البراهين القرآنية
لم تتكرر البراهين على إثبات وجود الله في كتاب من كتب الأديان المنزلة كما تكررت في القرآن الكريم.
فليس في التوراة ولا في الإنجيل أكثر من إشارات عارضة إلى الملحدين الذين ينكرون وجود الله.
لأن أنبياء التوراة كانوا يخاطبون أناسًا يؤمنون بإله إسرائيل ولا يشكون في وجوده، فلم يكن همهم أن يقنعوا أحدًا من المرتابين أو المنكرين، وإنما كان همهم تحذير القوم من غضبه وتخويفهم من عاقبة الإيمان بغيره، وتذكيرهم بوعده ووعيده كلما نسوا هذا أو ذاك، في هجرتهم بين الغرباء الذين يعبدون إلهًا غير «ياهواه» إله إسرائيل دون غيرهم من الشعوب!
نعم دون غيرهم من الشعوب؛ لأن أبناء إسرائيل كانوا يحسبونه لهم ولا يحبون أن يشركهم فيه غيرهم، فلا هم يشركون معه غيره من الآلهة ولا هو يشرك معهم غيرهم من الشعوب، وهكذا كانوا يفهمون التأليه في تاريخهم القديم، قبل خلوص الإيمان بالتوحيد من شوائب الشرك والتعديد.
فعبَّاد «ياهواه» لم يكونوا ينكرون وجوده ولا ينكرون وجود غيره، وإنما كان هو إلههم المفضَّل على غيره من الآلهة، كما كانوا هم الشعب المفضَّل على الشعوب.
فالأرباب الأخرى عندهم موجودة كما يوجد إلههم «ياهواه»، ولكنها لا تستحق منهم العبادة لأنها أرباب الغرباء والأعداء، وكل عبادة لها فهي من قبيل الخيانة العظمى وليست من قبيل الكفر كما فهمه الناس بعد ذلك، وغاية ما في الأمر أن طاعة الآلهة الغريبة هي كخدمة الملك الغريب، نوع من العصيان والخيانة.
لهذا لم يشغل أنبياء التوراة السابقون بإثبات وجود «ياهواه» أو بإثبات وجود الأرباب على الإجمال، وإنما كان شغلهم الأكبر أن يتجنبوا غيرة «ياهواه» وغضبه، وأن يدفعوا عن الشعب نقمته وعقابه، ولم يكن له عقاب أشد وأقسى من عقابه لأبناء إسرائيل كلما انحرفوا إلى عبادة إله آخر، من آلهة مصر أو بابل أو كنعان.
ولما ظهرت المسيحية لم يكن بينها وبين المذاهب الإسرائيلية خلاف على وجود الله ولا على أنبياء التوراة، وإنما كان الخلاف الأكبر على نفاق الرؤساء والكهان في مظاهر العبادة واستغلالهم الشعائر المقدسة في كسب المال وجلب السلطان، وتغليبهم مطامع الدنيا على فرائض الإيمان.
ولم يشعر الدعاة المسيحيون بالحاجة إلى تمحيص القول في الربوبية إلا بعد عموم الدعوة في بلاد اليونان والرومان وغيرهم من أمم الحضارة في ذلك الحين، أي بعد كتابة الأناجيل بعهدٍ غير قصير.
فلم تتكرر البراهين على إثبات وجود الله في أسفار التوراة والإنجيل لذلك السبب الذي أجملناه، أما القرآن فقد كان يخاطب أقوامًا ينكرون وأقوامًا يشركون وأقوامًا يدينون بالتوراة والإنجيل ويختلفون في مذاهب الربوبية والعبادة، وكانت دعوته للناس كافة من أبناء العصر الذي نزل فيه وأبناء سائر العصور، ومن أمة العرب وسائر الأمم، فلزم فيه تمحيص القول في الربوبية عند كل خطاب، وقامت دعوته كلها على تحكيم العقل في التفرقة بين عبادة وعبادة وبين الإله «الأحد» وتلك الآلهة التي كانت تُعبد يومئذ بغير برهان.
كان فيمن خاطبهم القرآن أناس ينكرون وجود الله وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَٰلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ.
وكان فيهم من يدينون للأوثان ولا يقبلون عبادة غير العبادة الوثنية كما توارثوها عن الأجداد والآباء.
