فارس
لعل تاريخ الديانة الفارسية القديمة أهم التواريخ الدينية بين الأمم الآسيوية، لِتَوَشُّجِ القرابة بينه وبين الديانات الهندية والطورانية والبابلية واليونانية، وارتباطه بالتواريخ السابقة له واللاحقة به واقتباس الديانة الفارسية من غيرها واقتباس غيرها منها، وتقدم الفكرة الإلهية على يد زرادشت صاحب الشريعة القومية في بلاد فارس وأرفع الأعلام شأنًا بين دعاة المجوسية من أقدم عصورها إلى أحدثها.
فالفرس الأقدمون من السلالة الهندية الجرمانية، وموقع بلادهم قريب من دولة بابل، قريب من أقاليم الطورانيين، قريب من مسالك الحضارة بين المشرق والمغرب، وقد تلاقت حضارة فارس وحضارة مصر في السلم والحرب غير مرة، وانقضى زمن طويل على الدنيا المتحضرة وهي تقرن بين المجوسية وبين الحكمة أو العلم بأسرار الطبيعة والسيطرة عليها بالسحر والمعرفة الإلهية، وكان لليهود وأبناء فلسطين وأمم العرب علاقات قديمة بالدولة الفارسية تارة والدولة البابلية تارة أخرى. فاتصل من ثم تاريخ المجوس بتاريخ اليهود والمسيحيين والمسلمين.
فالأقدمون من الفرس يلتقون مع الهند في عبادة «مترا» إله النور وتسمية الإله باﻟ «أسورا» أو إله اﻟ «أهورا» وإن اختلفوا في إطلاقه على عناصر الخير والشر، فجعله الفرس من أرباب الخير والصلاح وجعلته الهند من أرباب الشر والفساد.
والبابليون عرفوا عبادة «مترا» في القرن الرابع عشر قبل الميلاد ورفعوه إلى المنزلة العلية بين الآلهة التي تحارب قوى الظلام.
واستعار الفرس من البابليين كما أعاروهم، فأخذوا منهم سنة التسبيع في عدد الآلهة، وجعلوا أورمزد على رأس سبعة من أرباب الحكمة والحق وقوى الطبيعة وأنواع المرافق والصناعات.
ولم تخل الديانة المجوسية من عقائد الطورانيين؛ لأن «زرادشت» عاش بينهم زمنًا وبشرهم بدينه فاضطر إلى مجاراتهم في عباداتهم ليجاروه في عبادته، وأدخل أربابًا لهم في عداد الملائكة المقربين.
ويعتقد المجوس في بعض أساطيرهم أن «زروان» أبو الإلهين إله النور والظلام، ولعل «زروان» هذا صنو لإله البابليين «نون» أو القدر الذي يتسلط على الآلهة كما يتسلط على المخلوقات.
وقد آمن المجوس بالعالم الآخر كما آمن به المصريون، وآمنوا كذلك بالثواب والعقاب في الدار الآخرة، ولكنهم قالوا بقيامة الموتى ونهاية العالم وبعث الأرواح للحساب في يوم القيامة، ولعلهم جمعوا بذلك بين عقيدة الهند في نهاية العالم وعقيدة المصريين في محاسبة الروح ووزن أعمالها في موقف الجزاء.
ولم يكن اليهود يتكلمون عن «الشيطان» قبل السبي أو قبل الإقامة فيما بين النهرين، فتكلموا عنه بعد أن شبهوه «بأهرمان» الذي يمثل الشر والفساد عند المجوس.
وفي الكتب المسيحية أن حكماء المجوس شهدوا مولد السيد المسيح وعلموا بنبئه فاهتدوا إليه بنجم في السماء.
فتاريخ الديانة الفارسية عامة وتاريخ زرادشت خاصة على ارتباطٍ وثيق بتواريخ العقائد الآسيوية وتواريخ بعض العقائد في مصر واليونان.
