آراء الفلاسفة المعاصرين في الحقيقة الإلهية
كان الأقدمون يقولون بالإله «المقيد» لأنهم يؤمنون بتعدد الآلهة أو بوجود إلهين اثنين يتناظران ويتغالبان، وهما إله الخير وإله الشر، أو إله النور وإله الظلام.
ولما شاع الإيمان بالتوحيد بطل القول بالإله المقيد؛ لأن الإله الواحد لا يحده شيء ولا تحيط به القيود والنهايات، وكل ما قبلته العقول الفلسفية في حقه أن قدرته جل وعلا لا تتعلق بالمستحيل، ولم يقبل بعض المتكلمين حتى هذا القول؛ لأنهم رأوا أن الاستحالة نوع من التقييد الذي تتنزه عنه قدرة الله.
ثم عرف الناس أن الأرض كرة سيارة تدور في الفضاء كما يدور غيرها من السيارات.
وعرفوا مذهب النشوء والتطور، فقال لهم دعاته إن الإنسان حي كسائر الأحياء التي نشأت على الأرض وتحولت بها أحوال البيئة من طورٍ إلى طور ومن طبقةٍ إلى طبقة في مراتب المخلوقات.
فتواتر القول بما كان لهذين الكشفين من الأثر الخطير في نظرة الإنسان إلى الكون، ونظرته إلى نفسه، ونظرته إلى حقيقة الحياة.
كان يحسب أن الأرض مركز الوجود، وأنه هو مركز الأرض أو غاية الخلق كله في الأرضين والسماوات.
وكان يحسب أنه شيء علوي تسخر له الأحياء الأرضية، ولا يحسب أنه فرع من فروع الشجرة التي نبتت منها سائر الفروع.
فتغير نظره إلى الكون ونظره إلى نفسه.
ولكن هل تغير نظره إلى الله؟
لم يكن ذلك حتمًا لزامًا من نتائج العلم بدوران الأرض أو العلم بمذهب النشوء والارتقاء، لأنهما خليقان أن يحدا من قدر الإنسان ولكنهما لا يحدان من قدرة الله.
وغاية ما هنالك أن هذين الكشفين قد زعزعا عقائد أناس من المتدينين الذين أخطأوا فهم الدين، فحسبوا أن الدين يفرض عليهم الإيمان بدوران الشمس حول الأرض وانقطاع العلاقة الجسدية بين الإنسان وسائر المخلوقات. أما الذين تعقلوا هذين الكشفين فلم يغيروا إيمانهم بالله، بل وجدوا فيهما دليلًا جديدًا على اتساع الكون وانتظام قدرة الله في خلقه من أهون الأشياء إلى أرفع الأحياء.
فمن أين إذن جاءت هذه النزعة الحديثة في بعض الفلسفات العصرية التي تؤمن بوجود الله ولكنها تقيده بقوانينه أو تقيده بنواميس المادة والقوة؟ أو تفرط في هذه الوجهة فتزعم أنه من ثمرات التطور في الكون الشامل، أو أنه عنصر من عناصره التي تضبطه أحيانًا وتنضبط به في كل حين؟
ليس ذلك من إيحاء مذهب النشوء والارتقاء ولا هو من إيحاء القول بدوران الأرض في الفضاء كما جاء في بعض الآراء، ولكنه من نتائج الأطوار الاجتماعية وليس من نتائج الكشوف الفلكية أو العلمية، وأشبه الأطوار الاجتماعية بإيحاء هذا المعنى هو طور «الحكومة المقيدة» في السياسة الأرضية، فإن الملك المقيد بقوانينه ومشيئة شعبه ومقتضيات ملكه هو أحدث الأفكار العصرية في أطوار الاجتماع، وليست النقلة بعيدة بين تقييد الحاكم في الأرض وتقييد الحاكم في جميع الأكوان.
وربما كانت هذه النقلة غريبة في بعض الأمم الشرقية التي تعودت أن تدين ملوكها بكتابها السماوي في شئون المعاش وشئون المعاد على السواء، ولكن الكتب الدينية التي آمن بها الملوك الغربيون لم تتعرض للشئون المعاشية وتركتهم مطلقين في وضع الشرائع لهذه الشئون، فلما سهل على الأذهان عندهم أن تتصور الحاكم المطلق مقيدًا بعد انطلاقه الطويل في سياسة الشعوب لم يصعب عليها أن تقبل القيود لكل حكم مطلق لم تكن له قيود.
لقد كان الإنسان يؤمن بأنه مركز الوجود، ولكنه كان يخضع للملوك المطلقين، فلم يكن في وسعه أن يتخيل كيف يجوز الحساب أو التقييد على ملك الملوك في جميع الأرضين والسماوات.
ثم عرف أن الأرض ليست بمركز الوجود، وأنه هو فرع من فروع شجرة الحياة، فكان خليقًا بهذه المعرفة أن تزيده خضوعًا على خضوع وأن ترضيه من الأقدار الإلهية بكل ما تفرضه عليه، ولكنه صغر من جانب وكبر من جانب: صغر في الكون وكبر في حياته السياسية، وراح يحاسب الحاكمين الذين كانوا مطلقين، وتعود أن يشاركهم في القوانين وقد كانوا وحدهم مصدر القوانين، فليس بالمستغرب في هذه البيئة الاجتماعية أن تنشأ بينها عقول تسيغ السلطان المقيد في الكون كله، وحيثما قام قائم بالتصريف والتدبير، وقد ساغ لها فهم «التقييد» حيث لم يكن قبل ذلك سائغًا في الواقع ولا في التفكير.
وليس من محض المصادفات فيما نعتقد أن تبدأ هذه النزعة الفلسفية في البلاد الإنجليزية التي يقال عنها إن وظيفة الملك فيها وظيفة اسمية، وإن حامل التاج هناك لا يتعرض لسياسة حكومته إلا بمقدار ما يدعوه رعاياه.
وليس من محض المصادفات كذلك أن يكون البادئ بها هو جون ستيوارت مِل صاحب المراجع المعتمدة في مباحث الحكومة النيابية ومباحث الحرية والدستور، وصاحب الوظيفة التي تخلى عنها في شركة الهند الشرقية، حين آلت إدارتها إلى سيطرة الحكومة البريطانية.
وقد ولد جون ستيوارت مِل في أوائل القرن التاسع عشر ١٨٠٦–١٨٧٣ واقترنت حياته كلها بأنشط الأطوار في الرقابة البرلمانية وحركات التوسع في حقوق الانتخاب، فنظر في حكومة الكون وعينه لا تتحول عن حكومة الأرض وعلاقة المحكومين فيها بالحاكمين.
ولم يكن جون ستيوارت مِل من الفلاسفة الإلهيين ولا من المعنيين كثيرًا بما وراء الطبيعة أو حقائق الأديان، وقد أنكر أبوه جميع عقائده الدينية في أخريات حياته ولم يكن في مبدأ حياته من ذوي التدين والاعتقاد، فلا جرم ينظر ابنه إلى إله الكون ومدبر العالم فلا يستكبر عليه قيود المادة والنواميس.
وإنما عرفت فلسفة مِل في الدين من رسائله الثلاث التي كتبها عن «الديانة» ولم ينشرها في حياته، ولكنه أودعها صفوة آرائه في هذا الموضوع، ولعله قد أودعها كلمته الأخيرة فيه.
فالرسالة الأولى عنوانها الطبيعة، وخلاصتها أن «سلوك الطبيعة» ليس بالسلوك الذي يجتذبه الإنسان في طلب الكمال، وأن الإنسان خليق أن يروضها ويقودها لا أن يتخذها قدوة له في آدابه ومعاملاته، ومن ثم لا يرى أنها من خلق إله رحيم قادر على كل شيء؛ لأنها قد أفعمت بالقسوة والألم والعذاب، وقلما يظفر الإنسان منها بخير أو بركة غير ما يحصله هو بالسعي الحثيث والجهد الشديد.
والرسالة الثانية عنوانها فائدة الديانة، وخلاصتها أن الديانات قد أفادت قديمًا في تعليم الإنسان مكارم الأخلاق ومحاسن العادات، وكانت هي المرجع الوحيد الذي كان يرجع إليه في التفرقة بين الحسن والقبيح والمباح والمحظور، ولكنها قيدت عقله بأحكامها وفروضها فأعجزته عن التفكير في مضامينها والتخلص من عيوبها، وعنده أن العقائد الإنسانية كافية في تهذيب الناس وقيادتهم بعد زوال العقائد التي تقوم على ما وراء الطبيعة، لولا مزية لهذه العقائد لا توجد في العقائد الإنسانية، وهي تعزية النفس برحمة الله ودوام الحياة في العالم الآخر، ولا مانع عقلًا ولا علمًا في رأي مِل أن يصح وعد الديانات بالحياة بعد الموت.
والرسالة الثالثة عن «الربوبية» وفيها يعترف الفيلسوف بنظام الكون ولا يستريح إلى تفسير ظواهر الحياة بمذهب النشوء والارتقاء، إلا أنه يعود فيقول: إن هذا النظام لا يثبت وجود الإله القادر على كل شيء، ولا يلزم منه أن مدبر الكون إله مطلق القوة والكمال؛ لأن الدنيا على ما فيها من النظام لا تخلو من الآفات والشرور التي لا يرتضيها إله وهو قادر على تبديلها، فالله موجود مريد لخير المخلوقات وسعادتها ولكنه محدود القدرة والإرادة، منصرف العناية إلى أمورٍ كثيرة غير أمور الناس ودائب على تذليل المادة والقوة وتطويعها لما يرتضيه.
•••
كانت هذه الآراء مقدمة لظهور القول بالإلهية المقيدة في العصر الحديث، وكانت في آراء جون ستيوارت مِل نواة أخرى لظهور هذا المذهب على اختلاف شروحه؛ لأنه كان يقول بالكيمياء العقلية ويعني بها أن امتزاج الأفكار تنشأ عنه أطوار فكرية جديدة لم تكن بينة في الأفكار المتعددة قبل امتزاجها، كأنها العناصر المادية التي يمتزج بعضها ببعض فتنبثق منها مادة جديدة لم تكن بينة في عناصرها الأولى — وأشهر الأمثلة على ذلك تولد الماء من الهيدروجين والأكسجين، وكلاهما مخالف للماء في خصائصه ومزاياه.
