الأصيل، وهو الله.
ولا يتعين أن يكون كل شيء جميلًا وكل شيء خيرًا لنبحث عن ذلك القسطاس في العالم كله، بل يكفي أن يكون في العالم خير وجمال ليبحث الذهن عن ذلك القسطاس ويقتضيه.
•••
هذه هي زبدة البراهين الفلسفية العامة على وجود الله، ومن الحق أن نعيد هنا أن الإيمان الإلهي لا يقوم عليها وحدها في البصيرة الإنسانية، وأن قصاراها من الإقناع أنها أرجح وزنًا من ردود المنكرين، ولا سيما المنكرين الذين في إنكارهم ادعاء وهجوم على الفروض بغير دليل، وبغير إيمان.
ولقائلٍ أن يقول في هذا الصدد: ولماذا يُحوجنا الله إلى البراهين لإثبات وجوده؟ لماذا لا يتجلى للعيان فيعرفه كل إنسان؟!
ونقول نحن: إننا لا ندري، ولكننا إذا طلبنا أن تتجلى الحقيقة الإلهية لكل مخلوق، وأن تتساوى العقول جميعًا في اسْتِكْنَاهِ جميع الحقائق بغير خفاء، عدنا إلى المخلوقات المتشابهة في الكمال بغير اختلاف قط وبغير حدود في المعرفة والخليقة، وليس تخيلنا لذلك العالم المطلوب بأيسر من تخيلنا للعالم المشهود كما عهدناه، فإن العالم الذي يوجد فيه الإيمان وجودًا آليًّا أقل حكمة من العالم الذي يجاهد فيه الضمير جهاده للوصول إلى الإيمان.