ولكن «زرادشت» لا يعرف له تاريخ مفصل على التحقيق، فالمراجع اليونانية ترده إلى القرن الستين قبل الميلاد، والمراجع العربية ترده إلى ما قبل الإسكندر بنحو مائتين وسبعين سنة. فهو على هذا قد ولد حوالي سنة ٦٦٠ قبل الميلاد وهو أصح التقديرات، وقد اعتمده الثقات الباحثون في تاريخه فرجحوا، كما رجح كاسارتللي وجاكسون، أنه ولد سنة ٦٦٠ ومات سنة ٥٨٣ قبل الميلاد.
ويقول الشهرستاني: إن أباه من أذربيجان وأمه من الري، ويكاد يتفق المؤرخون على أنه ولد في الناحية الغربية الشمالية من البلاد الفارسية على شاطئ نهر يسمونه في الكتب المجوسية داريزا ويعرف أخيرًا باسم أراس.
ويزعم بعض مؤرخيه أن اسمه مركب من كلمتين في اللغة القديمة معناهما معاكس الجمل؛ لأنه كان في صباه يعبث بالجمال، ويجعلون لهذه التسمية شانًا في وصاياه العديدة بالإشفاق على الحيوان، كأنه يكفِّر بذلك عن قسوته عليه في صباه.
وخلاصة ما جاء به «زرادشت» من جديد في الديانة أنه أنكر الوثنية وجعل الخير المحض من صفات الله، ونزل بإله الشر إلى ما دون منزلة المساواة بينه وبين الإله الأعلى، وبشر بالثواب وأنذر بالعقاب، وقال بأن خلق الروح سابق لخلق الجسد، وحاول جهده أن يقصر الربانية على إله واحد موصوف بأرفع ما يفهمه أبناء زمانه من صفات التنزيه.
وليست المجوسية كلها من تعليم زرادشت أو تعليم كاهن واحد من كهان الأمة الفارسية، فقد سبقه الفرس إلى عقائدهم في أصل الوجود وتنازع النور والظلام، ولكنه تولى هذه العقائد بالتطهير وحملها على محمل جديد من التفسير والتعبير.
فالمجوس كانوا يعتقدون أن هرمز وأهرمن مولودان لإله قديم يسمى زروان ويكنى به عن الزمان. وأنه اعتلج في جوفه وليدان فنذر السيادة على الأرض والسماء لأسبقهما إلى الظهور، فاحتال أهرمن بخبثه وكيده حتى شق له مخرجًا إلى الوجود قبل «هرمز» الطيب الكريم، فحقت لأهرمن سيادة الأرض والسماء وعز على أبيهما أن ينقض نذره، فأصلحه بموعد ضربه لهذه السيادة ينتهي بعد تسعة آلاف سنة، ويعود الحكم بعده لإله الخير خالدًا بغير انتهاء، ويؤذن له يومئذ في القضاء على إله الشر وتبديد غياهب الظلام.
وزعموا أن مملكة النور ومملكة الظلام كانتا قبل الخليقة منفصلتين، وأن هرمز طفق في مملكته يخلق عناصر الخير والرحمة وأهرمان غافل عنه في قراره السحيق، فلما نظر ذات يوم ليستطلع خبر أخيه راعه اللمعان من جانب مملكة أخيه فأشفق على نفسه من العاقبة وعلم أن النور يوشك أن ينتشر ويستفيض فلا يترك له ملاذًا يعتصم به ويضمن فيه البقاء، فثار وثارت معه خلائق الظلام وهي شياطين الشر والفساد، فأحبطت سعي هرمز وملأت الكون بالخبائث والأرزاء، وران هذا البلاء على الكون حتى كانت معركة «زرادشت» فكان البشير بانتهاء زمان وابتداء زمان، ولكنه لم يختم صراع العدوين اللدودين بل آذن بتحول النصر من صف إلى صف، وتراجع الشر والظلام عن مملكة الخير والنور، وسيدوم هذا الصراع اثني عشر ألف سنة، ينجم على رأس كل ألف منها بشير من بيت زرادشت فيعزز جحافل هرمز ويوقع الفشل في جحافل أهرمن، وتنقضي المدة فينكص أهرمن على عقبيه مخلدًا في أسفل سافلين، لا فكاك له أبد الأبيد من هاوية الظلمات وسجن المذلة والهوان.