وشاعت في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين صيغ القول بالنشوء والارتقاء، ثم شاعت على أثره فلسفة النسبية التي قررها أينشتين وقرر فيها أن الفضاء رباعي الأبعاد وأن البعد الرابع هو الزمان، فلا يتأتَّى قياس حركة من الحركات بالطول والعرض والعمق وحدها دون أن نضيف إليها الزمان وهو البعد الرابع المتمم لهذه الأبعاد.
فآراء جون ستيوارت مِل كانت نواة للفلسفة الإلهية الحديثة في البلاد الإنجليزية، وساعدتها الآراء التي تتابعت على أثرها واحدة بعد الأخرى، فلم يكد يظهر من الفلاسفة الإنجليز في القرن العشرين فيلسوف واحد يخلو مذهبه من آثار هذه الآراء متجمعات أو متفرقات.
وفي وسعنا أن نطلق عنوانًا واحدًا على هذه المذاهب في جملتها؛ لأنها تقوم على أساس واحد وإن تنوعت في التخريج والاتجاه، فهي كلها صالحة لأن تسمى باسم «التطور الانبثاقي» أو «التركيب المنتخب» على حدٍّ سواء، ويتضح معنى هذه التسمية من تلخيص المذهب كله فيما يتصل بموضوع هذا الكتاب.
ومن المتعذر مع هذا أن نلخص المذهب كله كما شرحه جميع الكاتبين فيه، فقد خاض في شرحه وتخريجه طائفة من الفلاسفة يتجاوزون العشرين، ونحا كل منهم منحى يعارض به زميله في لباب المذهب أو قشوره، فليس من المفيد في مقصدنا هذا أن نحيط بجميع هذه الفوارق والمعارضات، ولكننا نجتزئ بأكبر هذه الشروح وأبرزها وأدلها على الغاية من جملة تلك الأقوال، ولعلنا نخرج منها بالخلاصة الكافية إذا اقتصرنا على شروح ثلاثة من أساطينه وهم مورجان والإسكندر وسمطس، وهم نخبة القائلين بالتركيب والانبثاق.
•••
وكان مذهبه في مبدأ الأمر تعديلًا لمذهب هربرت سبنسر الذي يقول بأن الارتقاء في عالم المادة العضوية وغير العضوية على السواء — هو انتقال من البساطة إلى التركيب ومن التشاكل إلى التنويع، فكان من رأي مورجان أن الانتقال من البساطة إلى التركيب لا يكفي لتفسير ظهور الحياة ما لم يكن في التركيب شيء جديد، وقال بأن التركيب يخلق الشيء الجديد على النحو الذي قدمناه في تولد الماء من الهيدروجين والأكسجين، وقال كذلك باستقرار الخصائص النفسية أو الحيوية في المادة من أقدم الأزمان، وإنما يتوالى التركيب فتبرز الخصائص النفسية بعد أن كانت مكنونة في حالة التفرد والبساطة، ومثل الأشياء في ذلك كمثل الهرم الذي يتسع من أسفله ويتحدد في أعلاه، فالمادة هي قاعدته السفلى والعقل هو قمته العليا، وكل طبقة فيه تعلو على طبقة تحتها فإنما تعلو ببروز الخصائص النفسية بعد الخفاء.
ودرجات الارتقاء عنده هي المادة في صورتها البسيطة المفردة، ثم المادة في أخلاطها الطبيعية الكمية، ثم الحياة، ثم العقل، وهو أرقى ما وصلت إليه الموجودات، ولكنه طبقة جديدة من خاصة قديمة مُسْتَكِنَّةٍ في أبسط الموجودات، ففي وسعك أن تقول عقل الذرة وعقل الجماد وعقل الشجرة؛ لأنها جميعًا لا تخلو من عنصر العقل إما على حالة من النزارة التي تكفيها في كيانها، وإما على حالة الاستقرار والاستكنان إلى أن تبرز البروز المعهود في عقل الإنسان.
ومجمل القول في الاتصال بين العقل والمادة أنهما يتطوران معًا ولا يتطور أحدهما من الآخر، ولكنهما متلازمان لا ينفصلان فلا عقل بلا مادة ولا مادة بلا عقل في شيء من الأشياء.
ولا فرق بين مورجان وزملائه «الانبثاقيين» في اعتبار العقل والحياة من خصائص المادة المُسْتَكِنَّة فيها من أزل الآزال، ولكنه يخالف أكثرهم في إثبات الإرادة الإلهية مع إثبات الخصائص المادية، فيسأل غير مرة: وما الذي يخرج هذه الأطوار بعضها من بعض على هذا الترتيب العجيب؟ ويجيب غير مرة: إنه تدبير الإله أو توجيه الإله، فليست قوانين التركيب والانتقاء عنده بمغنية عن العناية الإلهية في نهاية المطاف.
•••
أما ثاني الفلاسفة الثلاثة الذين يجمعون شتات المذهب فهو الأستاذ صمويل الإسكندر وقد أصبح اسم الإسكندر وحده علمًا عليه.
وهو من أبناء أستراليا، وُلِدَ في مدينة سدني ١٨٥٥، وتخرج من جامعة ملبورن ثم من جامعة أكسفورد، حيث اشتهر بالألمعية والذكاء وأحرز كثيرًا من الجوائز والمكافآت، وكانت الدعوة الفلسفية الغالبة في عهد دراسته هي دعوة هيجل يتممها مذهب دارون وتفسيرات هكسلي وسبنسر، فهي بهذه المثابة أقرب إلى الواقعية منها إلى المثالية التي اشتهر بها هيجل في عصره، ولهذا يعتبر الإسكندر من أساطين الواقعيين.
وهذا الفيلسوف هو أوسع أنصار الفلسفة «الانبثاقية» نطاقًا في شروحه وتعليقاته وأبعدهم أمدًا في نتائجه وأشدهم تطوحًا في مزاعمه؛ لأنه يشمل الإله بأحكام مذهب التطور المنبثق، ويقول: إنه ثمرة من ثمراته هي الثمرة التالية لظهور «العقل» في الوجود، أو هي الثمرة التالية أبدًا لأرفع الثمرات التي يترقى إليها التطور والإنبثاق، فكل ما وصلت المادة إلى طبقة من طبقات الارتفاع كانت الفكرة الإلهية هي الفكرة التالية لها أبدًا بغير انتهاء.
فالإسكندر يجمع بين مذهب التطور ومذهب «هيجل» إذ يقول هيجل بأن الله هو «الوجود المطلق» الذي يتمثل في حدود الوجود المشهود، وأن العقل الإنساني هو آخر مثال وصل إليه الوجود في هذا التجلي الإلهي، فهو أرفع مثال.
وعند الإسكندر أن المادة ومظاهرها جميعًا قد صدرت من مصدر واحد وهو الكون المؤلَّف من المكان والزمان، فليس المكان فراغًا إلا إذا انعزل من الزمان، وليس الزمان عدمًا إلا إذا انعزل من المكان، ولكنهما إذا اجتمعا — وهما مجتمعان أبدًا — نجمت الحركة، وهي أصل المادة وأصل جميع الموجودات.
ولا شك أن مذهب أينشتين عن الزمان والمكان كان له أثر كبير في وقوع هذا الخاطر في روع الفيلسوف، ولكن الأثر الأكبر ولا شك يرجع إلى مباحث العلوم الطبيعية في الحرارة والكهرباء، ولا سيما المباحث التي قررت أن ذرات المادة تتحول إلى إشعاع، فإذا كان الإشعاع هو أصل المادة وكان الإشعاع مجرد حركة فلا جرم يخطر للفيلسوف أن حدوث الحركة في الفضاء هو أصل المادة في صورتها الأولى، وأن حدوث الحركة في الفضاء هو بعبارة أخرى اتصال الزمان والمكان، لأن الزمان هو الحركة ووقع الحركة هو اتصالها بالمكان.
فإذا حدثت الحركة فذلك هو اتصال الزمان والمكان، وإذا وجدت الحركة وجد الإشعاع وتسلسلت الأشياء المادية من هذا الإشعاع.
وهي تبدو على درجات، فأدنى طبقات المادة — بعد صدورها من الفضاء والزمان — هي المادة ذات الخصائص الأولية وهي الحجم والشكل والعدد والحركة، ثم تعلوها طبقة الخصائص التي تترقى إلى اللون والصوت والرائحة ودرجة الحرارة، أو بعبارة أخرى إن الخصائص الأولية تدرك بجميع الحواس، وإن الخصائص التالية لها تحتاج إلى التخصيص فتدرك منها بإحدى الحواس، ولا تتم الخاصة للشيء إلا مع اتصاله بشيءٍ آخر، كما يتم اللون مع اتصال الشيء بالنور، ويتم الصوت مع اتصال الشيء بالهواء، فلا بد له في هذه الحالة من بعض التركيب.
ومن الناحية الأخرى إذا نحن استبدلنا كلمة النظام بكلمة المنظم لم نَعْدُ بذلك أن نسمي هذه الحقيقة الواقعة: وهي أن العالم يجري على نسق يخرج منه النظام، وفي وسعنا أن نسمي العالم الذي ندركه على هذا النحو «إلهًا»، وننسى — أو لعلنا بذلك نفسر — ذلك السرف أو ذلك التلف المنطويين في ذلك الإجراء، ولكن بأي معنى من المعاني يصلح إله كذلك الإله للعبادة؟ إنما يصلح للعبادة على معنى واحد، وهو أن نعود فندخل على فكرة النظام التي هي وصف لبعض الوقائع المقررة فكرة المنظم المدبر، وهو الرأي الذي سبقنا فأدحضناه.
