مصر
رأينا في فصل سابق أن تعميم العقائد المشتركة كان مرتهنًا بقيام الدول الواسعة التي تطوي فيها عقائد القبائل والشعوب وتتجاوز أطرافها حدود الأمة الواحدة، ونسميها في عصرنا هذا بالإمبراطوريات.
والدول التي كان لها القسط الأوفى من هذه المساهمة العامة هي مصر وبابل والهند والصين وفارس واليونان، وتضاف إليها اليابان لولا أنها في عزلتها قد أخذت أكثر مما أعطت، وقد تخلفت من جراء هذه العزلة عن بعض الأطوار التي سبقتها إليها الأمم المتصلة بالمعاملات والمبادلات، فتلبثت ببقايا الوثنية إلى مطلع العصر الحديث.
أما مصر فتاريخها في أطوار الاعتقاد هو تاريخ جميع الأطوار من أدناها إلى أعلاها بلا استثناء.
فشاعت فيها «الطواطم» في كلا الوجهين قبل اتحاد المملكة وبعد هذا الاتحاد، ويظن الكثيرون من علماء الأديان أن تقديس الصقر والنسر وابن آوي والقط والنسناس والجعل والتمساح وغير ذلك من فصائل الحيوان هي بقايا «طوطمية» تحولت مع الزمن إلى رموز، ثم فقدت معنى الرموز واندمجت في العبادات المترقية على شكل من الأشكال.
وشاعت فيها عقيدة الأرواح، فكان المصريون من أعرق الأمم التي آمنت بالروح، ثم آمنت بالبعث والثواب والعقاب بعد الموت، ورمزوا للروح «كا» تارة بزهرة، وتارة بصورة طائر ذي وجه آدمي، وتارة بتمساح أو ثعبان، وقالوا بأن الروح تتشكل بجميع الأشكال، ولكنهم لم يقولوا بتناسخ الأرواح، ولعل اختلاف الرموز من بقايا اختلاف الطواطم في زمان سابق لزمان الاعتقاد بالبعث والثواب والعقاب.
أما أثبت العبادات وأعمها وأقواها وأبقاها إلى آخر العصور فهي عبادة الموتى والأسلاف دون مراء، فإن عناية المصري بتشييد القبور وتحنيط الجثث وإحياء الذكريات لا تفوقها عناية شعب من الشعوب، وقد بقيت آثار هذه العبادة إلى ما بعد بزوغ الديانة الشمسية وتمثيل أوزيريس بالشمس الغاربة، ثم تغليبه على عالم الخلود وموازين الجزاء.
فقصة أوزيريس هي قصة آدمية تشير إلى واقعة قديمة مما كان يحدث في الأسر المالكة في تلك العصور السحيقة، وهي قصة ملك أحبه شعبه ثم نازعه أخوه «ست» عرشه فقتله، وجاءت زوجته «إيزيس» بعد ذلك بابن اسمه «حوريس» أخفته في مكان قصي حتى بلغ الرشد، فرشحته للملك فساعده أنصار أبيه على بلوغ حقه في العرش، وعاد «ست» ينازعه هذا الحق أمام الآلهة ويدعي عليه أنه ابن «غير شرعي» من أب غير أوزيريس، فلم تقبل الآلهة دعواه وحكمت لحوريس بالميراث.
وتقول الأسطورة: إن أوزيريس ولد في الوجه البحري، ولكن رأسه دفن في الصعيد بقرية العرابة المدفونة، وإن «ست» حين قتله فرق أعضاءه بين البقاع لكيلا يعثر على جثته أحد من المطالبين بثأره، ولكن إيزيس جمعت هذه الأعضاء وتعهدتها بالصلوات والأسحار حتى دبت فيها الروح من جديد وحملت منه بحوريس الذي قدح عمه في نسبه، وقد حاول أوزيريس أن يعود إلى الملك فأخفق في محاولته وقنع بالسيادة على عالم «المغرب» حيث تغيب الشمس وتنحدر إلى عالم الأموات.