وتدل تسمية الإلهين دلالة واضحة على انتقال الفكرة الإلهية طبقة فطبقة من صورة التجسيم إلى صورة التنزيه، فإن هرمز مأخوذ من «أهورا» بمعنى السيد و«ومازدوا» بمعنى الحكيم، وأهرمن مأخوذة من «أنجرو» بمعنى السيء وماينوش بمعنى الفكر والروح، والمعنيان معًا من عالم الفكر المجرد أو القريب من التجريد، ثم أصبحت كلمة أورمزد مرادفة لروح القدس وكلمة أهريمان مرادفة لروح الشر أو روح الأذى والفساد، وقيل في مجمل الأساطير المجوسية أن أهريمان إنما هو فكرة سيئة خطرت على بال زروان فكان منها إله الظلام.
ويخيل إلينا أن زرادشت كان خليقًا أن يسمو بعقيدة المجوس إلى مقام أعلى من ذلك المقام في التنزيه، وأن يسقط بأهرمن من منزلة الند إلى منزلة المارد المطرود، لولا أن وجود «أهرمن» كان لازمًا لبقاء الكهانة الفارسية في عهود المحن والهزائم التي منيت بها الدولة وتجرعت فيها الأمة غصص الذل والانكسار، فلو قال الموابذة للمؤمنين بهرمز أنه هو الإله المتفرد في الكون بالتصريف والتقدير لكفروا بدينهم وحاروا في أمرهم، ولكنهم يكبرون من قوة أهرمن ويجعلون انتصاره عقوبة للناس على تركهم للخيرات وحبهم للشرور، ثم يبشرونهم بغلبة الإله الحكيم الرحيم بعد الهزيمة، فتهدأ وساوسهم إلى حين.
•••
على أن «زرادشت» قد استخلص من أخلاط المجوسية عقيدة وسطًا بين العقيدة الوثنية الأولى والعقيدة الإلهية الحديثة، سواء في تصحيح الفكرة الإلهية أو مسائل الأخلاق ومسائل الثواب والعقاب.
فالله في مذهب زرادشت موصوف بأشرف صفات الكمال التي يترقى إليها عقل بشري يدين على حسب نشأته بالثنائية وقدم العنصرين في الوجود.
فالخير عند زرادشت غالب دائم، والشر مغلوب منظور إلى أجل مسمى، وما زال «أهرمن» يهبط في مراتب القدرة والكفاية على هذا المذهب حتى عاد كالمخلوق الذي ينازع الخالق سلطانه، ولا محيص له في النهاية من الخذلان.
وفي «الزندفستا» يقول زرادشت إنه سأل هرمز: «يا هرمز الرحيم! صانع العالم المشهود، يا أيها القدس الأقدس: أي شيء هو أقوى القوى جميعًا في الملك والملكوت؟
فقال هرمز: إنه هو اسمي الذي يتجلى في أرواح عليين، فهو أقوى القوى في عالم الملكوت.
فسأله زرادشت أن يعلمه هذا الاسم فقال له إنه «هو السر المسئول» وأما الأسماء الأخرى فأولها هو «واهب الأنعام» وثانيها هو المكين، وثالثها هو الكامل، ورابعها هو القدس، والاسم الخامس هو الشريف، والاسم السادس هو الحكمة، والاسم السابع هو الحكيم، والاسم الثامن هو الخبرة، والاسم التاسع هو الخبير، والاسم العاشر هو الغنى، والاسم الحادي عشر هو الغني، والاسم الثاني عشر هو السيد، والاسم الثالث عشر هو المنعم، والاسم الرابع عشر هو الطيب، والاسم الخامس عشر هو القهار، والاسم السادس عشر هو مُحق الحق، والاسم السابع عشر هو البصر، والاسم الثامن عشر هو الشافي، والاسم التاسع عشر هو الخلاق، والاسم العشرون هو «مزدا» أو العليم بكل شيء.»
