الوعي الكوني
ما هي صفة الوجود؟
وبعبارة أخرى: ما هو ألزم لوازم الوجود؟
إننا لا نعرف الشيء الموجود تعريفًا سائغًا إذا قلنا: إنه هو الشيء الذي ندركه بالحس أو بالعقل أو بالبصيرة؛ لأننا — بهذا التعريف — نعلق الوجود على موجود آخر هو الذي يدركه بحسه أو بعقله أو ببصيرته، فلا يكون الشيء موجودًا إلا إذا كان له محسُّون ومدركون.
إلا أننا نعطي الوجود ألزم لوازمه إذا قلنا: إنه «غير المعدوم» فيكفي أن ينتفي العدم ليتحقق الوجود، وكل ما ليس بمعدوم فهو لا محالة موجود.
وليس من الضروري لانتفاء العدم قوام الكثافة أو قوام التجسد الذي يقبل الإدراك بحاسة من هذه الحواس الجسدية.
فليس هذا القوام الكثيف أو المتجسد ضروريًّا لإثبات وجود المادة نفسها، وهي التي عرفها الناس ماثلة في الأجسام الكثيفة وسائر المحسوسات.
لأن الأجسام المادية كلها تنتهي إلى ذرات ثم إلى إشعاع في الفضاء، ويحق لنا أن نقول: إن الإشعاع «معنى» أبسط من الحركة؛ لأن الحركة تقع في جسم متحرك وفي وسط تتأتى الحركة فيه، ونحن لا نعرف الوسط الذي يسري فيه الإشعاع إلا بالفروض والتخمينات، ولا نبصر كل إشعاع بالعين المجردة ولو كان على مقربة من العين.
فقوام الكثافة ليس ضروريًّا لإثبات وجود العناصر المادية فضلًا عما عداها، ولا يستلزم وجود الشيء المادي أن يكون له هذا القوام، فيجوز لنا أن نقول: إن الوجود أقرب إلى طبيعة المعقولات المجردة منه إلى طبيعة الملموسات والمحسوسات.
وسواء جاز هذا أو لم يجز فلا شك أن العدم ينتفي بمجرد العلم بالوجود، ولا يستلزم انتفاؤه أن يتلبس هذا العلم بمادة لها قوام، فعلم الموجود بوجوده يحقق له كل صفات الوجود التي ينقضها العدم، وليس لها نقيض سواه.
وليس لأحدٍ أن ينكر وجود شيء من الأشياء لأنه لا يدركه بحاسة من حواسه التي تعود أن يدرك بها الأشياء.
فقد تتم للشيء كل صفات الوجود وهو غير محسوس، وقد تدق الحاسة الطبيعية حتى تتجاوز أضعاف مداها المعهود في معظم الأحياء، وقد تتضاعف بالوسائل الصناعية فيثبت لنا أن الأسماع والأبصار قد فاتها شيء كثير مما يدرك بالآذان والعيون.
فالموجودات إذن غير محصورة في المحسوسات.
ومن الواجب أن نسلم بقيام موجودات لا تحيط بها الحواس والعقول؛ لأن إنكارها جهل لا يقوم على دليل، ولأن وجودها ممكن وليس بالمستحيل! بل هو ألزم من الممكن على التحقيق؛ لأن الحواس كلها لم تكن إلا محاولة مترقية لإدراك ما في الوجود، ولم تقف هذه المحاولة ولا هي مما يقبل الوقوف؛ إذ وقوفها يستلزم مانعًا يعوقها أن تزداد كما ازدادت فيما مضى، وأن تترقى كما ترقت في طبقات المخلوقات، وليس هذا المانع بالمعروف.
فمما لا شك فيه أن الكون أعم من الوعي الإنساني على اختلاف درجاته، وأن الوعي الإنساني كله أعم من هذا الوعي الظاهر الذي تترجم عنه الحواس ويدخل أحيانًا في نطاق المعقولات، وقد أصبحت كلمة «الوعي الباطني» من الكلمات الشائعة على الأفواه، وما «الوعي الباطني» مع هذا بجماع ما احتواه تركيب الإنسان، وما تزود به من طبيعة الحياة والوجود.
وغاية ما يملكه المتردد في حقيقة الموجودات الخفية أن يقول: إن وجودها غير ثابت لديه. فأما أن يقول: إن وجودها غير ثابت له ولا لغيره، وأنها لن يثبت لها وجود على الإطلاق — فذلك قول لا حق له فيه ولا سند له عليه، وقد يكون المصدق بالخرافات أحكم منه رأيًا وأصوب منه فكرًا؛ لأنه يصدق شيئًا قد يتسع للتصديق والتكذيب.