وكان فيهم من يشوبون الوحدانية بالوثنية ومن يختصمون على تأويل الكتب المنزَّلة كما اختصمت طوائف اليهود وطوائف المسيحيين.
وكان يخاطب العقل ليقنع المخالفين بالحجة التي تقبلها العقول الإنسانية، فجاء بكل برهان من البراهين التي لخصناها في الفصل السابق، وجعل الهدى من الله ولكنه من طريق العقل والإلهام بالصواب.
قُل للهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ۚ يَهْدِي مَن يَشَاءُ، قُلْ إِنَّ الْهُدَىٰ هُدَى اللهِ، وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ ۚ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ، فَمَن يُرِدِ اللهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ.
وآيات الله مكشوفة لمن يريدها ويستقيم إلى مغزاها، ولكنها هي وحدها لا تُقنِع من لا يريد ولا يستقيم: وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا مِّنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ.
فحتى العيان لا يكفي لإقناع من صرف عقله عن سبيل الإقناع؛ لأنه يتهم بصره وسمعه فيما رأى بعينيه وسمع بأذنيه، وكل شيء في الأرض والسماء كاف لمن جرد عقله من أسباب الإنكار والإصرار.
-
وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ.
-
أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا * وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا * وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا * وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا * وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا * وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا * وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا * وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا * لِّنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا * وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا.
-
وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَىٰ بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَىٰ بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ.
-
وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ.
-
وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَىٰ.
-
وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنثَىٰ.
-
فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ ۚ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ.
-
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ.
-
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ.
-
قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ.
-
وَاللهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۙ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ.
-
قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ.
-
لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ.
-
وَلِلهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَىٰ.
-
وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ.
-
يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا.
وليست هذه جميع الآيات التي وردت في القرآن الكريم بإقامة البرهان على وجود الله، ولكنها أمثلة منها تجمع أنواعها، ونرى منها أنها قد أحاطت بأهم البراهين التي استدل بها الحكماء على وجوده: وهي براهين الخلق والإبداع وبراهين القصد والنظام، وبراهين الكمال والاستعلاء والمثل الأعلى.
ومما يستوقف النظر أن البراهين التي جاء بها القرآن الكريم وخصها بالتوكيد والتقرير هي أقوى البراهين إقناعًا وأحراها أن تبطل القول بقيام الكون على المادة العمياء دون غيرها، ونعني بها؛ «أولًا»: برهان ظهور الحياة في المادة يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ، وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ «وثانيًا»: برهان التناسل بين الأحياء لدوام بقاء الحياة جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا، وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ.
فلم يحاول الماديون قط أن يفسروا ظهور الحياة في المادة الصماء إلا وقفوا عند تفسير الحاصل بالحاصل، أو تخبطوا في ضروب من الرجم بالغيب لا يقوم عليها دليل، وهم إنما يهربون من الإيمان بوجود الله لأنهم لا يصدقون بالغيب ولا يعتمدون غير المشاهدة وما هو في حكمها من دليل ملموس.
فمنهم من يفسر ظهور الحياة في المادة بأن المادة فيها طبيعة الحياة بعد التركيب والتناسق، وليس في هذا القول تفسير، بل هو بمثابة تفسير الواقع المحسوس بالواقع المحسوس.
وبعض العلماء كاللورد كلفن يرجح أن جراثيم الحياة قد انتقلت إلى الكرة الأرضية على نيزك من تلك النيازك الهائمة في الفضاء، ولكنه لا يستغني بهذا التفسير عن تعليل ظهور الحياة حيث انتقلت من موضعها إلى الكرة الأرضية، ولا يرى أن الحياة من نتاج المادة الصماء.
ولا يسع العقل في أمر ظهور الحياة إلا أن يأخذ بأحد قولين! فإما أنها خاصة من خواص المادة ملازمة لها فلا حاجة بها إلى خالق مريد، وإما أنها من صنع خالق مريد يعلم ما أراد.
فإذا كان هذا العالم كله مادة ولا شيء غير المادة، لزم من ذلك أن المادة أزليَّة أبديَّة لا أول لها ولا آخر، وأنها موجودة منذ الأزل بكامل قواها وجملة خصائصها، وأن خصائصها ملازمة لها حيث كانت بغير تفرقة بين المادة في هذا المكان من الفضاء، والمادة في غير ذلك المكان.