والذي نرجو أن نصنعه هنا هو شيء أقرب إلى التواضع والاعتدال من ذاك وأدنى إلى السياق العلمي المطرد في بعض المسائل الأخرى، فلا نحاول تعريف الله مباشرة، بل نسأل أنفسنا: هل هناك محل في العالم للصفة الإلهية؟ ثم نمحص حقيقة ذلك الكائن الذي يتصف بتلك الصفة، ونرجع إلى الحاسة الدينية لكي يطابق ذلك الكائن صفات الإله الذي هو أهل للعبادة، فأين إذن محل الإله في مجرى الأشياء إن كان له محل على الإطلاق؟
في هذه المادة الشاملة التي تتولد من الفضاء والزمان لا يزال الكون يعرض انبثاقًا بعد انبثاق لسلسلة من الكائنات المحدودة يتسم كل منها بخصائصه وصفاته، وأرفع هذه الكائنات المعروفة لدينا هو العقل أو الواعية، فالإله هو الكائن الذي يعلو على أعلى ما عرفناه.
ولما كان الزمان أبديًّا بغير انتهاء، وكان هو مصدر النماء والارتقاء، فليس في استطاعتنا أن نتخيله واقفًا عند إخراج تلك الكائنات المحدودة التي تتسم بسمة العقل أو الواعية، ولا بد لنا من أن نرسل الفكر على الاتجاه الذي ترسمناه من تجارب الانبثاق السابقة التي تمخضت عن الصفة الرفيعة، فإن في الزمان والفضاء باعثًا يدفع مخلوقاتهما إلى طبقة أرفع فأرفع كما دفع بها إلى الطبقة العاقلة أو الواعية، وليس في العقل ما يدعونا إلى الوقوف عند حد من الحدود لنقول إنه هو الحد الأقصى لما يبثه الزمان من الآن إلى أبد الآباد، بل يكرهنا الزمان نفسه على انتظار مولود آخر من مواليده، ومن ثم يسوغ لنا أن نتتبع سلسلة الصفات ونتخيل تلك الكائنات المحدودة التي سميناها بالملائكة وهي كائنات تستمتع بوجودها الملائكي ولكنها تتأمل العقل على نحوٍ يعجز العقل عنه كما نرى العقل يتأمل ما دونه من مراتب الحياة والموجودات السفلى، وعلينا أن نسأل: كيف تكون العلاقة بين هذه الآلهة المحدودة المسماة بالملائكة وبين الإله الذي ليست له حدود.
فالإله إذن هو الطبقة المثالية التي تعلو على طبقة العقل الواعية والتي يتمخض الكون الآن ليخرجها من أطوائه، ونحن من وجهة الاستطراد الفكري على يقين من استجنان هذه الصفة في الكون وَتَهَيُّئِهِ لولادتها، ولكن ما هي يا ترى تلك الصفة الموعودة؟ إننا لا ندري؛ لأننا لا نقدر على التحلي بها ولا على تأملها، ولا تزال محاريبنا الإنسانية معدة لاستقبال ذلك الإله المجهول، ولا سبيل لنا أن نعرف ما هو ولا كيف تكون الإلهية وكيف يشعر الإله بوجوده إلا إذا أنعمنا بصفة الآلهة قبل ذاك.
إلى أن قال: فالإلهية صفة تتولى الصفات التي دونها من طبقة العقل الذي يقوم هو أيضًا على ما دونه من صفات وينبثق عن ما تبلغ الكائنات مبلغًا مقدورًا من التركيب والتنسيق.
ويمضي الفيلسوف في التقدير والتخمين فيقدر أن الإله الأعلى الذي ينبثق عنه العالم هو من معدن الروح والعقل لأنهما الطريق التي تأدينا منها إليه، ولكنه يشارك الموجودات في خصائصها الكونية كما يشترك الإنسان العاقل في خصائص المادة وخصائص سائر الأحياء على نحوٍ من الأنحاء.
•••
فالوجود على رأي هذا الفيلسوف درجات هي؛ «أولًا»: وجود الزمان والمكان، و«ثانيًا»: وجود المادة التي لا كيفية لها غير الشكل والحكم والعدد وما لا يحتاج إلى علاقة بغيره ولا حاسة مميزة لإدراكه، و«ثالثًا»: وجود المادة التي تتكيف باللون والرائحة والصوت ويبلغ بها التركيب مبلغ التميز بالحاسة التي تناسبها، و«رابعًا»: وجود الحياة وتبدأ بالاستجابة الحسية التي تشبه في ظاهرها استجابة بعض المواد — غير العضوية — لبعض المؤثرات، و«خامسًا»: وجود الحياة العاقلة الواعية، و«سادسًا»: وجود الإله الذي يعلو ويعلو مع الزمان الأبدي السرمدي بغير انتهاء.
•••
والرأي الذي يقول به المارشال كرستيان سمطس لا يطابق رأي الإسكندر في نتائجه القصوى ولا في مبادئه الأولى، ولكنه يلتقي في عقيدة الانبثاق والتركيب، بل يجعل الكون كله «تركيبات كاملة» تترقى في مراتب التركيب وتستجد لها صفة لم تكن معهودة فيها قبل ارتقائها من مرتبتها إلى المرتبة التي تعلوها.
فالذرة تركيبة، والعناصر الأولية تركيبة، والأخلاط الكيمية تركيبة، وكل جماد أو نبات أو ذي حياة تركيبة كاملة تلازمها صفات تناسب ذلك التركيب.
والحياة هي الصفة التي تناسب التركيبة العضوية، والعقل هو الصفة التي تناسب التركيبة الإنسانية، وكلما ارتقت التركيبة نجمت فيها خاصة جديدة لم تكن في أجزائها المتفرقة، أو في التركيبات التي هي أقل منها في طبقات الوجود.
أي أن الموجودات تستمد طبيعة التركيبة الكاملة من وجودها في الكون ثم يصبح الكون نفسه مفتقرًا إلى التركيب الكامل فلا يبلغه إلا من طريق التكامل والتراكب في تلك الموجودات.
وقد شهد سمطس الحرب العالمية الأولى وهو يشتغل بإنضاج هذا المذهب في نفسه وفي ذهنه، فلم تيئسه الحرب من طموحه إلى «الكون الكلي» بل رأى في محاولات عصبة الأمم عند إنشائها بشيرًا بتحقيق الطموح إلى التركيبة الإنسانية الكلية، وما هي إلا خطوة في مرتقى «الكون الكلي» الذي تتآخى فيه التراكيب كما تتآخى الأعضاء في الجسم الواحد، فترتفع أجزاؤه عن مرتبة التنافر والعداء، إلى مرتبة التآلف والصفاء.
وهذه الشعبة من مذهب الانبثاق لا تستلزم الإلحاد ولا القول بانبثاق الإله من مادة الزمان والفضاء، بل يسأل أناس من أساطينها: من أين تأتي الخاصة الجديدة كلما ارتقت التركيبات أو المجاميع الكاملة؟ فبعضهم يقول: لعلها من منقولات كون آخر غير هذا الكون، وبعضهم يقول: لعلها من الله.
وعند هويتهيد أن الكون يشتمل على حوادث لا على الأشياء، وكل حادث من هذه الحوادث يتجدد على الدوام ولكنه يحتفظ بالقدم كله من أقدم الأزمان، ولا يتأتَّى فصل حادث منه عن الكون بحذافيره لأنه مشتبك بكل ما في الكون من زمان ومكان.
وما الزمان؟
إن الزمان هو هذا التجدد نفسه وليس بوجودٍ مستقل عنه أو بظرفٍ له يحتويه ويسبقه أو يليه.
وما المكان؟
ليس هنا مكان معزول عن الحوادث التي تقع فيه، ولكنه هو الصورة التي ندرك بها الامتداد.
وفيما عدا هذه السلسلة الواقعية من الحوادث المتجددة لا يشتمل الكون على وجود آخر غير وجود «الكليات الممكنة»، فإن الحادثة يمكن أن تقع على صور متعددة، ولكنها متى وقعت فهي صورة واحدة، فتلك الصور المتعددة هي الكليات الممكنة، وهذه الصورة الواحدة هي الحادثة الواقعية، غير أن الكليات الممكنة ليست لها صفة في الوجود إلا بما يتحقق من الواقع في عالم الحدوث.
وعند هويتهيد أن الحادثة التي تبدو لنا شيئًا من الأشياء هي بنية عضوية كاملة التركيب، فالذرة نفسها بنية عضوية لأنها تختل وتفقد مشخصاتها أو «شخصيتها» إذا اختلف تركيبها، كما تختل بنية الحيوان إذا اختلف فيها تماسك الأعضاء.
وليس في الموجودات عقل وجسم منفصلان، وإنما العقل والجسم قطبان ملازمان لكل موجود، والترقي في التركيب هو الذي يرجح موجودًا على موجود بصفات الحياة والإدراك.
وهذا الترقي هو تكوين بنية حية جديدة، فمليون ذرة من الهيدروجين هي مليون بنية حيَّة متشابهة ولا زيادة، ولكن إذا اجتمعت مليون ذرة مختلفة وكملت باجتماعها بنية جديدة فهنا يظهر الرجحان في بنية على بنية، وهنا تنشأ في العالم حياة تساوي جملة أجزائها وزيادة، على خلاف المفهوم في الحساب، وهذه الزيادة هي تطور الفكر والحياة.
فليس الكل مجموع أجزائه في كيمياء الحياة، ذلك في الحساب صحيح، أما في كيمياء الحياة فكلما اختلفت الأجزاء وتكاملت بها تركيبة جديدة ظهرت فيها زيادة على تلك الأجزاء لم تكن ملحوظة فيها وهي متفرقة، ولكنه ظهور بعد كمون، وليس بوجودٍ بعد عدم، ولا بارتفاعٍ على غير أساس.
ويكمن في الحوادث مستقبلها كما يكمن فيها ماضيها؛ لأن المستقبل لن يخرج عن تجدد الحادثة بعد التوفيق بينها وبين الكليات الممكنة، فإذا اتفق الحادث الواقع و«الكلي» الممكن فتلك طريق المستقبل التي لا يعدوها.
ولولا «الكليات» الممكنة لكانت الحادثة الجديدة تكرارًا للحادثة السابقة بغير اختلاف، ولجاء التكرار آليًّا لا يوافق طبائع الأحياء.