وللخصب شأن لا يستغرب في ديانة مصر القديمة، فهم يرمزون إلى الكون كله ببقرة تطلع من بطنها النجوم، أو بامرأة تنحني على الأرض بذراعيها ويسندها «شو» إله الهواء بكلتا يديه، وأقدم ما تخيلوه في أصل العالم المعمور أنه عيلم واسع من الماء طفت عليه بيضة عظيمة خرج منها رب الشمس، وأنجب أربعة من الأبناء هم «شو» و«تفنوت» القائمان بالفضاء، و«جب» رب الأرض، و«نوت» رب السماء، ثم تزاوجت السماء والأرض فولد لهما أوزيريس، وإيزيس وست ونفتيس، فهم تسعة آلهة في مبدأ الخليقة نشأوا من تزاوج الأرض والسماء، ثم استقر الأمر لثلاثة من هؤلاء هم أوزيريس وإيزيس وحورس، وهناك صيغة أخرى من قصة الخلق فحواها أن «رع» كان مزدوج الطبيعة، فتولد منه الخلق فهو منهم بمثابة الأبوين.
ويتراءى لفريق من المؤرخين أن «رع» نفسه — إله الشمس — كان ملكًا على مصر في زمن من الأزمان، ويستدلون على ذلك بخلاصة قصته المتداولة في الأساطير: وهي أن رع ملك الدنيا قبل سكانها من البشر فتمرد عليه رعاياها فسلط عليهم ربة النقمة «حاتحور»، ثم أشفق عليهم من قسوتها، فاعتزل الدنيا وحملته بقرة السماء على ظهرها فأقام هناك، واندمج شخصه بعد حين بشخص أوزيريس.
وقد فعل غربال الزمن فعله في تصفية هذه العقائد والأرباب، فنسي أوزيريس السلف المعبود ورسخ في الأذهان وصف أوزيريس الشمس القائمة على المغرب أو عالم الأموات، وتوحدت عبادة الشمس بمعناها وتعددت بأسمائها ومواعدها، وجمعت بينها كلها عبادة «آمون» ثم عبادة آتون.
وعبادة «آتون» هي أرقى ما وصل إليه البشر من عبادات التوحيد في القرن الرابع عشر قبل الميلاد.
فلم يكن المراد بآتون قرص الشمس ولا نورها المحسوس بالعيون، ولكن الشمس نفسها كانت رمزًا محسوسًا للإله الواحد الأحد المتفرد بالخلق في الأرض والسماء.
وإنما جاء هذا الطور بعد تمهيدات دينية وسياسية تهيأت لمصر ولم تتهيأ لغيرها من الدول الكبرى في تلك الفترة.
فكانت في أقاليم القطر — قبل ظهور عبادة آتون — ثلاث عبادات «شمسية» تتنافس في المبادئ الروحية ووسائل النفوذ التي تتغلب بها على النظراء.
فكانت منف تدين لإله الشمس باسم فتاح.
وكانت عين شمس أو «هيليوبوليس» تدين له باسم رع وأحيانًا باسم «آتوم»، وكانت طيبة تدين له باسم آمون.
ويتبين من مراجعة الدعوات والصلوات المحفوظة أن عبادة «فتاح» كانت أقرب هذه العبادات إلى المعاني الروحية، فارتفع «فتاح» من صانع حاذق بالبناء والتماثيل وسائر الصناعات إلى صانع مختص بإقامة الهيكل المقدس الذي أصبح في اعتقادهم مثالًا للعالم بأرضه وسمائه، وما هي إلا خطوة واحدة بين بناء الهيكل الذي يمثل العالم كله وبناء العالم كله من أقدم الأزمان قبل خلق الإنسان، وارتفع فتاح طبقة أخرى في مدارج القدرة والتنزه عن النظراء، فتعالى عن الأجساد الشاخصة للحس وتمثل لعباده روحًا مسيطرة على كل حركة وكل سكون في جميع المخلوقات، من ذات حياة وغير ذات حياة، فكان فتاح كما جاء في إحدى صلواته هو «الفؤاد واللسان للمعبودات، ومنه يبدأ الفهم والمقال، فلا ينبعث من ذهن ولا لسان فكر أو قول بين الأرباب أو الناس أو الأحياء، أو كل ذي وجود إلا وهو من وحي فتاح.»
وما وجد شيء من الأشياء قط إلا بكلمة من لسانه صدرت عن خاطر في فؤاده، فكلمته هي الخلق والتكوين.
