خاتمة المطاف
مهما يكن من تشعب الرحلة التي قضيناها على صفحات هذا الكتاب، فهي نقلة يسيرة بالقياس إلى الرحلة الإنسانية الكبرى في هذا السبيل، ولعل ما بقي منها أضعاف ما سلف؛ لأن السعي إلى الحقيقة الأبدية لن يزال سعيًا موصولًا في كل جيل.
وقد أوجزنا وكان لا بد لنا من أن نوجز، ولكننا توخينا في الإيجاز ألا يتخطى حَدَّ الضرورة، وَحَدُّ الضرورة هو أن يكون البيان كافيًا للإشارة إلى الوجهة العامة وأن يكون كافيًا لتقرير النتائج التي يرتضيها العقل ويتطلبها الضمير، سواء من جانب العقائد الدينية أو من جانب المباحث الفكرية.
وخاتمة المطاف قد تنتهي بنا إلى النتائج الآتية، وهي «أولًا»: أن التوحيد هو أشرف العقائد الإلهية وأجدرها بالإنسان في أرفع حالاته العقلية والخلقية، ولكن الإنسان لم يصل إلى التوحيد دفعة واحدة، ولم يفهمه على وجهه الأقوم عندما وصل إليه، بل تعثر في سعيه، وأخطأ في وعيه، ولم يزل مقيدًا بأطوار الاجتماع وحدود المعرفة عصرًا بعد عصر وحالًا بعد حال، فلم يُلهم من هذه العقيدة إلا بمقدار ما يفهم، ولم يهتد إلى خطوة جديدة فيها إلا بعد تمهيد أسبابها وتثبيت مقدماتها، فكان الإيمان مساوقًا للخلق والعرفان.
وليس في ذلك كله ما يقدح في الغاية البعيدة التي يؤمها من وراء هذه الخطوات، وليس في جميع هذه الأخطاء ما يقدح في الحقيقة الكبرى؛ لأن معرفة الإنسان بالحقيقة الكبرى دفعة واحدة هي المحال الذي لا يجوز، وترقيه إليها خطوة بعد خطوة هو السنة التي اتبعها في كل مطلب بعينه.
فلم يكن من الجائز أن يتعرف الصناعات والعلوم جزءًا جزءًا في هذه الآماد الطوال، وأن يتلقى حقيقة الوجود الكبرى كاملة مستوفاة منذ نشأته على هذه الأرض أول نشأة، ولقد مضى عليه عشرات الألوف من السنين وهو يخلط في طهو غذائه، وحاجته إلى الطعام لا شك فيها، ومادة الطعام بين يديه، وعلم الطعام ليس بالعلم المغيب وراء الحجب والأستار، فإذا فاته أن يدرك الوجود المطلق قبل أن يتقن غذاءه فليس من الجائز أن نعجب لذلك، أو أن نستفتح به أبواب التشكك في كنه العقيدة أو في لباب الحقيقة، وإنما العجب ألا يكون الأمر كما كان.
والنتيجة الثانية التي يرتضيها العقل ويتطلبها الضمير في خاتمة المطاف أن الإله الأحد «ذات» ولا يسوغ في العقل أن يراه غير ذلك.
فقد مرت بنا أقوال تضاربت فيها الآراء، وأحكام تنوعت فيها المقاييس، ولكننا وجدنا بينها إجماعًا على شيء واحد مع صعوبة الإجماع في هذه الأمور، وهو أن «الذاتية» أعلى ما نتصوره من مراتب الكائنات على الإطلاق.
فالأقدمون الذين قالوا بالعقل والهيولى، والمحدثون الذين قالوا بالنشوء والارتقاء، والنشوئيون الذين قالوا ببقاء الأنسب أو قالوا بالانبثاق، وغير هؤلاء وهؤلاء مجمعون على قول واحد، وهو أن الترقي إنما هو الانتقال من وجود بغير ذات إلى وجود له ذات: إلى وجود يعلم ذاته ويشعر بوجوده.
فالجماد المبهم الذي لا تعيين فيه أقل من الجماد الذي تعين بعضه من بعض وتميزت له أشكال وصفات.