تلك هي حقيقة الكون في مذهب هويتهيد وأساطين مدرسته التي تسمى تارة بمدرسة الكيان العضوي وتارة بمدرسة الواقعية الحديثة، فأين مكان الله من هذا الكون الذي يتخيله الفيلسوف؟ هل له مكان لازم فيه؟
نعم. له مكان لا تتم للكون حقيقة بغيره.
فتلك الكليات الممكنة ما الذي يقرر الخيرة بينها حين تصبح حادثة واقعة؟ تلك الكثرة المتعددة ما الذي يستخرج منها واقعة واحدة؟
هو الله.
وتلك الكيانات العضوية ما الذي يعادل بينها ويصاحب مرتقاها من تركيبةٍ كاملة إلى تركيبةٍ أكمل منها؟
هو الله.
ولكن الله في هذا الكيان العضوي الأعظم إنما يتولى التعديل والموازنة فيه على النحو الذي يتولاه دماغ البنية الحية، فهو يريد ويفعل، ولكنه لا يريد كل ما يشاء ولا يفعل كل ما يشاء، بل تأتيه دواعي الإرادة أحيانًا من تلك البنية، كما تأتيه منها دواعي العمل وميسرات التدبير والتصريف.
وإذا التفتنا من البلاد الإنجليزية إلى البلاد الأمريكية قابلتنا هناك مذاهب فلسفية تلاقي المذاهب البريطانية في جانبٍ وتفارقها في جانبٍ آخر.
تلاقيها في فكرة الإلهية المقيدة وفي العجز عن التوفيق بين وجود الإله القادر على كل شيء ووجود الشر والألم في العالم، وتفارقها في تعليل المشكلة والتماس المخرج منها.
وأشهر المذاهب الأمريكية وأجمعها لوجهات النظر المختلفة عندهم ثلاثة، وهي:
-
مذهب وليام جيمس ١٨٤٢–١٩١٠.
-
ومذهب جوسيا رويس ١٨٥٥–١٩١٦.
-
ومذهب جورج سانتيانا ١٨٦٣–١٩٤٨.
إلا أن المقدمات التي يستند إليها وليام جيمس لم تمنع عنده أن يكون في الوجود أكثر من إله واحد، أو أن يكون قصارى الإله الواحد أنه أكبر من الإنسان وأقدر على معونته من سائر الموجودات، فهو يقول في كلامه على صحائح الدين: «ويبدو لي أن معالجة الديانة ومطالبها العملية تجد كفايتها في الاعتقاد بوجود قوة أكبر من الإنسان تصادقه وتعطف على آماله، وكل ما تستلزمه الوقائع التي بين أيدينا أن تكون تلك القوة غير أنفسنا الواعية وأكبر منها وأوسع وأقوى، فكل قوة بهذه الصفة تغني إذا كانت فيها الكفاية للاعتماد عليها في الخطوة التالية، ولا يلزم من ذاك أن تكون قوة غير متناهية أو قوة منفردة، فقد يكون قصاراها أنها نفس أكبر وأقدس من نفس الإنسان تمثلها نفس الإنسان هذه تمثيلًا ناقصًا، ولا يكون الكون كله إلا مجموعة من تلك الأنفس الكبرى القدسية على درجات وأقدار مختلفة لم يجمع بينها كيان لا نهائي على الإطلاق، ويعرض لنا هنا تعدد الآلهة على نوعٍ من التعدد لا أدافع عنه في هذه الآونة لأنني أحصر مقصدي الآن في إقرار التجربة الدينية في حدودها الصحيحة …»
•••
فمسألة الاعتقاد في رأي جيمس مسألة «بخت» قد يعبر عنها البيتان المشهوران للمعري أحسن تعبير حيث يقول:
أما جوسيا رويس فمذهبه أقرب المذاهب الحديثة إلى «وحدة الوجود» لأنه يقول بأن الله ذات تتصل بكل ذات من هذه الموجودات.
فالعلوم لا تعرفنا بحقائق الكون الكبرى ولا تكشف لنا عن كنه المادة والحركة ولا عن كنه الزمان والمكان، وغاية ما نعلمه أن نرجع إلى معرفتنا بذاتنا فنستمد منها معرفتنا بالذات العظمى، وهي الله.
فما هي الذات الإنسانية؟ ما هي هذه «الشخصية المستقلة» التي نسميها «نفسنا» ونتميز بها مما حولنا؟
هبنا منفردين وحدنا في عالم لا نشعر فيه بحي ولا جماد ولا بأرض ولا سماء ولا يكون فيه ما يدخل في الوعي ويتعلق بالشعور، فهل يكون لنا يومئذ وعي أو شعور، وهل تكون لنا يومئذ نفس أو ذات؟ هل يكون لك وعي وليس هناك ما تعيه؟ وهل تكون لك ذات وليس هناك خلاف الذات؟
يقول رويس: كلا، إن الذات موقوفة على ما عداها، وإن وجودها هو وجود غيرها، وعلى هذا يصح أن يقال إن الذات لا تستقل بالوجود عن الأشياء وإن الأشياء لا تستقل بالوجود عن الذات.
فما نراه وما نذكر أننا رأيناه وما نتخيله أنه كائن أو يكون هو قوام «ذاتنا» وهو مِساك وعينا وشعورنا، وعلى قدر اتصال الإنسان بالموجودات تكون غزارة وعيه وسعة شعوره وعظمة ذاته، فالاتصال بالكون — أو الإتصال بالله — هو أكبر تحقيق للذات وأثبت إقرار للوجود.
والذات العظمى — وهي الله — هي التي تتصل بكل شيء وتحيط بكل شيء وتطلع على كل شيء، وهي كلية الوجود لأنها واعية لكل موجود، وقوام وعيها هو هذا الاتصال الذي يشبه اتصال الواعية الإنسانية بما حولها، ولكنه أوسع نطاقًا وأبعد أمدًا وأحرى بالخلود والدوام.
وهذه العقيدة الدينية هي عقيدة خلقية في صميمها؛ لأنها تجعل الإيثار وملابسة الأغيار معيار الحياة الواسعة و«الذات» المستفيضة والوجود الكامل والمناقب المأثورة، فمن فني في الذوات الأخرى فذلك هو الموجود حق الوجود، ومن فني في الله فذلك أعظم الأحياء.
•••
وتكملة الثلاثة بجميع معاني التكملة — هو جورج سانتيانا الذي لا يحسب فيلسوفًا في غير القارة الأمريكية، وفي غير الفترة الأخيرة من القرن الأخير.
فوليام جيمس يمثل الواقعية الفكرية في القارة الأمريكية، وجوسيا رويس يمثل المثالية الفكرية في تلك القارة، ويبقى بعدهما مكان فارغ لمن يمثل الواقعية الشعبية كما يفهمها جمهور كل يوم وكل مكان، بغير تفكير وبغير بحث طويل أو قصير.
ويعتبر سانتيانا تكملة للفيلسوفين بمعنى آخر يتعلق بالجنس الذي ينتمي إليه، فوليام جيمس أعرق في الأمريكية ورويس بريطاني حديث العهد بالقارة، أما سانتيانا فهو أسباني ولد في مدريد وعاش في جزر الفلبين وحضر العلم في لندن وحمل الجنسية الأمريكية مع غيره من المهاجرين، فهم في جملتهم يمثلون الخليط الأمريكي من عدة أطراف.
ونقول إن سانتيانا لا يحسب فيلسوفًا في غير القارة الأمريكية؛ لأن الأمريكيين الشماليين على التخصيص قد جعلوا لهم طابعًا معروفًا في كل مطلب من مطالب الحياة يتميز بالسرعة والاقتضاب والمساهمة في جميع تلك المطالب بمقدار، ومنها الفلسفة والفن والعلم والتاريخ، فللشعب هنا فيلسوف وفلسفة كما للشعب لاعب وملعب وصحفي وصحيفة ونصيب مقسوم من كل موضوع.
وسانتيانا هو فيلسوف «الشعب» غير مراء؛ لأن فلسفته لا تتطلب ملكة واحدة غير موفورة لجمهرة الشعب وأوساط القراء.
فالحس هو الحكم الأعلى في مسائل الفلسفة ومسائل العقيدة، وكل ما هو محسوس فهو حق أو فيه من الحق الكفاية لحياتنا في هذه الدنيا، وحسبنا «العقيدة الحيوانية» التي تفعم شعورنا بالثقة من حصول الحاصل كما نتناوله بحواسنا، وليس بالضروري لنا أن نمحص العقائد الدينية تمحيصنا للتجارب العلمية، ولا بالضروري أن نجحد الغريزة في سبيل العقل والمعرفة؛ لأن العقل ينسق الغريزة ولا يناقضها، فهذه العقائد الغريزية — ويسميها أحيانًا بالأساطير — هي أخيلة شعرية جميلة نتقبلها كما نتقبل الشعر المعجب والصورة المنمقة، ومن ضيق الصدر أن نتعصب عليها أو نلح في تفنيدها، فهي إن لم تكن قيمة علمية أو قيمة فلسفية فلا شك أنها قيمة فنية وقيمة شعورية، ولها الحق في الوجود بشفاعة الحس الذي تثيره والذوق الذي توافقه والأمل الذي ترضيه.
وهذه المادة التي يختلف الفلاسفة في صحتها لا ندري ما هي ولا يضيرنا أن ندعها للعلماء يكشفون لنا عن كنهها ويردونها إلى أجزائها أو إلى أصولها، ولكننا خلقاء أن ندعوها بالمادة ونكتفي بما نعرفه من اسمها ومسماها، كما تسمي صديقك «سميث» و«جورج» وغير ذلك من الأسماء وأنت لا تكشف عن شيء من أسراره وخباياه، ولا تحلل أجزاءه تحليل المعامل ولا تحليل القضايا المنطقية.