ونسج كهان عين شمس على منوال كهان منف في تنزيه رع وتجريده من ملابسات الحس والتجسيد، ولا سيما بعد تفرغهم للعبادة الروحية وانصرافهم إليها كلما تعاظم سلطان الكهان في طيبة وتفاقمت سيطرتهم على مناصب الدولة، وهم كهان آمون.
وقد توطدت كهانة آمون في أيام المملكة الوسطى، وبلغت أوجها بعد عهد تحوتمس الثالث أكبر ملوك الأسرة الثامنة عشرة، ومرشح آمون — أو كهان آمون بعبارةٍ أخرى للسيادة المطلقة على أرجاء البلاد.
واتسعت الدولة المصرية في عهد تحوتمس الثالث حتى تجاوزت حدودها بلاد النوبة والصومال في الجنوب، وامتدت إلى الفرات وآسيا الصغرى في الشرق والشمال، وكان اتساع الأفق في السياسة مقترنًا باتساع الأفق في تصور العالم وما ينبغي لخالقه من التعظيم والتنزيه، فارتقى الفكر الإنساني في هذا العهد من البيئة المحلية إلى بيئة عالمية، ثم إلى بيئة أبدية تنطوي فيها أبعاد المكان والزمان.
وطغى نفوذ الكهان الآمونيين على كل نفوذ في البلاد من جراء هذه القربى بينهم وبين الملك العظيم، فاستأثر رئيسهم بلقب «الرئيس» في أنحاء الديار، وضيقوا الخناق على كهان رع وفتاح، ولزموا حدودهم مع الملك العظيم في أثناء حياته لقوته ورهبته وعلو اسمه بالمظافر والفتوح، وفرط ما أغدق عليهم من الهبات والحبوس والأوقاف، ولكنهم ذهبوا في الطغيان كل مذهب على عهد خلفائه، فطمعوا في نفوذ الملك بعد اطمئنانهم إلى نفوذ الدين.
ومن هنا خطر للملوك خاطر الخلاص من هذا النفوذ، فتكلم أمنحتب الثالث عن آمون في بعض أوامره وتسجيلاته باسم آخر: هو اسم آتون.
وساعد على هذا التبديل الطفيف أن صفات الإله في أذهان المصريين كانت أقرب إلى صفاته عند كهان منف وعين شمس، وأن مسالك الكهان الدنيويين من شيعة آمون لم تكن وفاق الآداب والعادات التي استلزمها ارتقاء المصريين في فهم كمال الإله.
فلما تولى الملك أمنحتب الرابع — أو إخناتون كما تسمى بعد ذلك — كان التمهيد للعبادة الجديدة قد بلغ مداه، وكان اتساع الأفق في النظر إلى الدنيا والنظر إلى صفات خالقها قد وسع له المجال للابتكار والتجديد، وأعان عبقريته على التدعيم بعد التمهيد.
•••
وقد حفظت لنا النقوش والتماثيل والألواح وأوراق البردي كثيرًا من أخبار إخناتون وأحواله وملامحه وسيرته في مملكته وفي بيته، وتكفي لمحات عابرة إلى شكل جمجمته وتركيب بنيته وأساليب تفكيره ومناحي عباراته للعلم بأنه كان عبقريًّا من أولئك العباقرة الملهمين، الذين يحدثنا النفسانيون أنهم يتلقون العبقرية على حساب أبدانهم وهناءتهم في حياتهم، كما نقول في تعبير هذه الأيام.
وكان الفتى إخناتون حدثًا ناشئًا عند ولاية الملك، معروفًا بالعكوف على التأمل والتفكير والخلوة بنفسه في صلواته ومناجاته، وكان لطيف الحس حالم النفس منصرفًا عن طلب البأس والقوة ومتابعة الفتوح والغزوات التي توطد بها ملك آبائه وأجداده فطمع فيه كهنة آمون، وخيل إليهم أنهم مالكون زمام الأمر كله على يديه.
غير أن الفتى الحالم كان عبقريًّا يحب الابتكار والتفقه في العبادة بالعقل والبداهة المستقلة، ولم يكن تقليديًّا يلقي بزمامه لمن يسيطر عليه.
وكان مع لطف حسه قوي النفس صعب المراس، فاستنكر دسائس الآمونيين وتهافتهم على المناصب والأموال.