وهذا الجماد أقل من النبات.
وكلما ارتقى النبات ظهر فيه التعيين بين شجرة وشجرة، وبين ثمرة وثمرة، واتجه إلى التخصيص بعد التعميم.
وهكذا آحاد الحيوان.
وهكذا آحاد الإنسان.
حتى إذا بلغ غاية مرتقاه أصبح «ذاتًا» لا تلتبس بذات أخرى من نوعه، وكان هذا هو المقياس الصادق لترتيب درجات الكمال في جميع الكائنات.
فالكائن الأكمل لن يكون مجردًا من الذات، ولن يتخيله العقل عقلًا مجردًا من الذاتية كما وهم بعض أصحاب الديانات، وناقضوا أنفسهم فيما وهموه.
فالعقل يعقل وجوده لا محالة.
ومتى عقل وجوده فهو «ذات.»
أما العقل الذي لا يعقل وجوده فتسميته بالعقل ضرب من العي والإحالة، وتسميته بغير هذا الاسم تلفيق يحار فيه التعبير، فإذا كان قوة مادية فلا معنى لفرضها بمعزلٍ عن قوى الكون، وإذا كان قوة عقلية فلن تكون القوة العاقلة في غير ذات.
•••
ونأتي بعد ذلك إلى النتيجة الثالثة وهي إدراك هذه الذات.
فكل شرط يذهب إليه الذاهبون لتقييد «الذات» الإلهية بصفةٍ من الصفات المعهودة لدينا فهو شرط قائم على غير أساس.
فلا أساس للقول بأن «الله» لا تكون له صفات متعددة؛ لأنه جوهر بسيط.
ولا أساس للقول بأن الله لا يريد لأن الإرادة اختيار بين أحوال، والله منزه عن الأحوال.
ولا أساس للقول بأن الله لا يعلم الجزئيات لأنه يعلم أشرف المعقولات، وهو ذات الله.
فنحن قد جهلنا البساطة في المادة وأحكامها ونحن نلمس الأجسام ونعيش في الأجسام.
جهلنا البساطة المادية فقال الأقدمون: إن المادة كلها من النار والتراب والهواء والماء، ثم عللنا التركيب بتعدد العناصر واختلاف توليف الذرات، ثم علمنا أن الذرات كلها تنتهي إلى إشعاع وهو أبسط ما تراه العين ويلم به الخيال، وقد كانوا قديمًا يقولون إن الأجرام العلوية خالدة أبدية لا يعرض لها الفساد والتغير لأنها نور بسيط، فكل الأجسام إذن نور بسيط لا نعلم منه إلا أنه حركة في فضاء! ونحن قد جهلنا أحكام البساطة وصفاتها في المادة المحسوسة قرونًا بعد قرون، ولا نزال نعلم أننا واهمون فيما تتصف به من الحركة والسكون، فمن أين لنا أن ندرك أحكام البساطة الإلهية قياسًا على وصف لا تحيط به العقول؟
من أين لنا أن إرادة الله من قبيل إرادتنا؟ وأن علم الله من قبيل علمنا؟ وكيف يكون الوجود إن لم يكن وجودًا يفعل ويخالف العدم؟ وكيف يخالف العدم إذا كان سلبًا لا أثر له على سبيل الثبوت؟
هنا نعلم أن الدين لم يكن أصدق عقيدة وكفى، بل كان كذلك أصدق فلسفة حين علمنا أن الله جل وعلا لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ.
فكل ما نعلمه أنه جل وعلا كمال مطلق وأن العقل المحدود لا يحيط بالكمال الملطق الذي ليست له حدود، وليس لهذا العقل أن يقول للكمال المطلق كيف يكون وكيف يفعل وكيف يريد.
•••
ويفضي بنا الكلام في طاقة العقل إلى نتيجة رابعة، وهي الصلة بين العقل والإيمان.