ولا ينكر سانتيانا نظام الكون ولا تناسق قوانينه، ولكنه يقول: إننا نحسب الكون منتظمًا لأنه الكون الذي وجدنا فيه وأخذنا منه العقول التي نفهم بها النظام، وهكذا كنا نحسب كل كون نوجد فيه ونقتبس منه عقولنا ومادة حياتنا؛ لأننا لا نستطيع الخروج منه لنقيسه على غيره، ومع هذا نرقب كل حركة منتظمة في دنيانا فهل نرى أنها تستوحي نظامها من حكم عقلية أو حكم أدبية؟ يسأل سانتيانا هذا السؤال ويقول في جوابه: كلا، بل هي الحكمة المادية التي نقابلها بالعقيدة الحيوانية ونستوفي حقها بالأخيلة والخوالج المشربة بروح التدين والإيمان، وأول ما يفهم من ذلك أن الإرادة الإلهية — إن وجدت — لا تريد أن تتراءى لنا على غير هذا المثال.
•••
وبعد فهذه خلاصات موجزة لمدارس الفلسفة البريطانية والأمريكية في العصر الحاضر، لم نؤثرها بالتلخيص لأنها أهم المدارس ولا أرجحها في ميزان الفلسفة، ولكننا آثرناها بالتلخيص لأنها تجمع الفكرة الغالبة من شتى أطرافها، وهي كما رأى القراء فكرة تقوم على قطبين أو تتسم بسمتين؛ «الأولى»: عجز الفلاسفة المحدثين عن التوفيق بين قدرة الله على كل شيء ووجود الشر والألم في خليقته كما يوجدان في هذا العالم.
و«الثانية»: محاولة الخروج من هذه المشكلة بتعميم قوانين التطور وإدخال الحقيقة الإلهية في نطاقها.
وليس في وسع أحد أن ينكر وجود الشر والألم في هذا العالم بأسره؛ لأن الأديان والفلسفات وشرائع الإنسان جميعًا تتلاقى في تحريم الشرور والمعاقبة عليها ومعالجة الخلاص منها، ولكن المطلوب من الفيلسوف — إذا تعذر عليه فهم العالم مع اعتقادنا القدرة الإلهية — أن يمثله لنا في صورة أقرب إلى العقل وأصح في النظر وأثبت في البرهان، وأن يكون إلهه معقولًا إذا زعم أن الإله القادر على كل شيء غير معقول.
وذلك ما لم يصنعه واحد من أولئك الفلاسفة ولا اقترب من صنيعه، بل لعلهم قد عرضوا على العقل الإنساني حلولًا لا يقبلها ببرهان ولا يقبلها باعتقاد، ولا يقبلها بتخمين.
ونحن لا نزعم أننا نحيط بحكمة الله فيما يلقاه الأحياء من العذاب والبلاء، وفيما يقع منهم أو يقع عليهم من الإيلام والإيذاء، ولكننا نبحث عن صورة للعالم أقرب إلى العقل من صورته هذه فلا تكمل له هذه الصورة عندنا، ولا نرى فيما افترضه الفلاسفة إلا إشكالًا يضاف إلى إشكال.
فعلى أي حال كانوا يفهمون وجود الله القادر على كل شيء إن لم يكن في مقدورهم أن يفهموه على هذه الحال؟
إما أن يكون ولا خلق معه على الإطلاق.
وإما أن يكون ومعه خلق كامل لا ينقص ولا يولد ولا يموت، ولا يشتهي ولا يحرم من باب أولى ما يشتهيه.
فأما أن يكون الله القادر على كل شيء ولا خلق معه على الإطلاق — فليس ذلك بأدل على القدرة ولا بأدل على الرحمة، ولا بالأمنية التي يرتضيها سائر الناس إذا ارتضاها الفلاسفة المتعللون على قدرة الله.
وأما أن يكون ومعه خلق كامل فليس له معنى إلا أنهم يطلبون من الله أن يخلق إلهًا آخر يماثله في الكمال والسرمدية والاستغناء، وكل فرض من فروض العقل البشري أقرب من هذا الفرض المستحيل.
وليس بالمعقول أن يكون خلق كامل لا يشكو ولا يتألم ولا يتحول ولا يتبدل إلا أن يكون إلهًا آخر يخلقه الله القادر على كل شيء قادرًا مثله على كل شيء، فإننا إذا تخيلنا ألف إنسان أو مليون إنسان أو ما شئنا من ملايين الإنسان مخلوقين جميعًا على قدرة الإله وكماله لم يكن هذا التخيل أسلم ولا أقرب إلى الصدق مما نراه في العالم على نظامه المعهود، ولماذا يستأثر هؤلاء بالحياة والدوام ونسمي ذلك عدلًا من الله بينهم وبين من هو قادر على خلقهم بغير انتهاء؟ وكيف يخلقون بهذه العدة وهم كاملون سرمديون وكل منهم في استغناء الله ودوامه بغير اختلاف؟
فإذا كان العقل لا يستريح إلى صورة الإله القادر على كل شيء، وليس معه خلق كثير ولا قليل، ولا سعيد ولا شقي على الإطلاق، وكان العقل لا يستريح إلى صورة الإله القادر على كل شيء يخلق إلهًا آخر قادرًا على كل شيء مثله، بغير فارق بين الخالق والمخلوق — فماذا بقي للعقل من صورة يستريح إليها بين هذه الصور غير صورة العالم كما عهدناه؟ وكيف يكون خلق محدود ولا يكون لتلك الحدود مظهر من النقص والألم والحرمان؟
إن هذه الصورة لهي أقرب صورة يقبلها العقل مع وجود الله القادر على كل شيء، وليست هي بالصورة التي تناقض وجوده وتَعْضُل على العقل في التخيل أو في التأمل أو في الاعتقاد.
إما إله ولا شيء.
وإما إله خالق وإله مخلوق بغير فارق بين الإلهين.
وإما هذا العالم كما عهدناه، ونحن نجهل عقباه أو لا نملك أن نقيس العقبى السرمدية على ما شهدناه.
ومع اقتراب هذه الصورة من المعقول لم تترك للعقل البشري يبتلعها بغير مسوغ من تجاربه المحدودة في حياته الفكرية أو حياته العاطفية أو حياته الاجتماعية على تعاقب الأجيال.
فقد يفصل بين الطفل وأبيه فارق عشرين سنة أو دون العشرين، وهذا الفارق الصغير هو الذي يسمح للأب في دخيلة قلبه أن يبتسم وهو ينظر إلى دموع ولده الذي يتولاه بالتربية والتأديب، ولا يعلم الأب من نفسه أنه قاسٍ غليظ، ولا الناس يعلمون فيه القسوة والغلظة من أجل هذا التباين في الشعور، ويكبر الابن نفسه فلا يتهم أباه؛ لأنه يبتسم لتلك القسوة المزعومة كما ابتسم أبوه وهو دامع العينين.
فإذا كان هذا ما نسمح به لفارق عشرين سنة، فبماذا نسمح لفارق الآباد والآزال؟ وما أجدَّ بكاء الطفل إلى جانب ذلك البكاء الهازل قياسًا على فارق العلم وفارق الزمان؟
وقد يحب الإنسان إنسانًا فيلتذ الألم والعذاب في حبه، ويتخذ من ألمه وعذابه غذاء لتلك المتعة النفسية وعلامة على الوفاء والإيثار، ويجوز أضعاف ذلك في شريعة الحب الإلهي إذا جاز ذلك وأمثاله في حب الإنسان للإنسان، فمن حق الوجود الإلهي أن يكون له في قلوب عارفيه حب لا يضارعه حب فانٍ محدود، نهواه لما نتخيله من صفات قلما تصدق في غير الخيال.
ونحن ننظر إلى حيز واحد من التحفة الفنية الخالدة فلا نرى فيها إلا بقعة تقبح في النظر أو قطعة من الحجر والطين، ولا نقيس التحفة الفنية مع ذلك على البقعة الشائهة في الحيز المحدود، ولو طال أجل هذا النوع الإنساني أضعاف مطاله لما كان في تلك البقعة الشائهة غير ذرة هباء، لأنه بقعة ضئيلة في صورة تتناول الدهور التي لا نحصيها والمكان الذي لا نستقصيه، فمن أين لنا أن نقيس جمال الصورة الأبدية على بقعة الحاضر كما تمثلناه؟ وكيف نحصر الآزال والآباد في لمحةٍ من حاضر عابر؟ وكيف نستوعب بالحواس ما تضيق به الحواس بل تضيق به العقول؟
ولقد كانت هذه «الفترة» الخاطفة في سعة الأبد الأبيد دليلًا حسنًا على ما سيكون أو يرجى أن يكون؛ لأننا أيقنا بما أحصيناه فيها أن آلام الأحياء ليست بالآلام الجزاف على غير طائل، فهي وسيلة الارتقاء والانتقاء، وهي التفرقة التي لا تفرقة غيرها بين الفاضل والمفضول وبين المحمود والمذموم، وهي مزيج يذاق به طعم الحياة وبغيره لا يعرف لها طعم ولا مذاق.
فهذه المؤلمات في دنيانا لا تعوق العقل عن إدراك الإله القادر على كل شيء؛ لأننا لن ندرك صورة أخرى هي أقرب إلى عقولنا من هذه الصورة التي لا تناقض فيها، وهي تنفي التناقض الذي يواجه عقولنا من غيرها: تنفي تناقض القول بأن الله قادر على كل شيء ولا يخلق شيئًا، وتنفي تناقض القول بأن الله لا مثيل له ويخلق إلهًا آخر يماثله بغير خلاف.
•••
ومهما يبقَ من مشكلة السر — مع هذا التفسير أو بغير هذا التفسير — فالكون الذي يخلقه إله قادر على كل شيء وتديره حكمة تتعالى على العقول — أقرب إلى القبول من الإله المتطور عن المادة العمياء؛ لأنها موجودة منذ القدم على النحو الذي يخرج منها الآلهة، فلماذا تخرج منها الآلهة بعد دهورٍ متتابعة؟ وكيف نقدر لزومها لإخراج الآلهة ومن هم دون الآلهة من الأحياء؟!
فهذه الآلهة المتطورة لن تثبت لنا بالبرهان المنطقي القاطع، ولن تثبت لنا بالتجربة العملية، ولن تثبت لنا بالإيمان؛ لأنها لا توافق طبيعة الإيمان.
وكل ما فيها أنها تخمين يلفقه الخيال ويلتمس له القرائن والشبهات من بعض الظواهر العلمية التي لا تستقر في تفسيراتها وتأويلاتها على حال.