ولا نقصر القول هنا على «الوعي الكوني» الذي أشرنا إليه في خاتمة الفصل المتقدم، ولكننا نطلقه على كل وعي يتجاوز آماد الحواس المعهودة، وهو على ضروب كثيرة يبحثها العلماء في عصرنا هذا ولا يقطع أحد منها باستحالتها وقلة جدواها، ولكنهم يتفاوتون في تقرير نتائجها وتعليل هذه النتائج، ويتركون الأبواب مفتوحة فيها لزيادة البحث والاستقراء.
•••
وكل هذه الملكات قديم معهود في جميع الأجيال والعصور، لم يجدَّ عليه إلا التسمية العصرية ومحاولة العلماء أن يحققوه بالتجربة والاستقصاء.
وربما كان أشيع هذه الملكات وأقربها إلى الثبوت وأغناها عن أدوات المعالجة والتناول بأساليب التلقين والتدريب هو الشعور على البعد أو «التلباثي» كما سمي في أواخر القرن التاسع عشر — تركيبًا مزجيًّا من كلمتي البعد والشعور في اللغة اليونانية.
وقد تواترت أحاديث الناس في الشعور «على البعد» فرويت فيه روايات كثيرة يتفق أصحابها في أقوال متقاربة، وفحواها أنهم يستحضرون في أخلادهم سيرة إنسان بعيد لغير سبب يعلمونه فإذا هو ماثل أمامهم ساعة استحضاره، أو يقلقون لغير سبب في لحظة من اللحظات ثم يعلمون بعد ذلك أن إنسانًا عزيزًا عليهم كان يتألم أو يذكرهم في تلك اللحظة وهو في ضيق وتغويث، وقد يسمعون هاتفًا يلقي إليهم بعض الكلمات ثم يقال لهم إن هذه الكلمات قد هتف بها مريض يحبهم ويحبونه وهو غائب عن وعيه، وندر من الناس في الحواضر والقرى من لم يسمع برواية من هذا القبيل.
وقد جرب الشعور على البعد باحثون مختلفون، منهم المؤمن بالنفس ومنهم الملحد الذي لا يؤمن بغير المادة، ومنهم المتدين الذي يلتمس لهذا الشعور علة من العلل الطبيعية، ولا يرى ضرورة للرجوع به إلى عالم الروح والعقل المجرد.
فالنفساني الكبير وليام مكدوجال — وهو من المؤمنين بالعقل المجرد — يقول في خطاب الرياسة لجماعة البحوث النفسية سنة ١٩٢٠: «إنني أعتقد أن التلباثي وشيك جدًّا أن يتقرر بصفة نهائية في عداد الحقائق المعترف بها علميًّا بفضل هذه الجامعة على الأكثر، ومتى بلغنا هذه النتيجة فإن خطرها من الوجهتين العلمية والفلسفية سيربي كثيرًا على جملة المسائل التي أدركتها معاهد التحقيق النفساني في جامعات القارتين.»
وفي سنة ١٩٢٧ قال الدكتور ت. و. متشل في خطابه لقسم المباحث النفسية في المعهد البريطاني: «لا بد من الاعتراف بالتلباثي أو بوسيلة من الوسائل التي قد نسميها الآن خارقة للعادة. لأننا إذا أنكرناه وقفنا حائرين بين يدي الظواهر المعززة بأدلة الثبوت، مما لا نستطيع له نفيًا ولا تعليلًا.»
وقد كانت تجارب سنكلر يدور معظمها على الرسوم والأشكال، فيطلب من بعض الحاضرين أن يختار له شكلًا هندسيًّا أو حيوانيًّا ثم يحصر ذهنه فيه، وزوجته في بلدٍ آخر تتلقى عنه شعوره في تلك اللحظة، فإذا هي ترسم الشكل بعينه، وقلَّما يكون الاختلاف في غير الحجم أو درجة الإتقان.
•••
فهو يقرر أن الأجسام المادية يمكن أن تحس من بعيد لأنها لا تني تبعث حولها ذبذبات متلاحقة تسري إلى مسافات بعيدة، وقد تخترق الحوائل كما تفعل الأشعة السينية، ويعلل غرائز الأحياء التي تهتدي إلى أمثالها أو إلى الأماكن المحجوبة عنها على المسافات الطويلة بحاسة تتلقى هذه الذبذبات وتتبعها إلى مصادرها. أما الإنسان وسائر الحيوانات الفقارية فهي تعتمد على الجسم الصنوبري في الدماغ للشعور بالأشياء التي لا تنتقل إليها بحاسة النظر أو الشم أو السمع أو الملامسة، ويستبعد الأستاذ سينل أن يخلق هذا الجسم الصنوبري عطلًا بغير عمل في جميع الأحياء الفقارية؛ لأن ملاحظاته الدقيقة عن موضع هذا الجسم في الدماغ واختلاف حجمه بين الأحياء قد دلته على تفسير عمله حسب اختلاف موضعه وحجمه، فهو في الأنثى أكبر منه في الذكر، وفي الهمجي أكبر منه في المتحضر، وفي الطفل أكبر منه في الرجل، وفي الحيوان أكبر منه في الإنسان، وهو قريب إلى فتحات الرأس في بعض الأحياء التي تعول على التحسس البعيد ولا تستغني عنه بالقياس العقلي أو بالوسائل الصناعية كما يفعل الإنسان، وكلما انصرف الحي عن استخدام هذا الجسم الصنوبري ضمر واقترن ضموره بضعف الشعور بالذبذبات والرسائل المتنقلة من المسافات القصيرة.