ولا معنى إذن لظهور الحياة في كوكب دون كوكب، وفي زمان دون زمان، ولا معنى لأن تظل خصائص الحياة بلا عمل ملايين الملايين من السنين، بل فوق ملايين الملايين من حساب السنين، ثم تظهر بعد ذلك في زمان يحسب تاريخه بالآلاف، ولا يقاس إلى الأزل الذي لا يدخل في حساب.
والمسألة هنا مسألة اضطرار لا اختيار فيه، فلو كانت إرادة مريد لجاز تقدير زمن دون زمن وكوكب دون كوكب؛ لأن التقدير طبيعة الاختيار والإرادة، ولكنها خصائص ضرورية لا تملك الاحتجاب من أزل الآزال قبل أن تظهر على الكرة الأرضية أو غيرها من الكواكب في هذا الأمد المحصور من الدهور، فأين كانت خصائص التركيب منذ أزل الآزال؟ ولماذا يكون التركيب محتاجًا إلى زمان إذا كان من طبيعة المادة وكانت طبيعة المادة ملازمة لها منذ وجد لها وجود؟ ولماذا يحتاج التركيب إلى هذا المقدار من الزمان بعينه ولا يتم في غير جزء من المادة وفي غير مكان محدود من الفضاء؟ إن المسألة ليست مسألة ألف سنة ولا عشرة آلاف سنة ولا مليون سنة ولا عشرة ملايين ولا ألف مليون ولا ملايين الملايين من السنين، ولكنها مسألة «أبد» لا يحصى من بداية العالم وليست له بداية تقف عندها العقول، فلماذا تأجلت خصائص التوزيع والتركيب في أجزاء الفضاء وآماد الزمان؟ ولماذا جاءت الحياة مصادفة ثم دامت هذه المصادفة بكل ما يلزم لدوامها من تدبير، وليس للمادة الصماء تدبير؟
على العقل أن يبدي أسبابه لترجيح القول بهذه الفروض على القول بظهور الحياة من صنع خالق مريد، ولا نعرف أسبابًا لترجيح الفرض العسير على الفرض اليسير.
والفرض اليسير هو الفرض الآخر: وهو أن الحياة قد ظهرت من صنع خالق مريد، وإننا إذا فاتنا أن نعلم مقاصده كلها أو بعضها — فليس في ذلك ما يأباه العقل أو ينفيه؛ لأن الخالق المريد هو الذي يعلم مراده كله، ولا يلزم من ذلك أن يعلمه كل عقل ويحيط به كل عاقل، فنحن لا نستطيع أن نقول: إن قوانين المادة العمياء قد اختارت لظهور الحياة هذا الزمان وهذا المكان، ولا نستطيع أن نقول: إن قوانين المادة في شأن الحياة لا تسري إلا بعد ملايين الملايين من الدهور منذ أزل الآزلين، ولكننا نستطيع أن نقول: إن اختيار الزمان والمكان من فعل مختار مريد، وإنه هو الذي يعلم ما قد اختار وما قد أراد، ولسنا بعد هذا محتاجين إلى التساؤل عن اختيار الزمان والمكان لظهور الحياة؛ لأنه — مع وجود الخالق المريد — لا تكون الحياة الحيوانية أو الحياة الإنسانية هي أول نشأة للحياة الكونية في الزمان كله والمكان كله، وإنما هي ظاهرة من ظواهر الحياة الكونية لا عجب أن يكون لها وقت محدود وحيز محدود.
فإخراج الحياة من المادة الصماء — أو إخراج الحي من الميت — معجزة حقيقة بتوكيد القرآن الكريم وتقريره وتعجيب العقول من خفاء دلالتها على من تخفى عليه؛ فإن المادة قد تنتظم في أفلاك ومدارات وبروج؛ لأن الانتظام حالة من الحالات التي تقع للمادة ولا تضطر العقل إلى افتراض قوة من خارجها، أما أن تنشئ المادة لنفسها أسماعًا وأبصارًا وأفئدة فليست هذه من حالاتها التي يقبلها العقل بغير تفسير، وكل ما قيل في نفي العجب عن تركيب الجسم الحي — أنه لا عجب فيه؛ لأننا نرى الآلات المادية تعمل بنظام وتوزع العمل فيها لمقصد معلوم، ولكن العجب كل العجب في هذا التشابه بين الآلات والأجسام الحية؛ لأن الآلات لا تنشأ بغير صانع مريد، ولا يغنينا تعليل أعمالها بقوانين الحرارة والحركة عن تجاوز القوانين إلى إرادة المهندس المسخر لهذه القوانين.