ونحن نحاول أن نفهم «التطور» في كون غير محدود فلا نستطيع أن نفهمه ولا أن نقربه إلى المفهوم؛ لأن الكون «غير المحدود» لم يبدأ في زمن معلوم فيقال إنه يحتاج في تطوره إلى زمنٍ معلوم، ولم يبدأ منقوصًا من بعض صفاته وقواه فيقال إنه قد استتم هذه الصفات والقوى في طريق التطور والارتقاء، ولم يبدأ حركته في خط مستقيم فيتحرك من نقطة إلى ما بعدها في الزمان أو المكان، فكل تطور فيه فهو قول يحتاج إلى تصديق لا يحتاج إليه دين من الأديان.
وإذا تجاوزنا عن هذا فنحن لا نفهم التطور في الكون المادي إلا بالقياس إلى مخلوقٍ ذي حياة، ثم بالقياس إلى حادثٍ مقصود قبل وقوعه بأزمان.
فلماذا يكون الماء أرقى من الهيدروجين والأوكسيجين؟ لا يكون كذلك إلا إذا قدرنا أنه أنسب لتقويم بعض الأحياء؛ لأن السيولة ليست أرقى من «الغازية» وليست ممتنعة على الغازات، وإذا قيل إنها أجمل في منظرها فهو قول مشكوك فيه، ولن يكون الحكم فيه إلا لحي من الأحياء.
ولماذا تكون المشمومات والمنظورات والمسموعات أرقى من ذوات الحجوم والأشكال بلا رائحة ولا لون ولا صوت؟ لا تكون كذلك إلا إذا كانت الحياة هي معيار التطور والارتقاء بين جميع الموجودات، وكانت مقدورة على نوعٍ من التقدير قبل ظهورها بأزمان.
ولماذا تكون الكواكب الدوارة أجمل من السديم المتوهج الهائم في أجواز الفضاء؟ إنها لا تكون كذلك إلا لأنها أصلح لمعيشة الحي في بعض أدوارها، وأجمل في النفوس والعيون.
بل لماذا يحسب التحول من دور الاشتعال السديمي إلى دور «التكوكب» ضربًا من التطور والارتقاء؟
إنه في وضعه «العلمي» نوع من الدثور والهمود؛ لأنه علامة على تسرب الحرارة وتفرق الطاقة ونزوع المادة إلى الجمود، فإذا كانت هذه الخطوة مقدمة لظهور الحياة لانحلال القوى — فتلك علامة القصد والتدبير وليست علامة «القانون الآلي» المطرد في مجاهل الضرورة العمياء.
وغاية ما أثبته هؤلاء الفلاسفة «التطوريون» أن العقل أرقى من الحياة، وأن الحياة أرقى من المادة، وأن العالم يستقيم في طريق الارتقاء.
فلماذا يكون نصيب الكون من العقل هو النصيب المحدود، ويكون نصيبه من المادة منذ القدم الذي لا أول له نصيبًا غير محدود؟
إن هؤلاء «الفلاسفة» كثيرًا ما يعيبون على المعتقدين بالأديان أنهم يخلعون التصورات الإنسانية على حقيقة الله وعلى حقيقة الوجود، وأنهم يتصورون الله خالقًا كما يتصورون الإنسان في خلقه لبعض المصنوعات.
وواقع الأمر أن هذه «العادة الذهنية» تلازم أولئك الفلاسفة وهم يهربون منها؛ لأنهم يتصورون الكون كما يتصورون الإنسان في مراحل حياته: يتصورونه طفلًا فصبيًّا فيافعًا فشابًّا فرجلًا فكهلًا يترقى في ملكات الجسم والعقل يومًا بعد يوم وعامًا بعد عام، يتصورونه كذلك وينسون أنهم فرضوه كونًا غير محدود في قوة ولا أجل ولا اتساع، فكيف ينمو نمو الأحياء المنظورة إلى آجال؟ وإلى أي غاية يترقى وليست هناك غايات ولا بدايات؟ وإذا بلغ غاية «العقل» في الزمان الذي لا نهاية له فهل يصبح العقل بعد ذلك مقيدًا بأحكام المادة كأنه لا يزال ذلك الوليد المتعثر في عجز الطفولة؟ أو يصبح قادرًا على كل شيء بعد فوات الفرصة السانحة للقدرة على كل شيء؟ أي يصبح قادرًا على كل شيء لكيلا يقدر على شيء من الأشياء، ولا يجد أمامه ما يعمله غير النظر إلى ما كان كما ينظر إليه العاجز عن جميع الأشياء! فينشأ العقل الإلهي عبثًا بعد الاستغناء عنه وتمام كل شيء بغير حاجة إليه.
•••
وحال الفلسفة الفرنسية الحديثة كحال زميلتها الفلسفة البريطانية والفلسفة الأمريكية، مع فارق في المعنى دون الاتجاه.
فأكبر الفلاسفة المحدثين في فرنسا هو هنري برجسون صاحب مذهب التطور الخالق، ولعله قد سبق الفلاسفة البريطان والأمريكان إلى التنويه بشأن التطور في الحكمة الإلهية، ولكنه يخالفهم في رأيين جوهريين: وهما التفرقة بين الزمان والمكان، والتفرقة بين المادة والروح.
فعندهم كما رأينا أن الزمان والمكان وحدة لا انفصال فيها، وأن الروح خاصة من خواص المادة أو طور من أطوارها المكنونة.
أما برجسون فيرى أن الزمان غير المكان، وأن الروح غير المادة، بل إنهما متعارضتان متناقضتان، والحياة في رأيه أقرب إلى عنصر الزمان منها إلى عنصر المكان؛ لأنها حركة لا استقرار فيها، وأمكن ملكاتها — وهي الذاكرة — إن هي إلا زمن مخزون، وكذلك الغرائز الحيوية في بعض الأحوال.
ومعدن المادة في رأيه غير معدن الروح لأن الروح صاعدة حرة، والمادة هابطة مقيدة، وليس أدل على تناقض الطبيعتين من تعليل الضحك في رأيه، فنحن نضحك إذا رأينا إنسانًا يتصرف تصرف الآلة المادية؛ لأنه تصرف لا يحسن بالحياة، ونحن لا نضحك من مادة ولا من حشرة مسلوبة الحرية، ولكننا نضحك من «ذي روح» يتصرف تصرف الجماد.
والعقل الإنساني أعرف بالحقائق المكانية، ولكنه لا ينفذ إلى بواطن الحركة «الزمانية» في صميمها، وإنما تنفذ إليها «البداهة» وهي أرقى ما ترتقي إليه الغرائز الحيوية، إلا أن برجسون لا يقيد العقل بالدماغ كما يفعل بعض الفلاسفة الماديين أو الفلاسفة الآليين: بل يقول إن العقل قد يفكر بغير دماغ، كما يهضم بعض الأحياء بغير معدة، فليست مادة الدماغ هي مصدر العقل الأصيل، وما هي إلا أدة تتهيأ لتوجيهات العقل بعد استعدادٍ طويل.
واعتمادًا على تعليق الحياة بعنصر الزمان يبسط الفيلسوف أوسع الآمال على مستقبل الحياة في الزمان الباقي إلى أبد الأبيد، فقد تعلو الحياة حتى تتغلب على الموت، وقد يسمو العقل حتى يحطم قيود المكان أو قيود المادة التي هي عنده ألصق بعنصر المكان.
أما «الخالق» في مذهب برجسون فليس كما صوره أصحاب العقيدة الدينية ولا كما صوره أصحاب الفلسفة الآلية.
أولئك قد شبه لهم عمل الخالق بعمل الإنسان فحسبوا الكون مصنوعًا من مصنوعات إنسان كبير ليس له انتهاء.
وهؤلاء رانت على أفكارهم غاشية الصناعة فحسبوا الكون على مثال الآلات الضخام التي تدار بالبخار أو الكهرباء في دقةٍ وإحكام.
ومفصل القول بين الفريقين على مذهب برجسون أن القوة الخالقة — أو التطور الخالق — موجود «في الكون» وليست موجودة خارج الكون، وأنها حركة دائمة تلقى العنت من مقاومة الجمود الدائم، وهو جمود المادة الصماء.
على أن المشكلة الكبرى كما قدمنا هي اعتقادهم أن القوة الخالقة هي «في الكون» وأنها مقيدة به ثم يأتي منها الخلق على أطوار.
فلماذا يأتي خلقها على أطوار مع الزمان؟ لماذا لا يحدث دفعة واحدة من أزل الآزال؟
أهي تزداد وتنتصر؟ أم أن المادة تنقص وتنهزم؟ إن المعسكرين والسلاحين والجيشين والقيادتين كلها قائمة من عهد ليس له ابتداء، فَلِمَ التطور؟ وَلِمَ التغير في الزمن؟ وما هي العقبى بعد النصر المبين من هنا والخذلان المبين هناك؟
•••
وننتقل من الفلسفة الإنجليزية والفسلفة الفرنسية إلى فلسفة الجرمان، فلا نرى هنالك مذهبًا أفضل من هذه المذاهب في إدراك الحقيقة الإلهية وتفسير الطبيعة وما بعد الطبيعة على وجه يرضي العقل ويريح الضمير.
وقد تلخص الفكرة الإلهية بينهم بتلخيص الآراء التي رددها أشهر مفكريهم إلى مطالع القرن العشرين، ويكفينا منهم ثلاثة هم نيتشه وهارتمان وشبنجلر، وهم الذين قرروا في مسائل ما بعد الطبيعة رأيًا مستقلًّا لا يحسب شرحًا من شروح الكثلكة أو البروتستانتية، ولا يحسب حاشية على مقاييس المنطق ومعايير العلوم.