قال الأستاذ سينل: «أما الكشف كما أعرفه أنا — وكما ينبغي أن يعرف — فهو إدراك الأشعة المغنطيسية أو قل الموجات المغنطيسية المنبعثة من الأجسام المحيطة بنا والتي من شأنها أن تخترق كل جسم يعترضها بدون حاجة إلى الاستعانة بأي عنصر من أعضاء الحس المعروفة، والكاشف في رأيي هو كل من يستطيع أن يضبط جانبًا من مخه ويعده لكي يستقبل الإشعاع الصادر عن الحاجز، يعني من شيء ما بعد استبعاده كل أشعة أخرى، شأنه في ذلك شأن الجهاز اللاسلكي الذي يضبط لكي يستقبل موجة منبعثة من محطة ما مع استبعاد كل موجة أخرى سواها.»
فالأستاذ سينل كما نرى لا يتأثر في إثباته لقدرة الكشف والشعور على البعد بإيمانه بوجود الروح أو العقل المجرد، ولا يعتمد في تجربة من تجاربه الكثيرة على تعليل غير التعليل الجسدي والمباحث الطبيعية، وقد سبقه إلى التنويه بشأن الجسم الصنوبري فيلسوف كبير من المؤمنين بالقوة الروحية والقائلين بالتفرقة بينها وبين الكائنات المادية، وهو رينيه ديكارت الذي يلقب بأبي الفلسفة الحديثة، فإنه اعتقد أن الجسم الصنوبري هو الجهاز «الموصل» بين الروح والجسد، أو هو موضع التلاقي بين حركة الفكر وحركة الأعضاء.
أما الذين اعتقدوا أن الجسم الصنوبري غدة منظمة للوظائف الجنسية أو أطوار النمو الأخرى فالأستاذ سينل يرد عليهم قائلًا: «إذا كان هذا الجسم غدة وظيفتها تنظيم التطور أو الأمور الجنسية كما يقولون فكيف صح أن يكون مقره وسط المخ بين المراكز التي تستقبل المرئيات؟ ولماذا هو محمول على ساق؟ ولماذا كان في الفقاريات الدنيا فتحة تشبه النافذة في الجمجمة فتسمح لهذه الحيوانات بالاتصال بما حولها قدر المستطاع؟»
على أننا إذا راجعنا أنواع التجارب التي سجلها النفسانيون لم نستغن بفكرة الإشعاع ولا بفكرة الجسم الصنوبري عن تعليل آخر يتصل بالعقل أو الروح.
فنحن نفهم أن الإشعاع ينقل المجسمات والمحسوسات ولكننا لا نفهم كيف ينقل الفكرة أو الصورة المتخيلة، فإذا تذبذب الشعاع بحركة الكلمات الملفوظة وصلت هذه الكلمات بحروفها وأصدائها إلى جهاز التلقي فنسمعها كلمات كلما فاه بها المتكلم من محطة الإرسال، ولكن الفكرة التي في الدماغ لا تتحول إلى كلمات بحروفها وأصدائها ولا تتأتى من تحولها حركة تهز الأثير كما تهزه حركات لأفواه، فكيف تنتقل الفكرة بالأشعة من دماغ إلى دماغ؟
وإذا فكر أحد في صورة هندسية أو حيوانية فكيف تصبح هذه الصورة حركة إشعاع كحركة المذياع؟ لقد شوهد كثيرًا أن الذي ينتقل في هذه الحالة هو معنى الصورة لا شكلها ولا خطوطها التي تكونها: فإذا كان المرسل يفكر في عصفور ولا يحسن رسمه فإن المتلقي يحسن رسم العصفور إن كان من الحاذقين للرسم ولا ينقله نقلًا آليًّا كما تمثل في الذهن الذي أرسل الصورة إليه، وكذلك يحدث في أشكال المثلثات والدوائر والمستطيلات، وكل شكل يختلف بالحجم والإتقان ويحافظ على معناه مع هذا الاختلاف.
فإذا ثبت الكشف والشعور على البعد بالتجربة التي لا شك فيها فلا بد من إثبات الأشعة العقلية أو الروحية لتعليل انتقال الأفكار بغير ألفاظ، والصور بغير حركات في الأثير.