وقد حرم زرادشت عبادة الأصنام والأوثان وقدس النار على أنها هي أصفى وأطهر العناصر المخلوقة، لا على أنها هي الخلاق المعبود، وقال إن الخلائق العلوية كلها كانت أرواحًا صافية لا تشاب بالتجسيد، فخيرها الله بين أن يقصيها من منال «أهرمن» أو يلبسها الجسد لتقدر على حربه والصمود في ميدانه؛ لأن عناصر الفساد لا تُحارَب بغير أجساد، فأبت أن تعتصم بمعزلٍ عن الصراع القائم بين هرمز وأخيه، واختارت التجسد لتؤدي فريضة الجهاد في ذلك الصراع.
ويتخيل زرادشت «هرمز» أو أورمزد أو «أهورا مازدا» أو يزدان — على اختلاف اللهجات في نطقه — مستويًا على عرش النور محفوظًا بستةٍ من الملائكة الأبرار، تدل أسماؤهم على أنهم صفات إلهية كالحق والخلود والملك والنظام والصلاح والسلامة، ثم استعيرت لها سمات «الذوات» بعد تداول الأسماء أو تداول الأنباء عما تفعله وما تؤمر به وما تتلقاه من وحي الله.
وتفيض أقوال «زرادشت» كلها باليقين من رسالته واصطفاء الله إياه للتبشير بالدين الصحيح والقضاء على عبادة الأوثان، ومن أمثلة هذا اليقين قوله: «أنا وحدي صفيك الأمين، وكل من عداي فهو عدو لي مبين.» وأن الله أودع الطبائع عوامل الخير جميعًا، فإن هي حادت عن سواء السبيل كان إرسال الرسل للتذكير والتحذير آخر حجة لله على الناس، وأن زرادشت هو هو هذه الحجة التي أبرزها الله إلى حيز الوجود لتهدي من ضل وتذكر من غفل وتستصلح من فيه بقية للصلاح، وكلما انقضى ألف عام برز إلى حيز الوجود خليفة له من سلالته، ولكن الأرواح التي تحف بالعرش هي التي تحمل بذرته إلى رحم عذراء تلهمها تلك الأرواح أن تتطهر في تلك الساعة بالماء المقدس في عين صافية مدخرة في ناحية من الأرض ليومها الموعود.
ويتخيل زرادشت أنه يناجي هرمز ويسمع جوابه ويسأله سؤال المتعلم المسترشد لمرشده وهاديه. فيناديه: رب! هب لي عونك كما يعين الصديق أخلص صديق، ويسأله: رب ألا تنبئني عن جزاء الأخيار؟ أيجزون يا رب بالحسنة قبل يوم المعاد؟ أو يسأله: من أقر الأرض فاستقرت ورفع السماء فلا تسقط؟ ومن خلق الماء والزرع؟ ومن ألجم للرياح سحب الفضاء وهي أسرع الأشياء؟
ولا يبعد أنه كان من أصحاب الطبائع التي تغيب عن الوعي أو تسمع في حالة وعيها أصواتًا خفية من هاتف ظاهر أو محجوب، كما روي عن سقراط وأمثاله من الموهوبين والملهمين.
•••
ورواية الخليقة في مذهب زرادشت أن هرمز خلق الدنيا في ستة أدوار، فبدأ بخلق السماء، ثم خلق الماء، ثم خلق الأرض، ثم خلق النبات، ثم خلق الحيوان، ثم خلق الإنسان.
وأصل الإنسان رجل يسمى «كيومرت» قتل في فتنة الخير والشر فنبت من دمه ذكر يسمى ميشة وأنثى تسمى ميشانة، فتزوجا وتناسلا وساغ من أجل ذلك عند المجوس زواج الأخوين.
ويفرق المجوس بين الخلائق جريًا على مذهبهم في اشتراك الخلق بين خالق الطيبات وخالق الخبائث، أو بين إله النور وإله الظلام، فالأحياء النافعة من خلق أورمزد كالثور والكلب والطير البريء، والأحياء الضارة من خلق أهرمن كالحية وما شابهها من الحشرات والهوام.
والناس محاسبون على ما يعملون، فكل ما صنعوه من خير أو شر فهو مكتوب في سجل محفوظ، وتوزن أعمالهم بعد موتهم فمن رجحت عنده أعمال الخير صعد إلى السماء، ومن رجحت عنده أعمال الشر هبط إلى الهاوية، ومن تعادلت عنده الكفتان ذهب إلى مكانٍ لا عذاب فيه ولا نعيم، إلى أن تقوم القيامة ويتطهر العام كله بالنار المقدسة فيرتفعون جميعًا إلى حضرة هرمز في نعيم مقيم.