فعند نيتشه ١٨٤٤–١٩٠٠ أن الله «قد مات»، وأن الشجاعة هي الدين الذين ينبغي أن يتدين به كل إنسان جدير بالحياة؛ لأن الشجاعة ألزم ما يلزم النفس من خليقة — أو عقيدة — في عالم خلا من الله، ويرى نيتشه أن العالم — كقوة — لا يتأتَّى أن يُتخيل بلا حدود؛ لأن فكرة القوة التي لا حدود لها تناقض فكرة القوة ذاتها في الصميم، ومن هنا تعدم الدنيا وسائل التجديد الأبدية، وتتكرر فيها الكائنات ولا يزالون متكررين بغير انتهاء، وهذا التكرار هو عوض نيتشه عن البعث في نعيم السماء؛ لأن الأمل في ذلك النعيم هو عزاء الضعفاء الذين تنكرت لهم حياتهم الدنيا، ففيه إلغاء للحياة وليس فيه كذلك التكرار إثبات للحياة.
وعند إدوارد فون هارتمان أن الله ليس بذات وأنه غير شاعر بنفسه أو صاحب «أنا» تتشخص في كيان؛ لأن الذاتية والأنانية أبعد شيء في رأي هارتمان عن القداسة الإلهية، ولكن الكون فكرة وإرادة، وهما يقابلان عنده إله النور وإله الظلام عند المجوس، فالشر كله من عالم الإرادة وهو عالمنا الذي نعاني فيه الآلام والآثام، وإنما تمتحن الفكرة بالإرادة لتعود إلى صفائها مجردة عن الوعي ومنزهة عن الذات، وليس بالمستغرب في مذهب هارتمان أن يكون للإرادة قصد دون أن يكون لها وعي وشعور بما تقصد إليه؛ لأن الغريزة الحيوانية — وهي وليدتها البارزة — تقصد إلى غاية ولا تعي ما تقصد إليه.
وليس الله في رأي شبنجلر ١٨٨٠–١٩٣٦ إلا «إرادة» على عادة الألمان المحدثين في ترجيح الإرادة على الفكرة، ففي كلامه عن كيان الروح من كتابه «انحدار الغرب» يقول: «إن الله بالنسبة إلينا — الله الذي هو سعة العالم والذي هو القوة الكونية، والذي هو الفعال الوهاب على الدوام، والذي ينعكس من فضاء العالم إلى فضاء الروح القائم بالخيال، فلا تحسه بالضرورة إلا حضورًا واقعيًّا — هو ولا مُشَاحَّةَ إرادةٌ، ويقترن بالثنائية المجوسية في العالم الأصغر وثنائية الروح والنفس وثنائية فوما وسيكي اليونانيتين — ثنائية لازمة من الله والشيطان، أو من أرمزد وأهريمان عند الفرس، ويهوا وبعلزبوب عند اليهود، والله وإبليس عند المسلمين، أو ثنائية الخير المطلق والشر المطلق بالإيجاز، ولتلاحظ فوق هذا كيف يبهت هذان الضدان معًا في إحساس الغرب بالوجود، وعلى قدر ما تتراءى الإرادة في الصراع القوطي على السيادة بين الذهن والعزيمة لتقرير مركز للوحدانية الروحية — تضمحل صورة الشيطان من الدنيا الواقعة، أما في طراز القرن الثامن عشر فوحدة الوجود التي انعكست على العالم الخارجي من عالم النفس أسفرت عن التقابل بين كلمة «الله» وكلمة «الدنيا» ودلت تمام الدلالة على ما يراد بالتقابل بين الروح والإرادة، وهي القوة التي تحرك كل ما يقع تحت سلطانها، ولا استثناء للإلحاد من هذا الشعور؛ فإن الملحد أو الدارويني الذي يتكلم عن الطبيعة التي تنظم كل شيء وتنتخب ما تشاء وتوجد وتفني ما تشاء لا يخالف المؤمن بالله من أبناء القرن الثامن عشر إلا بمقدار لفظة واحدة؛ لأن الشعور بالدنيا لم يطرأ عليه تغيير، وما هو إلا أن يتحول العقل من الدين إلى العلم حتى تبدو لنا الأسطورة المزدوجة في إصلاح الطبيعيات والنفسيات، فالقوة حين تقابلها المادة والإرادة حين تقابلها الرغبة أو الشهوة لا تستند إلى تجربة خارجية وإنما تستند إلى شعور حيوي كمين، وما الداروينية إلى صيغة سطحية لهذا الشعور، ولن تتخيل إغريقيًّا يستخدم كلمة الطبيعة بالمعنى الذي يستخدمه البيولوجيون كأنها نشاط مطلق منظوم، وما قولنا إرادة الله إلا من قبيل الحشو والتكرار؛ لأن الله — أو الطبيعة كما يقول بعضهم — ليس إلا إرادة، وقد نَفضت فكرة الله بعد عهد الإصلاح ملامح الشخصية والحسية وأوشكت أن تتمثل كأنها اتساع الفضاء الذي ليس له انتهاء، فأصبحت بمثابة الإرادة الكونية المتعالية على الكون، ولهذا وجب أن يتنحى فن التصوير منذ حوالي سنة ١٣٠٠ لفن الموسيقى؛ إذ هو الفن الوحيد القادر في النهاية على التعبير الواضح عما نشعر به من فكرة الله …»
•••
وكذلك يتلاقى هؤلاء الفلاسفة المتفرقون عند توكيد الإرادة في الحقائق الكونية والصفات الإلهية، فالإرادة — أو «السلطة» بعبارة أخرى — هي الحقيقة الكبرى في أصول الوجود.
وذلك هو موضوع العبرة التي تنطوي على عظات كثيرة للعقول، فإن توكيد السلطة في المذاهب الجرمانية، وتوكيد الإلهية «الدستورية» في البلاد الإنجليزية لم يأت من مجرد اتفاق.
وموضع العبرة هنا أن الفلاسفة المحدثين يأخذون على المتدينين أنهم يدخلون المشابه الآدمية في فهم الحقائق المجردة، فينسبون إلى الله صفات وأعمالًا لا تصدر إلا من الإنسان، ويتخذون ملك الأرض نموذجًا يقيسون عليه ملك الوجود، ويفخر أولئك الفلاسفة بالترفع عن هذه «العادة الذهنية» والتخلص من هذا الخلط بين المحسوس والمفهوم، أو بين المجسمات والمجردات، ولكنهم كما رأينا لا يخلصون من أسر المشابه، ولا يسلمون من الخلط بين «الحكم الأرضي» كما يحسونه «والتدبير الكوني» كما يتخيلونه وهم يحاولون التجرد عن ضلالات الحس والخيال، فالإرادة في المذاهب الألمانية هي كل شيء بين الأرض والسماء! وهي الله أو هي القوة المسيطرة على الوجود، وهي أحيانًا قوة عمياء غير واعية ولا شاعرة بما تعمل وما تريد؛ لأن السلطة الغاشمة قوة عمياء.
أما هذه «الإرادة» فلا إطلاق لها في المذاهب الإنجليزية الحديثة؛ لأن إرادة الحاكم لا تنطلق من جميع القيود في الحكومة الدستورية، فهي عند فلاسفتهم مشمولة بنظامٍ واحد يسري على سائر الموجودات.
فالمشابه الآدمية لا تفارق هؤلاء الفلاسفة الذين يفخرون بالتجريد والتنزيه، ولا نظن أن الإرادة العمياء تظفر بكل هذا التوكيد في المذاهب الجرمانية وتلقى كل ذلك التقييد في المذاهب الإنجليزية والفرنسية لو كان فلاسفة الفريقين قد تجردوا حقًّا من وحي المشابهات والملابسات.
•••
وبين الْعُدْوَتَيْنِ مع ذلك برزخ التقاءٍ تتماثل فيه مذاهب الفريقين؛ فإن النزعة الغالبة في الدراسة النفسية بين الألمان والإنجليز هي نزعة القول «بالتركيب» أو بالتركيبة الكاملة التي تتقدم في الاعتبار على الأجزاء والمفردات.
وخلاصة هذا المذهب أن «الكل» سابق على الأجزاء في تلقي المحسوسات، وأن علم الإنسان بالكون لا يأتي من جمع المفردات بل من وعي المركبات، وما من مركب في قولهم إلا وهو مجموعة من مركبات أخرى يقسمونها إلى خمسة أقسام تختلف في الدقة والإحكام.
فمنها المركبات المادية «غير العضوية» كالحجارة وفقاقيع الصابون، ومنها المركبات الصناعية كالآلات وقطع الأثاث وأعشاش الطيور، ومنها المركبات العضوية وتشمل كل بنية ذات حياة، ومنها المركبات المتداخلة كاللحن الموسيقي الذي يتألف من نغمات أو كالعبارة المفهومة التي تتألف من كلمات، ومنها المركبات الجماعية كالأمم والقطعان والأسراب.
والعقل قد خلق ليدرك الأشياء مركبة ثم يحللها متى سنحت له حاجة إلى تحليلها، فهو يعول في إدراكه على ما يسمونه البصيرة أو الفطنة النافذة، وليس تعويله الأكبر — كما وقر في الأذهان قبل ذلك — على أشتات الإحساس وأجزاء المفردات.
فإن لم تكن ثمة فطنة نافذة تبادر بإدراك «الكل» فلا إدراك ولا تذكر ولا خيال، والحيوان الأعجم — كالقطة مثلًا — نعلمها أن تحل الشبكة بيديها فتحلها بأسنانها إذا عاق يديها عائق، ولولا أنها نفذت إلى «الشيء» جملة واحدة لما اهتدت إلى هذا الابتكار، فليست العقدةُ في كَمِينِ إدراكِها حركةَ يدٍ تُلامس خيطًا ولا تعدو هذه الحركة، ولكنها شيء تنفذ إليه جملة بإدراكها جملة فلا يتوقف على الإحساس بالمفردات.
ومن العبث أن تقصر الالتفات إلى جزءٍ واحد وتضم إليه جزءًا من هنا وجزءًا من هناك وتزعم أنك قد أحطت «بالكل» من طريق الأجزاء، وإنما الطريق المستقيم أن تنفذ إلى الكل وتعرف موضع الأجزاء منه ومرجعها إليه؛ إذ لا يقف جزء قط على انفراد، ولا يخلو جزء قط من علاقة يؤثر بها في غيره ويتأثر بها من غيره وتتجاوب فيها جميع الأجزاء كما تؤلف بينها التركيبة الكاملة أو البنية المتماسكة.