أما الجسم الصنوبري فإذا كان عضوًا طبيعيًّا وجب أن يكون عمله على أشده وأصحِّه في أصحاب الأجساد الطبيعية والأمزجة السوية، ولكن الذي يشاهد في أصحاب القدرة على التلقي أنهم يشذون عن سواء المزاج المعهود في الأصحاء، وأن هذه الملكة فيهم لا تحيا كما تحيا الأعضاء الأثرية المهملة بل تحيا كما تحيا العبقريات الخلاقة لمعاني الفنون ومبتكرات الفهم والخيال، وأن الذي يمتاز بها لا يكون أقرب إلى الحيوان بل أقرب إلى المثل الإنسانية التي تتجافى كثيرًا عن الغرائز الحيوانية والنوازع الجسدية.
وإذا كان الجسم الصنوبري متلقيًا للحس على أسلوب العيون والآذان والآناف وجب أن تتساوى عنده جميع المرسلات، وألا يميز ذبذبة عن ذبذبة ولا مكانًا عن مكان، ووجب عند جلوس عشرة في بقعة واحدة أن يتلقوا جميعًا صوت الاستغاثة المنبعث من الأماكن القصية؛ لأن هذا الصوت حركة مادية والأجسام الصنوبرية عند هؤلاء العشرة أجسام مادية تهتز بتلك الحركة على السواء، ولا يقال إن الذي يعنيه الخبر هو الذي يسمعه؛ لأن العناية تتولد من سماع الخبر لا قبل سماعه، وقد يكون المقصود بالخبر غافلًا عنه غير متهيئ لسماعه في تلك اللحظة، وإذا كانت العناية من الجانبين تضيف شيئًا إلى قوة الحس فهي إذن شيء «عقلي إرادي» ينحصر في العقل والإرادة ولا يعم كل حركة تخطر في الأثير.
ولا غرابة في ندرة الظواهر الروحية بين العوامل المادية، فيحس بالآثار الروحية آحاد ولا يحس بها الأكثرون؛ لأننا قد تعودنا أن نرى كائنات لا تُحصى بمعزلٍ عن فعل العقل أو الروح، ولكن الغرابة البالغة أن يكون في كل دماغ جسم صنوبري وأن تنبعث الذبذبات من جميع الأجساد بغير انقطاع ثم تنحصر ظواهر الكشف أو الشعور البعيد في آحاد معدودين.
ولا يصح أن يقاس هذا على أجهزة المذياع التي تسكن عن الإذاعة بغير تحريك أو توجيه؛ لأن امتناع هذه الآلات عن الحركة بغير مدير يعرف تركيبها هو الحالة الطبيعية التي لا يتصور لها العقل حالة سواها. أما الأحياء فإنهم هم المحركون والمتحركون، وهم المفاتيح ومديرو المفاتيح، فامتناع العمل الطبيعي فيهم مع شيوع أسبابه عجب يحتاج إلى تفسير.
وحسب الناظر في الأمر بعد هذا أن يعرف أن تجارب الشعور البعيد وما جرى مجراه تثبت عند أناس لا يعللونها بالروح ولا بالعقل المجرد، لينتفي من ذهنه أنها وهم من أوهام العقيدة وأنها خرافة متفق عليها فلا تستحق الجد في دراستها من طلاب الحقائق على سنن العلماء.
ويبدو للأكثرين من مراقبي هذه الظواهر النفسانية أن التنويم المغناطيسي أثبت من الشعور على البعد وأشيع منه وأقرب إلى التصديق والتعليل، وهو فيما نرى يعرض لنا أمثلة كثيرة لا نصادفها في ظاهرة الشعور على البعد لإثبات الاتصال العقلي بوسيلة غير وسيلة الذبذبات واستخدام الأجسام الصنوبرية؛ لأن النائم يتلقى عن منومه صورًا لا يتأتَّى تعليلها بالإشعاع أو ما شابهه من التيارات المادية، وكثيرًا ما تكون الرسائل المغناطيسية قائمة على تخيل لا وجود له في عالم الحس ولكنه ينتقل إلى ذهن النائم؛ لأن المنوم لفَّقَهُ وأمره بتلقيه وتصديقه، وهو ما يرى ما في خيال المنوم ولا يرى ما في خيال غيره ولو كان معه في حجرة واحدة، وقد تعددت تعليلات الاتصال بين فكر وفكر بالوسائل المغناطيسية، ولكنها جميعًا أعجب من القول بإمكان الاتصال بين العقل المجرد، والعقل المجرد بمعزلٍ عن الحواس والوسائط المادية، ويكفي في التجارب المتواترة أن يلقي المنوم نظرة على كلمة مكتوبة أو صورة مرسومة أو يستحضر الكلمة أو الصورة في خلده ليراها النائم كما رآها المنوم أو تخيلها تخيلًا لا يمثله شكل محسوس قابل لتحريك الأشعة أو التيارات، ولا ندري لماذا لا يتأتَى تنويم الحيوان الأعجم ونقل المحسوسات إلى دماغه إذا كانت المسألة كلها مسألة الحواس والأعصاب والتيارات التي تنتقل كما ينتقل الشعاع.