وقد كان الناس ينظرون بالعين المجردة إلى أعضاء الجسم الحي فيعجبون وسعهم من العجب لدقتها وتساند أجزائها وتعاون وظائفها وسريان عوامل النمو فيها بمقاديره الضرورية على حسب السن والنوع والفصيلة، سواء في جسم الإنسان أو جسم الحيوان أو جسم الحشرة أو جسم النبات، فأحرى بهم أن يعجبوا أضعاف ذلك العجب بعد أن عرفوا بالمجاهر والتحليلات مم تتألف تلك الأعضاء، وعلى أي نحو تتساند تلك الوظائف، وتبين لهم أن هذه الأعضاء البارزة للعيان مجموعة من ذرات لا ترى الألوف منها بالعين المجردة، وأن كل ذرة منها تقع في موقعها من الجسم وتعاون بقية الذرات فيه كأنها على علم بها وبما تطلبه منها، ولا تضل واحدة منها عن طريق لمرض أو عجز طرأ عليها إلا تكفل سائرها بإصلاح خطئها وتقويم ضلالها.
فهل نستطيع أن نتخيل مبلغ الدقة في هذه الإصابة بين احتمالات الخطأ التي لا تحصيها أرقامنا المألوفة؟
يكفي لتقريب هذه الدقة من الخيال أن نذكر أن الحروف الأبجدية في لغات البشر كافة لا تتجاوز الثلاثين، ويتألف من تراكيبها المتغيرة كل ما تلفظ به الأمم من الكلمات والعبارات، فإذا كانت خلية البروتين في حجمها الخفي قابلة لأضعاف ذلك التكرار ثم لا نشاهد فيها إلا كلمة واحدة في ترتيب واحد لا يتغير فقد عرفنا على التقريب معنى تلك الإصابة في التوفيق والتركيب.
يقول الأستاذ ليثز لتقريب هذا الخيال: إن الضوء يصل من طرف المجرة إلى الطرف الآخر في ثلاثمائة ألف سنة، فإذا أردنا أن نشبه إصابة الخلية في تركيبها بمثل مفهوم — فهذه الإصابة تضارع إصابة الرصاصة التي تنطلق من الأرض فتصيب هدفًا في نهر المجرة بحجم عين الثور ولا تخطئه مرة من المرات، وهذا على فرض أن حلقات الخلية خمسون فقط وليست بضع مئات!
لقد بطل معنى القصد في لغة العقل إن كان هذا كله مصادفة لا تستلزم الخلق والتدبير.
ونحن مع هذا لا نبلغ غاية التعجب من هذا التركيب المحكم المصيب؛ لأن الجسم الحي الذي تتكرر فيه هذه المعجزات كل لحظة من لحظاته لا تزال فيه بقية للعجب لعلها أعجب من كل ما تخيلناه، وهي أن هذه الذرات الخفية تتجمع وتتفرق وتلتئم وتنفصل على نحو يضمن لها التجدد أو يضمن الدوام للحياة، فيتألف كل حي من جنسين، وتخرج من كل منهما خلية واحدة يتكون منهما حي جديد، وتنقسم هاتان الخليتان تارة أزواجًا وتارة فرادى على الوضع المطلوب في المرحلة المطلوبة، ويتفق عددها في كل نوع من الأنواع الحية بغير زيادة ولا نقصان، وينطبع كل حيوان على عادات وغرائز تسوقه إلى التناسل في موعده المقدور، فيبني العش قبل أن ينسل إن كان من الطيور، ويفارق الماء الملح إلى مداخل الأنهار أو الخلجان قبل أن ينسل إن كان من سمك البحار، ويمتلئ بالشوق إلى شريكه في التوليد قبل موعد التوليد على اختلاف الأنواع والأجناس.