وارتباط هذا المذهب بالحكمة الإلهية أنه مرتبط بِكُنْهِ العقل وَكُنْهِ الجسد، وأنه يضع العقل في الموضع الوسط بين جماعة الآليين وجماعة القصديين أو القائلين بإمكان عزل العقل عن العوارض الجسدية.
فجماعة الشكل المركب أو جماعة «الجستالت» وسط بين فريق الآليين وفريق القصديين؛ لأنهم يثبتون للعقل وجودًا لا يتوقف على الإحساس، ويتشعبون بعد ذلك شعبتين متقابلتين، فمن فهم أن العقل كُنْهٌ مجرد قد يستقلُّ عن الحواس كما يستقل عن الإحساس قال بالقصد وتأثيره في أعمال الإنسان، وقال فوق ذلك بالعقل المطلق وتأثيره في حركات الكون وعوارض الأجسام والنفوس، ومن فهم أن الفرق كله فرق بين تلقي المركبات وتلقي الأجزاء، وأن الفواعل الجسدية كافية لتفسير الإدراك العقلي على اختلاف مصادره، فهو ينكر محل العقل المجرد ويحسب في مسألة الخلق والخالق من زمرة الآليين والماديين.
•••
ولم تخلُ القارة الأوروبية من مذاهب أخرى غير هذه المذاهب ظهرت في البلاد السلافية كالروسيا وبولونيا، أو في البلاد التيوتونية كالدنمرك والسويد والنرويج، أو في البلاد اللاتينية كإيطاليا وأسبانيا وبعض بلاد البلجيك، ولكنها على الأكثر بين مذاهب مادية بحتة تقف عند حد الإنكار ولا تتعداه، وبين نظرات خاصة في الديانة المسيحية تنضوي تارة إلى كنيسة من الكنائس المعروفة، أو تنفصل عن الكنائس جميعًا وتكتفي من الديانة بالعقيدة الفردية دون شعائرها الاجتماعية.
فلا نحسبنا بحاجة في هذا السياق إلى تخصيص مذهب منها بالذكر غير مذهب واحد لا يدخل في الإنكار البحت ولا في التفسيرات الدينية البحتة، وهو مذهب «بنديتو كروشي» الإيطالي الذي يلقب بهيجل الحديث؛ لأنه يدين بالفكرة مثله ويخالفه في شرح أطوارها التي تتجلى بها في العالم.
وخلاصة مذهب كروشي — فيما نحن بصدده — أن الفكر هو الوجود المحقق الذي لا شك فيه، وأن الفكر الأبدي يتجلى في حلقات متوالية ينسخ بعضها بعضًا وتتجه جميعًا إلى مجاهدة الشر والغلبة عليه، وأن هذه الأضداد المتناسخة بعضها ضد لبعض، ولكنها ليست بضد «للوحدة» الكاملة التي تنطوي فيها جميع الأضداد، وأن الأديان طور من أطوار الفكر، ولكنها خطوة مترقية من خطوات الأساطير الأولى في تقدم الإنسانية إلى الفكر الصحيح، ولا محل للأديان في رأيه بعد ارتقاء الفلسفة وتجردها من بقايا الأساطير. قال في الفصل الأخير من كتابه أدب الحياة أو مسالك الحياة: «إن العصر الذي نعيش فيه يتهم بهدم الديانات التي أصابت فيها الحياة الإنسانية منطقها وآداب سلوكها ومواطن استقرارها وأمانها، إلا أنها تهمة لا ثبات لها؛ لأن عصرنا بهذا الذي صنعه قد صنع شيئًا لا قبل له باجتنابه؛ إذ لم يكن هنالك بد من تساقط بعض الجوانب القيمة من البنية القديمة في خلال تعرية الديانات من جلابيب الأساطير، وفي هذه الجوانب أفكار نفيسة وفضائل لا يسهل تقويمها مما كان متصلًا بالقضايا الأسطورية، ولكن عصرنا قد بادر إلى استخلاص هذه الأفكار والفضائل ووضعها في المكان اللائق بها بعد صقلها وتنظيفها وإثباتها في أركان صرح جديد هو أرسخ وأنبل وأوسع وأقوى من صرحها المهدوم، وإنه لفخر عظيم لجيلنا هذا أن يفلح في تأسيس ديانة إنسانية، وعقيدة مصفاة تبزغ من محض الفكر الصراح، ولكنه فكر تتجسم فيه الحياة أو يسخو بالجديد من الحياة.»
•••
- أولًا: أن الإيمان بأن «الفكر» هو الحقيقة المطلقة عجيب جد العجب مع القول بأن المادة تقف في طريق الفكر وهي وجود «غير صحيح» وهو هو وحده الوجود الصحيح، فالذين يقولون: إن المادة متلبسة بالفكر مشتملة عليه يقولون شيئًا مفهومًا حين يتخيلون أن الفكر متوقف على أطوار المادة وإن كانت هذه الأطوار زعمًا غير مفهوم، أما الذين يعرفون للفكر حقيقة مطلقة فلا يقولون شيئًا مفهومًا حين يتخيلون أن الفكر يزداد أو يترقى من مغالبة «وجود» غير صحيح.
- وثانيًا: أن الأبدية أو «اللانهائية» ليست مجموعة الحلقات المحدودة؛ لأن مجموع المحدود محدود، وليس امتداد فترة من الفترات بجاعلها في النهاية أو البداية شيئًا بلا انتهاء ولا ابتداء، وإنما الأبد فوق «المحدودات» وليس بمجموعة المحدودة بالغة ما بلغت من التعدد والاستطالة والاتساع، وما كان الأبد شيئًا يسبق هذه المسافة من الزمان أو يلحق بتلك المسافة من الزمان، ولكنه شيء يحتوي الزمان والزمان لا يحتويه، أو شيء لا يعد الزمان قطعة منه؛ لأننا إذا أخرجنا هذه القطعة من حسابه لم يخرج منه شيء ولم يكن في موضعها فراغ.
- وثالثًا: أن عنصر الأسطورة غير عنصر العقيدة، وعنصر العقيدة غير عنصر الفلسفة أو المعرفة العقلية على العموم، فإن الأسطورة — إذا انعزلت عن العقيدة — لم تكن إلا تشبيهًا فنيًّا يعوزه الرخام أو ريشة التصوير، أما الفلسفة فهي معرفة بالكون، وليست كالعقيدة إحساسًا بالكون، فقصارى الفلسفة أن يعلم الإنسان أن الله موجود، وليس هذا قصارى التدين أو الاعتقاد، ولو كان هذا قصارى الإنسان من الاعتقاد لأغناه وجود الكون الأعظم وهو موجود لا شك فيه، ولكنه يعتقد بالله ليشعر بالصلة بين نفسه وبين الله وبين الله وبين نفسه، أو ليشعر بأن الله يعطيه الحياة لا بأن الله يأخذ حياته الأبدية منه ومن سائر الكائنات.
فالأسطورة والديانة والفلسفة ليست حلقات متوالية في سلسلة واحدة؛ لأن الأسطورة لا تزال باقية في تعبيرات الشعر والفنون وفي كل تشبيه يراه الخيال في اليقظة أو في المنام، ولأن الفلسفة قد تقول كل ما عندها ولا تستأصل بذلك عنصر العقيدة من الوجدان، وقد تمحو العقيدة أو تفسدها ولا يلزم من ذلك أن تكون بديلًا منها أو خطوة تالية لخطوتها، فليست قدرة الفلسفة على تفنيد بعض العقائد دليلًا على أنها عقيدة من عنصرها، بل هي دليل على أنها تفسح المكان لعقيدة أخرى لا تبطلها الفلسفة ولا يكون بينها وبين الفلسفة علاقة النقيض بالنقيض.
وفحوى ذلك كله بكلمةٍ موجزة أن الفلسفة والديانة ليستا بالنقيضين، ولكنهما ليستا بشيءٍ واحد، فقد يوجد الشيئان المنفصلان ولا يتناقضان.
على أننا نحاول أن نستخلص من هذه المذاهب جميعًا زبدتها التي تُستمد من كل واحد منها، فيبدو لنا أنها تُفضي بنا إلى نتيجتين واضحتين: فالنتيجة الأولى أنها «تدين» كلها بالتطور أو بالتغير من بساطةٍ إلى تركيب ومن وضيعٍ إلى رفيع.
ولكن لا سبيل إلى التطور ولا التغير إذا كان الكون كله مادة سرمدية لا مصدر لها ولا غاية؛ إذ كل ما فيه اليوم قد كان فيه كل يوم، فإذا لم يكن وراءه عقل يصرفه ويملك مقاديره فلا معنى للتطور فيه، أما تصريف العقل له فلا ينقضه أن تغيب عنا علل التصريف والتقدير؛ إذ اللازم منطقيًّا أن المادة الأبدية لا تزيد ولا يجد عليها جديد، ولكن ليس من اللازم منطقيًّا أن نحيط بكل ما يحيط به العقل المدبر لجميع الوجود.
والنتيجة الثانية أن العلوم التجريبية كانت ثورة على العرفان من طريق الفلسفة القديمة وعلى العرفان من طريق المنطق والقياس بغير تجريب، وإن هذه الفلسفات الحديثة جاءت ثورة على العلوم التجريبية وعلى دعوى هذه العلوم أنها دون غيرها مصدر المعرفة الصحيحة بالكون والحياة.
والثورة على الثورة أقرب إلى الإقرار منها إلى الإنكار.
فإذا لاح للوهلة الأولى أن هذه المذاهب الفلسفية إمعان في إنكار العقيدة والإيمان فالنظرة التالية قد ترينا فيها مغزى غير ذلك المغزى واتجاهًا غير ذلك الاتجاه.
إذ هي إقرار لوسائل المعرفة التي تأتي من غير طريق التحليل والمشاهدة الحسية، واعتراف للنفس بحق في الحكم على الوجود والموجودات لا يتوقف على المعمل والمشرط والمنظار.
وذلك عود إلى حق النفس في الإيمان، وفتح لباب الإلهام والبديهة، بعد أن أوشك الحس أن يغلقه ويقيم عليه الأرصاد.
ولن تفتح باب الإلهام طويلًا دون أن يطرقه الطارق المأمول.