ومما لا نزاع فيه أن حق الفكر الإنساني في قبول هذه الظواهر أرجح جدًّا من حقه في إنكارها، والبت باستحالتها كأنها شيء لا يتأتَّى وقوعه بحالٍ من الأحوال، فلا استحالة في ظاهرة من هذه الظواهر، غير مستثنى منها النادر المستغرب بالغًا ما بلغ من الندرة والغرابة في جميع الأزمان.
فالإطلاع على المستقبل غريب لم تثبته تجربة علمية قابلة للتكرار، ولكننا لا نستطيع أن نجزم باستحالته إلا إذا استطعنا أن نجزم بحقيقة الزمن وحقيقة المستقبل، ثم جزمنا بأن هذه الحقيقة تناقض العلم بشيءٍ قبل أن يأتي أوانه ويجري في مجراه.
فما هو الزمن؟
نحن نتخيله في أوهامنا على صورٍ كثيرة لا تخلو إحداها من نقص ومناقضة لبقية المقررات المسلَّمة لدينا.
فنحن تارة نتخيل الزمن كأنه بحر يزداد قطرة في كل لحظة ويمتلئ شيئًا فشيئًا، ولا يزال فيه فراغ مهيأ للامتلاء، وهو فراغ المستقبل المعدوم، ولكن هل الماضي إذن هو الموجود؟ وهل هو الحاصل المتجمع في بحر الزمان والمستقبل هو المعدوم؟ وما هو «الآن» الذي ليس بماضٍ ولا بمستقبل ولا يوصف إلا بأنه حاضر غير ماض ولا آت؟
وتارة نتخيل الزمن كأنه محيط شامل لما كان وما هو كائن وما سيكون، ونحن نتقدم فيه كما يتقدم المسافر في أرض يراها بعد أن تقع عليها عيناه، فالمستقبل في هذه الحالة موجود، ولكننا نحن لا نراه إلا حين نصل إليه.
وتارة نتخيل الزمن كأنه خط ممتد الأوقات المتتابعة كالنقط المنطوية فيه، ولكننا إذا تتبعنا هذا الخيال لم يذهب بنا إلى بعيد؛ لأن الخط ممتد في كل جانب متعمق في كل باطن، فلا تشابه بينه وبين الخطوط.
وتارة نتخيل الزمن قابلًا للتجزئة ولكننا لا نستقر على المقياس الذي يحكم لنا بالقرب أو البعد أو العمق بين مسافات الأجزاء.
وإذا جزأنا الزمن حكمنا بأن الزمان كله محدود؛ لأن مجموع المحدود محدود، ولكن ما هي حدود الحاضر، وما هو الخارج منه والداخل فيه؟ وما هو الفرق بين حاضر وحاضر بمقياس الزمان أو بمقياس الفضاء؟
على أنه إذا كان الزمان أجزاء وكان محدودًا كأجزائه فقد بقي أمامنا «الأبد» الذي لا ماضي فيه ولا حاضر ولا مستقبل ولا ينقسم إلى أجزاء ولا يدرك له ابتداء ولا انتهاء ولا حركة بين الابتداء والانتهاء.
فمن الجائز أن «المستقبل» معدوم في الزمان المنقطع موجود في الأبد الذي ليس له انقطاع.
ومن الجائز أن يكون الزمن نفسه متعدد الأبعاد فيتلاقى فيه شيء من الحاضر وشيء من الماضي وشيء من المستقبل في بعض تلك الأبعاد.
ومن الجائز أن المستقبل يتكشف لعقل الإنسان من إيحاء العقل الأبدي المطلع عليه كما يطلع على ما حصل وما هو حاصل بلا اختلاف، وقد جاز أن ينتقل علم من عقل إنسان إلى عقل إنسان فينطبع فيه بالتوجيه والإيحاء كأنه منظور ومسموع، فلماذا لا يجوز أن تنتقل وقائع المستقبل إلى علم الإنسان من العقل الأبدي؟ وهل نستطيع أن نقرر وجود العقل الأبدي دون أن نقرر أنه مطلع على كل ما يقع في الأبد الأبيد؟
فالذي يجزم باستحالة الاطلاع على المستقبل عليه أولًا أن يجزم بالصورة الصحيحة للزمن ويجزم بأنها لا توافق الاعتراف بوجود المستقبل على وجهٍ من الوجوه.
وعليه «ثانيًا» أن يجزم باستحالة «العقل الأبدي» واستحالة الإيحاء منه إلى العقول الإنسانية.
وعليه أن يقيم الدليل على هذا المستحيل أو ذاك المستحيل، ولا دليل.