فكيف نؤمن إذا كان العقل الإنساني قاصرًا عن إدراك الذات الإلهية؟ وكيف تأتي الصلة بين الكمال المطلق وبين الإنسان؟
وقد نمهد للجواب على هذا السؤال بسؤالٍ آخر يرد البحث إلى نصابه، فنسأل: أيراد بالعقل إذن أن يكف عن الإيمان حتى يكون عقلًا كاملًا مطلق الكمال؟ أم يراد بالعقل أن يؤمن بإله دون مرتبة الكمال؟
لا هذا ولا ذاك مما يراد أو يقع في حسبان، فالكائن الذي يستحق الإيمان به هو الكائن الذي يتصف بالكمال المطلق في جميع الصفات، وغير معقول أن يكون سبب الإيمان هو السبب المبطل للإيمان، وغير معقول أن يستحيل الإيمان مع وجود الإله الذي يتصف بأكمل الصفات، فالمخرج الوحيد من هذا التناقض أن الصلة بين الخالق وخلقه لا تتوقف على العقل وحده، وأي عجب في ذاك؟ إن الإنسان كله لفي الوجود؟ وليس العقل وحده هو قوام وجود الإنسان، فلماذا تنقطع الصلة بين الخلق والخالق إذا حسرت العقول دون ذلك المقام.
أفمعنى هذا أن العقل الإنساني لا عمل له في مسألة الإيمان؟
كلا، بل له عمل كبير، ولكنه ليس بالعمل الوحيد.
وفرق بين أن يعرف العقل حدوده وبين أن يبطل عمله، فإن العقل ليستطيع التفرقة بين عقيدة الشرك وعقيدة التوحيد ويستطيع التفرقة بين أدلة الإيمان وأدلة التعطيل، ويستطيع التفرقة بين ضمير مؤمن وضمير عُطْلٍ من الإيمان، ويستطيع أن يبلغ غاية حدوده ثم لا ينكر ما وراءها لأنه وراء تلك الحدود، ويستطيع أن يسأل نفسه: أممكن أن يمتنع عليَّ الإيمان بالله لا لشيء إلا لأنه متصف بأكمل الصفات التي يتعلق بها إيمان المؤمنين؟ فإن لم يكن ذلك ممكنًا فليعترف «بالوعي الديني» لأنه ضرورة لا محيص عنها، ولأنه واقع ملازم للإنسان في محاولاته الأولى، ولن يزال ملازمًا له في مقبل عصوره أبد الأبيد.
•••
وهنا يعرض السؤال عن مشكلة الخير والشر التي برزت بعد الأديان الكتابية إلى الصف الأول بين مشكلات علم الكلام وعلم اللاهوت، وكانت قبل الأديان الكتابية سببًا للقول بالتثنية وتعدد الوساطات بين الله وعالم المادة أو عالم الهيولى.
ففي سياق الكلام على كمال الذات الإلهية يسألون: كيف يتفق هذا الكمال وما نحسه في هذا العالم من النقص والشر والعذاب؟
والسؤال متواتر ولكنه عجيب؛ لأن الكمال المطلق صفة الخالق وليس صفة المخلوقات، وكل مخلوق محدود، وكل محدود فلا بد فيه من نقص يحس على صورة من الصور: صورة قبح أو صورة شر أو صورة عذاب.
ولو جاز أن يخلق الله إلهًا آخر لوجب أن يكون هذا الإله محدودًا وأن يكون حده نقصًا على صورة من تلك الصور أو على صورة غيرها لا نعرفها.
ونحن لا نعالج أن نحل المشكلة كما يحلها القائلون بأن الألم والشر والرذيلة أوهام زائلة ليست لها حقيقة باقية، فإن كانت أوهامًا فهذا لا يحل المشكلة ولا يصرفها؛ إذ لا شك أن وهم السرور أطيب من وهم الألم، وأن وهم الخير أفضل من وهم الشر، وأن وهم الفضيلة أكرم من وهم الرذيلة.
ولكننا نرى أن المشكلة كلها مشكلة اقتراح بعد التسليم بوجوب النقص في المخلوقات، وأن المراد بالاقتراح أن يكون النقص مرضيًا للناقصين، أو أن يكون خلوًا من الألم والعذاب.
إلا أن اقتراح الإنسان على الكون كاقتراح كل جزء صغير على مجموعه الكبير، ولا فرق بينه وبين اقتراح الحجر الذي يريد أن يدخل الجدار في الوسط أو في الزاوية، وكاملًا أو مكسورًا من بعض الأطراف دون الأطراف الأخرى، وعاليًا على المشارف أو مدفونًا في جوف الأساس.