فقمعهم قمعًا شديدًا ومحا اسم آمون من كل مكان حتى هياكل أبيه واسمه الذي يبدأ باسم آمون، وجهر بعبادة «آتون» دون سواه، وهجر العاصمة التي ساد فيها هذا الإله إلى عاصمة أخرى في أواسط الصعيد، وهبها لربه الواحد الأحد وسماها «أخت آتون».
وألغى جميع الأرباب وأعوانهم من الأرواح والجِنَّة، وأولهم الرب القديم أوزيريس، فكان هذا من أسباب غلبته يومئذ، وأسباب التمرد عليه بعد حين.
ومن صلوات إخناتون تعرف صفات الله الذي دعا إلى عبادته دون سواه، فإذا هي أعلى الصفات التي ارتقى إليها فهم البشر قديمًا في إدراك كمال الإله.
فهو الحي المبدئ الحياة، الملك الذي لا شريك له في الملك، خالق الجنين وخالق النطفة التي ينمو منها الجنين، نافث الأنفاس الحية في كل مخلوق، بعيد بكماله قريب بآلائه، تسبح باسمه الخلائق على الأرض والطير في الهواء، وترقص الحملان من مرح في الحقول فهي تصلي له وتستجيب لأمره، ويسمع الفرخ في البيضة دعاءه فيخرج إلى نور النهار واثبًا على قدميه، قد بسط الأرض ورفع السماء وأسبغ عليهما حلل الجمال، وهو ملء البصر وملء الفؤاد، وهو هو الوجود وواهب الوجود، وشعوب الأرض كلها عبيده لأنه هو الذي أقام كل شعب في موطنه ليأخذ نصيبه من خيرات الأرض ومن أيام العمر في رعاية الواحد الأحد آتون.
ومن أمثلتها قول إخناتون: «إذا ما هبطت في أفق المغرب أظلمت الأرض كأنها ماتت، فتخرج الأسود من عرائنها والثعابين من جحورها.»
ويقابله المزمور الرابع بعد المائة وفيه: «إنك تجعل ظلمة فيصير ليل يدب فيه حيوان الوعر وتزمجر الأشبال لتخطف، ولتلتمس من الله طعامها.»
ويمضي المزمور قائلًا: «… تشرق الشمس فتجتمع وفي مآويها تربض والإنسان يخرج إلى عمله وإلى شغله في المساء، ما أعظم أعمالك يا رب كلها بحكمة صنعت! والأرض ملآنة من غناك، وهذا البحر الكبير الواسع الأطراف، وهناك دبابات بلا عدد مع صغار مع كبار، هناك تجري السفن، ولوياثان «التمساح» خلقته ليلعب فيه.»
ومثله في صلوات إخناتون: «ما أكثر خلائقك التي نجهلها. أنت الإله الأحد الذي لا إله غيره، خلقت الأرض بمشيئتك، وتفردت فعمرت الكون بالإنسان والحيوان الكبار والصغار.»
«… تسير السفن مع التيار وفي وجهه، وكل طريق يتفتح للسالك لأنك أشرقت في السماء، ويرقص السمك في النهر أمامك، وينفذ ضياؤك إلى أغوار البحار.»
«… وتضيء فتزول الظلمة … وقد أيقظتهم فيغتسلون ويسعون ويرفعون أيديهم إليك … ويمضي سكان العالم يعملون.»
•••
وقد خطر لويجال — كما قال في كتابه عن حياة إخناتون وعصره — أن آتون وآتوم تصحيف «أدوناي» بمعنى السيد أو الإله في اللغة العبرية، وأن إخناتون ورث آراءه من أمه وهي تنتمي إلى سلالة آسيوية من شعب يقيم بين سورية وآسيا الصغرى، حيث يعبد دوناي أو أتون، على مختلف اللهجات.
وهذا وهم جلبه التشابه في الأسماء؛ لأن «آتوم» من أقدم الأرباب المصرية في معابد رع، وقد كان رب الكون حيث لا شيء غير اللجة الطخياء المسماة في الأساطير المصرية «نون»، وجاء في الفقرة السابعة عشرة من القسم الأول في كتاب الموتى على لسانه: «… وأنا آتوم متفردًا في نون، وأنا رع حيث يبزغ مع الفجر ليبسط يديه على الدنيا التي خلقها.»