لكن الحقيقة أن استطلاع الماضي واستطلاع المستقبل على حدٍّ سواء في طبيعة الملكة التي تقدر عليه؛ لأن القائلين بهذه الملكة لا يقصدون معرفة الماضي كما نعرف روايات التاريخ أو روايات الشهود، ولكنهم يقصدون أن صاحب هذه الملكة ينكشف له منظر مضى دون أن يبلغه من طريق القراء والسماع، فيشهد مثلًا مجلسًا من المجالس المجهولة عنده وعند غيره، ويبصر كل جالس في مكانه الذي كان فيه، ويسمع ما قالوه ولو لم تدونه الكتب وتردده أقوال الرواة.
فالكشف عن الماضي محتاج إذن إلى التعليل الذي يحتاج إليه الكشف عن المستقبل؛ لأنه دائمًا يتأتَّى بإيحاء عقل إلى عقل، أو بتقدير صورة للزمن لا ينتفي فيها الماضي ولا المستقبل كل الانتفاء.
•••
وهذه الظواهر كلها — أغربها وأقربها معًا — ليست بالشيء الجديد في تاريخ الإنسان، وإنما الجديد عليها في زماننا هذا أنها دخلت في متناول البحوث العلمية، وأن الباحثين يتخذون منها شيئًا فشيئًا مواقف من العطف والفهم أقرب من مواقفهم الأولى في مطلع «الثورة العلمية» على سلطان رجال الدين.
ففي الأزمنة الماضية كان الناس يصدقون هذه الظواهر بغير بحث في حقيقتها وحقيقة من يدعونها، أو كانوا يكذبونها تكذيبًا باتًّا بغير بحث كما يفعل المصدقون.
ولكن هذا الموقف يتغير على التدريج، ولا يشعر العالم اليوم أنه يعطي العلم حقه من الوقار حين يبتدئ بالإنكار في هذا المجال، أو يرجح الإنكار بغير دليل قاطع يقاوم أدلة التصديق، فمن لم يقبلها من العلماء لم يأنف من اعتبارها صالحة للقبول مع توافر الأدلة وتمحيص التجربة من الوهم وخطأ الملاحظة.
على أنها سواء دخلت في مقررات العلم أو لم تدخل فيها — لن تكون هي وحدها عماد الإيمان والتصديق بالغيوب، فإن الإيمان يحتاج إلى حاسة في الإنسان غير العلم بالشيء الذي هو موضع الإيمان، وقد تتساوى نفسان في العلم بحقائق الكون كله ولا تتساويان بعد ذلك في طبيعة الإيمان؛ لأن الإنسان لا يؤمن على قدر علمه، وإنما يؤمن على قدر شعوره بما يعتقد ومجاوبته النفسية لموضوع الاعتقاد، وطبيعة الاعتقاد في هذه الخصلة مقاربة لطبيعة الإعجاب بالجمال أو لطبيعة التذوق والتقدير للفنون، فإذا وقف اثنان أمام صورة واحدة يعلمان كل شيء عنها وعن صاحبها وعن أدواتها وألوانها وتاريخها لم يكن شرطًا لزامًا أن يتساويا في الإعجاب بها والشعور بمحاسنها كما يتساويان في العلم بكل مجهول عنها، وصدق من قال: إن القداسة مزيج من العجب والرهبة، ولا يتوقف العجب من الأمر المقدس على اسْتِكْنَاهِ كل ما ينطوي عليه.
وستظل هذه الظواهر تفصيلًا يجوز الشك فيه لقاعدة مقررة لا يجوز الشك فيها: ونعني بالقاعدة المقررة أن الموجودات أعم من المحسوسات.
فهناك موجودات أكثر مما نحس، بل هناك موجودات قابلة للإحاطة بها من طريق الإحساس أكثر مما نحسه الآن بالآلات ووسائل التقريب والتضخيم.
ولا تزال غرائز الحيوان تدلنا على ضروب من الإحساس الخفي لا يعللها العلماء بأكثر من تسميتها باسم الغريزة، كأنهم إذا لجأوا إلى كلمة مبهمة لا يفهمونها كانوا أجدر بكرامة العلم من الجاهل الذي يفسر الأمر كله بقدرة إله.
وفي الغريزة عبر كثيرة لا تُنسى في صدد الكلام على الحاسة الدينية وخطأ الإنسان في التعبير عنها وتمثيل موضوعاتها.
فقد يساء استخدام الغريزة ولا يقدح ذلك في نشأتها ولا في وجهتها، كالطير الذي يهاجر طلبًا للسلامة أو للغذاء فيسقط في البحر من الإعياء لأنه يختار طريقًا انقطع بطغيان البحر عليه منذ عصور، فباعث الغريزة موجود ومعقول، وحب السلامة موجود ومعقول، وخطأ المحاولة في استخدام الغريزة لا ينفي صدق هذا ولا صدق ذاك.