ومن لنا أن النقص الذي لا يرضينا هو أقرب إلى الكمال من النقص الذي نرضاه؟ أليس حافز الألم هو وسيلة الشوق إلى الكمال والتفرقة بينه وبين النقص في شعور الضمير؟
بل الواقع أننا نرى هذه الآلام وسيلة الارتقاء بتنازع الأحياء، وأنها وسيلة التهذيب والازدياد في نمو فضائل الإنسان، ولو أننا سألنا رجلًا ناضجًا أن يُسقط من حياته آثار آلامه أو آثار مسراته لتردد كثيرًا بين الآلام والمسرات، ولعله في النهاية يسقط آثار المسرات ولا يسقط آثار الآلام.
ونحن نحكم على غايات الأبد بتجارب العمر القصير، فلا فرق في ذلك بيننا وبين من يحكم على الرواية المعروضة أمامه بكلمةٍ في خطاب أو كلمة في جواب، ثم يحكم على التأليف والمؤلف كأنه شهد جميع الفصول وقابل بينها وبين شتى الفصول والروايات.
والأمر كما أسلفنا في هذا الكتاب فرض من ثلاثة فروض: فإما إله قادر على كل شيء ولا يخلق شيئًا، وإما إله يخلق إلهًا مثله في جميع صفات الكمال، وإما إله يخلق كونًا محدودًا يلم به النقص الذي يلم بكل محدود.
وهذا هو الفرض الوحيد المعقول، وإذا اقترح مقترح أن يكون النقص على صورة لا نحسها فليس اقتراحه هذا بمقبولٍ عند جميع العقول الآدمية فضلًا عن العقل الإلهي المحيط بما كان وما يكون؛ لأن الإحساس بالنقص أقرب إلى الكمال عند الكثيرين من نقص لا نحسه ولا يفرق في شعورنا بين الحسن الشهي وما هو أحسن منه وأشهى.
والإنسان بَعْدُ قرين الزمن وليس بقرين الآزال والآباد، ولا بد لقرين الزمن من عوارض ومن غِيَرٍ، ولا بد في هذه العوارض والغِيَرِ من فوارق بين الأحوال وفوارق بين الآحاد وفوارق بين الجماعات، وإلا كانت أبدية إلهية لا يطرأ عليها اختلاف.
وهذه الفوارق هي ما نشكوه ونقترح غيره، فغاية ما يقال في هذا الاقتراح أنه يقبل المراجعة والمناقضة وليس بالحكم الأخير في أسرار هذه الأكوان.
ونحسب أننا نظلم نَصيب الحس إذا قلنا إن مسألة الإيمان مسألة عقل ومسألة «وعي» ليس للحس فيها من نصيب.
فنحن نستطيع أن نرى بأعيننا أن الإيمان ظاهرة طبيعية في هذه الحياة؛ لأن الإنسان غير المؤمن إنسان «غير طبيعي» فيما نحسه من حيرته واضطرابه ويأسه وانعزاله عن الكون الذي يعيش فيه، فهو الشذوذ وليس هو القاعدة في الحياة الإنسانية في الظواهر الطبيعية، ومن أعجب العجب أن يقال إن الإنسان خلق في هذا الكون ليستقر على إيمان من الوهم المحض، أو يسلب القرار.
وليست حجة للمنكر أن يقول إن الإنكار ممكن في العقول، بل حجة للمؤمن أن يقول إن حال المنكر ليست بأحسن الأحوال، وإنه إذا أنكر عن اضطرار تبين لنا على الفور أنه في حال «غير الحال الطبيعي» الذي يستقيم عليه وجود الأحياء.
وخاتمة المطاف أن الحس والعقل والوعي والبديهة جميعًا تستقيم على سواء الخلق حين تستقيم على الإيمان بالذات الإلهية، وأن هذا الإيمان الرشيد هو خير تفسير لسر الخليقة يعقله المؤمن ويدين به المفكر ويتطلبه الطبع السليم.