ونعود فنقول مرة أخرى: إن معنى القصد قد بطل في عقل الإنسان إن كان القول بالمصادفة هنا أيسر من القول بالخلق والتدبير.
فالقرآن الكريم قد خاطب الأحياء بلغة الحياة، وخاطب العقلاء بلغة العقل، حين كرر برهان الحياة وبرهان النسل في إثبات وجود الخالق الحكيم.
وبرهانه على وحدة هذا الخالق يضارع برهان الحياة وبرهان النسل على وجوده وحكمته وتدبيره. لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتَا.
ولن يقوم على ثبوت الوحدانية برهان أقوى من هذا البرهان، وهو برهان التمانع كما يسميه المتكلمون والباحثون في التوحيد.
وقد اختلفوا فيه ولكنه اختلاف لا موجب له مع فهم البرهان على معناه الصحيح الذي لا ينبغي أن يطول الجدل عليه.
فالإمام التفتازاني يقول إنه برهان إقناعي أو برهان خطابي، لجواز الاتفاق بين الإلهين أو بين الآلهة، وأن العقل لا يستلزم الخلاف.
والإمامان أبو المعين النسفي وعبد اللطيف الكرماني يُنحيان عليه أشد الإنحاء ويقذفانه بالكفر؛ لأن الاستدلال ببرهان إقناعي «يستلزم أن يعلم الله سبحانه ورسوله ﷺ ما لا يتم الاستدلال به على المشركين، فيلزم أحد الأمرين إما الجهل وإما السفه، وتعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا.»
والإمام محمد البخاري تلميذ التفتازاني يدفع التهمة عن أستاذه بأن الأدلة على وجود الصانع تختلف بحسب إدراك العقول، والتكليف بالتوحيد يشمل العامة وهم قاصرون على إدراك الأدلة القطعية البرهانية، ولا يجدي معهم إلا الأدلة الخطابية العادية.
وقال الرازي: إن الفساد ممكن إذا تعددت الآلهة، وقد أجرى الله الممكن مجرى الواقع بناء على الظاهر.
وقال الإمام نور الدين الصابوني فيما رواه عنه صاحب سفينة الراغب: «لو ثبتت الموافقة بينهما — بين الإلهين — فهي إما ضرورية فيلزم عجزهما واضطرارهما، أو اختيارية ويمكن تقدير الخلاف بينهما فيتحقق الإلزام.»
وأحسن الإمام إسماعيل الكلنبوي حيث قال في حاشيته على شرح الجلال: «لا يخلو إما أن يكون قدرة كل واحد منهما وإرادته كافية في وجود العالم، أو لا شيء منهما كافٍ، أو أحدهما كافٍ فقط، وعلى الأول يلزم اجتماع المؤثرين التامين على معلول واحد وهو محال، وعلى الثاني يلزم عجزهما لأنهما لا يمكن لهما التأثير إلا باشتراك الآخر، وعلى الثالث لا يكون الآخر خالقًا فلا يكون إلهًا.»
وصواب الأمر أن وجود إلهين سرمديين مستحيل، وأن بلوغ الكمال المطلق في صفة من الصفات يمنع بلوغ كمال مطلق آخر في تلك الصفة، وأن الاثنينية تتحقق في موجودين كلاهما يطابق الآخر ولا يتمايز منه في شيء من الأشياء، وكلاهما بلا بداية ولا نهاية ولا حدود ولا فروق، وكلاهما يريد ما يريده، ويقدر ما يقدره ويعمل ما يعمله في كل حال وفي كل صغير وكبير، فهذان وجود واحد وليسا بوجودين، فإذا كانا اثنين لم يكونا إلا متمايزين متغايرين، فلا ينتظم على هذا التمايز والتغاير نظام واحد، وإذا كانا هما كاملين فالمخلوقات ناقصة ولا يكون تدبير المخلوق الناقص على وجهٍ واحد بل على وجوه.
وعلى هذا فبرهان القرآن الكريم على الوحدانية برهان قاطع وليس ببرهان خطاب أو إقناع.
وشأن القرآن في عالم الدين والعقيدة معروف، وهذا شأنه في عالم الحكمة الإلهية إذ يتناول وجود الله ووحدانية الله.