والإنسان في غريزته النوعية يخدع نفسه ويضل عن الغاية من حيث يشعر أو لا يشعر بانخداعه وضلاله: يخدع نفسه حين يحسب أنه يعمل لِلَذَّتِه أو يعمل لِذَاتِهِ، ويضل ضلالًا بعيدًا حين يقتل عشرين رجلًا كبيرًا؛ ليكفل القوت أو السلامة لطفل واحد هو ابنه الذي لم يلده إلا لبقاء النوع كله، يقتل عشرين مخلوقًا ناميًا من النوع لبقاء مخلوق منه غير موثوق بنمائه، وهو يطاوع الغريزة النوعية بذلك ولا يناقضها في نهاية المطاف؛ لأن حب الأبناء لو توقف على الحساب العددي والموازنة بين الكثرة والقلة لما حرص الناس على الأبناء، ولا ظفر النوع بالبقاء.
وأدخل من ذلك في ضلال الغريزة وثبوتها في وقت واحد أن الأب الذي يدس عليه طفل غير ابنه ولا يخالجه الشك فيه يحبه ويرعاه ويفتدي بقاءه ببقاء الكثيرين، ولا يجوز من أجل ذلك أن يقال: إن الغريزة النوعية غير صحيحة؛ لأن الولد غير صحيح.
فالتعبيرات عن الحاسة الدينية تقبل الخطأ الكثير، ولا يستفاد من ذلك أن الحاسة الدينية غير لازمة أو أنها مكذوبة النشأة في أساس التكوين.
وهذا الذي سميناه «بالوعي الكوني» هو الذي يحس بوطأة الكون فيترجمها على قدر حظه من التصور والتصوير، فيقع الخطأ الكثير في التعبير وفي محاولة التعبير، ولا يمتنع من أجل ذلك أن نتلقى الكون بوعي لا شك في بواعثه وغاياته، وإن أحاطت بتعبيراته شكوك وراء شكوك.
وربما كان هذا «الوعي الكوني» فرضًا صادقًا أو راجحًا ثم ينتهي به الأمر عند ذلك لو لم تكن ظاهرة التدين التي تترجم عنه ملازمة لبني آدم في جميع الأماكن ومن أقدم الأزمان، ولو لم ينبغ في الناس أفراد من ذوي العبقرية تملؤهم روعة المجهول، ولكن الأديان تعم البشر ولا تغنيهم عنها غريزة حب البقاء أو غريزة حب النوع أو حب المعرفة أو دواعي السياسة الاجتماعية، وقد وجدت أديان تبشر بالفناء ولا تبشر بالبقاء وتحرم على كهانها النسل ولا تعدهم شيئًا في السماء، فهي — أي الأديان — من وعي غير وعي التحفظ والسلامة وغير وعي السياسة ودواعي الاجتماع، وقام في العالم عباقرة دينيون لا يهدأون بما يجيش في نفوسهم من قوة الشعور بالمجهول، ولو كان هذا المجهول المغيب عن الناس لا يستحق أن تجيش به نفس إنسانية لصرفنا سيرة هؤلاء العباقرة بكلمةٍ واحدة: هي كلمة الجنون الذي وصفوا به كلما ظهروا بين قبيل من المعاندين، ولكن «المجهول المغيب» أحق من جميع الموجودات بهذا الجَيَشَان العظيم؛ فالطبائع التي امتازت باستيعابه واتسعت لدوافعه لا تمتاز بخلل خلو من المعنى، بل تمتاز باستقامة في التكوين فيها كل معنى كبير من معاني الشعور العميق.
وقد أحس الإنسان قبل أن يفكر، فلا جرم ينقضي عليه ردح من الدهر في بداءة نشأته وهو يفكر حسيًّا أو يفكر «لمسيًّا» فلا يعرف معنى الوجود إلا مرادفًا لمعنى المحسوس أو الملموس، فكل ما هو منظور أو ملموس أو مسموع فهو واقع لا شك فيه، وكل ما خفي على النظر أو دق عن السمع واللمس فهو والمعدوم سواء.
وقد كان «للحاسة الدينية» فضل الإنقاذ الأول من هذه الجهالة الحيوانية؛ لأنها جعلت عالم الخفاء مستقر وجود ولم تتركه مستقر فناء في الأخلاد والأوهام، فتعلم الإنسان أن يؤمن بوجود شيء لا يراه ولا يلمسه بيديه، وكان هذا «فتحًا علميًّا» على نحو من الأنحاء، ولم ينحصر أمره في عالم التدين والاعتقاد؛ لأنه وسع آفاق الوجود وفتح البصيرة للبحث عنه في عالم غير عالم المحسوسات والملموسات، ولو ظل الإنسان ينكر كل شيء لا يحسه لما خسر بذلك الديانات وحدها، بل خسر معها العلوم والمعارف وقيم الآداب والأخلاق.