فهو رب أصيل وليس بالرب المستعار، ولا شبه بينه وبين أدوناي أو أدونيس — في صيغته اليونانية — لأن أدونيس رب الربيع والغرام يتخيلونه في ميسم الشباب ويزعمونه زوج فينوس أو الزهرة، ولا شيء من هذا في خصائص آتوم الذي يبدو على مثال الكهول ذوي اللحى، ويتقلد مفاتح الحكم والحكمة، ويرجع إلى مبدأ الخليقة حيث لا شيء غير الماء والظلام.
والأرباب الشمسيون أشبه بهياكل عين شمس لأنها أرباب أصيلة فيها لا تحتاج تلك الهياكل إلى استعارتها من ديانة أجنبية، ولا سيما الرب الذي يحمل تاجي القطرين ويرأس المحكمة الإلهية في السماء.
وقد كانت لظهور آتون تمهيدات لازمة لم تحدث في غير المملكة المصرية، وهي تمهيدات الإمبراطورية، وتمهيدات التنافس بين آمون ورع وفتاح وتمهيدات العبقرية التي تبشر بالدين الجديد.
وكانت لأتون خصائص متفردة لم يشركه فيها إله آخر من آلهة الأمم القريبة إلى مصر، وهذا هو المهم في نشوء الديانات وليس المهم مجرد التشابه في مخارج الحروف، فليس أدونيس عند اليونان كأدوناي عند العبريين، وليس هذا ولا ذاك كأتوم في معبد عين شمس أو غيره من المعابد المصرية، وليس هؤلاء جميعًا كالإله آتون الذي دعا إليه إخناتون، فلا وجود لآتون بهذه الخصائص لو لم تسبقه التمهيدات القديمة التي مرت بعبادة آتوم في مصر، ومنها اتساع الدولة وإيمان المصريين بصفات رع وفتاح وآمون، وحاجة الزمن إلى فهم جديد لصفات الكمال في الإله، ثم عبقرية إخناتون التي تممت بابتكارها واجترائها ما بدأه التاريخ.
وقد كان عرب الجاهلية مثلًا يعرفون اسم الله كما نعرفه اليوم، ولكن الله الذي وصفوه والله الذي وصفه الإسلام لا يتشابهان بغير الحروف، وبينهما من الفارق كما بين أبعد الأرباب.
•••
على أن ويجال يقابل بين معاني إخناتون ومعاني المزمور فيرجح الاستعارة بينهما، ويعود فيرجح أن إخناتون كان في غنى عن الاستعارة لما طبع عليه من العبقرية الدينية وما اتسم به كلامه من طابع الابتكار.
لكن المحقق أن بني إسرائيل قد أخذوا كثيرًا من عقائد المصريين وشعائرهم قبل عهد إخناتون بعدة قرون، وبعده بعدة قرون.
إلا أن هذه الدعوة — دعوة إخناتون — كانت صحوة وجيزة تبعتها نكسة سريعة من جراء الأحداث السياسية التي أحاطت بالدولة، ومن كيد الكهان المخلوعين في طيبة وما جاورها، وهم كهان آمون الأقوياء الذين سلبهم إخناتون مناصبهم وحبوسهم وسيطرتهم على العرش والمحراب، ولعلهم كانوا مخفقين في كيدهم لو اصطنع هذا المصطلح الكبير شيئًا من الدهاء ولم تدفعه الحماسة الروحانية وراء كل تقدير وتدبير؛ لأنه هجم على الشعب في أعز العقائد عليه وهي عقيدته في أساطير عالم الأموات وشعائر الإله أوزيريس رب المغرب والخلود، فأنكر سلطان أوزيريس على الأرواح، وجرده من قدرة الحكم عليها بالعقاب أو العذاب، فلم يؤمن بجحيم أوزيريس ولا بجحيم غيره؛ وبشر الناس بحياة خالدة كحياة الأطياف، تحياها الروح بين الهدوء في ظلمة الليل واستقبال الضياء من وجه آتون.
ولهذا بقيت عبادة أوزيريس وإيزيس بين المصريين، كما بقيت بين اليونان والرومان وانطوت أيام آتون بانطواء أيام نبي آتون.