ويجيء الماديون في الزمن الأخير فيحسبون أنهم جماعة تقدم وإصلاح للعقول وتقويم لمبادئ التفكير، والواقع أنهم في إنكارهم كل ما عدا المادة يرجعون القهقرى إلى أعرق العصور في التفكير، والواقع أنهم في إنكارهم كل ما عدا المادة يرجعون القهقرى إلى أعرق العصور في القدم، ليقولوا للناس مرة أخرى إن الوجود هو المحسوس، وإن المعدوم في الأنظار والأسماع معدوم كذلك في ظاهر الوجود وخافيه، وكل ما بينهم وبين همج البداءة من الفرق في هذا الخطأ — أن حسهم الحديث يلبس النظارة على عينيه ويضع المسماع على أذنيه!
ويحسبون على هذا أنهم يلتزمون حدود العلم الأمين حين يلتزمون حدود النفي ويصرون عليه في مسألة المسائل الكبرى، وهي مسألة الوجود، بل مسألة الآباد التي لا ينقطع الكشف عن حقائقها في مئات السنين ولا ألوف السنين ولا ملايين السنين.
«لا» إلى آخر الزمان في هذه المسألة الكبرى، ونحن لا نستطيع أن نقول: «لا» إلى آخر الزمان في مسألة من مسائل الحجارة أو المعادن أو الأعشاب أو مسائل البيطرة وعلاج الأجسام.
وليس النوع البشري على أبواب محكمة يخاصم فيها من يثبتون أو ينكرون، ويتحداهم وهو جالس في مكانه أن يثبتوا له ما ينفيه ولا يهتدى إليه بالعين والمجهار ولكنه على الأقل أمام «معمل للتجارب» يبدأ فيه البحث ويعيده ثم يبدؤه ويعيده في كل عصر على ضوء جديد، وهو أمام الكون خاصة لم يكد يبدأ البحث في مسألة الآباد إلا منذ مئات معدودة من السنين، فياله من علمٍ بديع هذا العلم الذي يقطع بالنفي إلى آخر الزمان، دون أن يتردد أو ينتظر مفاجآت الزمان.
والواقع أن العلم كله يقوم على أساس الإيجاب والترقب ولا يقوم على أساس النفي والإصرار. وما من حقيقة علمية إلا وهي تطوي في سجلها تاريخًا طويلًا من تواريخ الاحتمال والرجاء والأمل في الثبوت، وإن تكررت دواعي الشك بل دواعي القنوط، فبحث الإنسان عن العقاقير وبحث عن المعادن، وبحث عن الثمرات والغلات بروحٍ ترتقب إيجابًا وثبوتًا ولا تنتقل من نفي إلى نفي ومن إصرار إلى إصرار، وهذه هي روح العلم أمام الصغائر من شئون البيوت والأسواق، فلماذا تكون روح العلم إصرارًا محضًا وإنكارًا متلاحقًا على غير أساس وبغير ترقب أو انتظار في نفي كبرى المسائل على الإطلاق؟
وأجدر الأزمنة أن يتبدل فيه هذا الموقف هو الزمن الذي تكشفت فيه الأجسام عن عنصرها الأول، فإذا هو إشعاع أو حركة في فضاء، فاقترب الوجود المادي نفسه من عالم المعقولات والمقدورات، وتقرر لنا أن الحواس لا تستوعب معنى الوجود في الصميم؛ لأن زوال العدم هو الصفة الوحيدة اللازمة للوجود، ولا يستلزم زوال العدم تجسمًا ولا تجرمًا ولا كثافة من هذه الكثافات التي تتمثل بها الأجسام للحواس، بل يكفي فيه حركة مقدورة أو معنى كأنه من طبيعة المعقولات، فما أضيق النطاق الذي بقي للحس الظاهر من أسرار الوجود، وما أحرانا أن نفسح للوعي الكوني وللبداهة مجالًا يتسع مع الزمان، ولا نحبسه في نطاق يضيق ثم يضيق حتى يسقط من الحسبان.
والإنسان قد رأى نور الشمس والكواكب بعينه منذ مئات الألوف من السنين، ولم يقبس نور الكهرباء من ينبوع الضياء الكوني إلا في القرن الأخير، فتدرج من قدح الحجر إلى حك الحطب إلى فتيلة الدهن إلى غاز الاستصباح إلى نور الكهرباء في هذا الأمد الطويل من الدهور وراء الدهور.
فوعيه الباطن لم يقصر عن وعي عينيه في هذا الشوط البعيد؛ لأنه تنقَّل من عبادة الحصى والحشرات إلى عبادة الإله الواحد في بضعة آلاف من الدورات الشمسية، وجاز لنا أن نقول: إن ضميره كان أسرع من عينيه إلى اقتباس الضياء، وكان أقدر من فكره على مغالبة الظلام، وأي ظلام؟ إنه لم يكن ظلامًا كظلام الليالي والكهوف يسلم مقاده لكل قادح زند أو نافخ عود، ولكنه كان ظلامًا تجوس فيه مردة الجهل وشياطين العادات وأبالسة المطامع والشهوات، فإن دل ذلك على شيء فإنما يدل على حاجة الضمير إلى ذلك النور الذي اهتدى به، واهتدى إليه.