وتوزن الأعمال عند قنطرة تسمى قنطرة «شنفاد» تتوافى إليها أرواح الأبرار والأشرار على السواء بعد خروجها من أجسادها، فيلقاها هناك «رشنوه ملك العدل وميتر رب النور وينصبان لها الميزان ويسألانها عما لديها من الأعذار والشفاعات» ثم يفتحان لها باب النعيم أو باب الجحيم.
ونعيم المجوس من جنس الحسنات التي تجزى بذلك النعيم؛ لأن المجوس لا يستحبون الزهد في الحياة ولا يصدفون عن المتاع المباح، فمن عاش في الدنيا عيشة راضية وكسب رزقه بالعمل الصالح وأنشأ أبناءه نشأة حسنة فجزاؤه في النعيم رغد العيش وجمال السمت وطيب المقام بين الأقرباء والأصفياء، ويُسقى من لبن بقرة مقدسة درها غداء الخلود، ومن كسب رزقه من السحت والحرام فجزاؤه في الجحيم عيشة ضنك وألم كألم الجوع والعري والذل والاغتراب عن الأحباب.
•••
وهذه الخلاصة ترسم لنا اتجاه مذهب «زرادشت» ولكنها لا ترسم لنا شعب المجوسية التي يشتبك بها هذا المذهب في مواضعَ ويفترق عنها في مواضعَ أخرى، وقد أجمل الشهرستاني بيان هذه المذاهب في كتابه الملل والنحل فقال في فصل مطول عن المجوس وأصحاب الاثنين والمانوية وسائر فرقهم المجوسية: «… كانت الفرق في زمان إبراهيم الخليل راجعة إلى صنفين: أحدهما الصابئة والثانية الحنفاء، فالصابئة كانت تقول: إنا نحتاج في معرفة الله تعالى ومعرفة طاعته وأوامره وأحكامه إلى متوسط، لكن ذلك المتوسط يجب أن يكون روحانيًّا لا جسمانيًّا وذلك لزكاء الروحانيات وطهارتها وقربها من رب الأرباب، والجسماني بشر مثلنا يأكل مما نأكل ويشرب مما نشرب يماثلنا في المادة والصورة. قالوا: وَلَئِنْ أَطَعْتُم بَشَرًا مِّثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَّخَاسِرُونَ والحنفاء كانت تقول: إنا نحتاج في المعرفة والطاعة إلى متوسط من جنس البشر تكون درجته في الطهارة والعصمة والتأييد والحكمة فوق الروحانيات، يماثلنا من حيث البشرية ويمايزنا من حيث الروحانية، فيتلقى الوحي بطرف الروحانية ويلقي إلى نوع الإنسان بطرف البشرية، وذلك قوله تعالى: قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ وقد قال جل ذكره: قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلَّا بَشَرًا رَّسُولًا ثم لما لم يتطرق للصابئة الاقتصار على الروحانيات البحتة والتقرب إليها بأعيانها والتلقي منها بذواتها فزعت جماعة إلى هياكلها وهي السيارات السبع وبعض الثوابت، فصابئة الروم مفزعها السيارات، وصابئة الهند مفزعها الثوابت، وربما نزلوا عن الهياكل إلى الأشخاص التي لا تسمع ولا تبصر ولا تغني عن الإنسان شيئًا، والفرقة الأولى هم عبدة الكواكب والثانية هم عبدة الأصنام، وكان إبراهيم مكلفًا بكسر المذهبين على الفرقتين وتقرير الحنيفية السمحة السهلة.»
ثم قال عن الثنوية إنهم: «… أثبتوا أصلين اثنين مدبرين قديمين يقتسمان الخير والشر والنفع والضر والصلاح والفساد، ويسمون أحدهما النور والثاني الظلمة، وبالفارسية يزدان وأهرمن، ولهم في ذلك تفصيل مذهب، ومسائل المجوس كلها تدور على قاعدتين: أحداهما بيان سبب امتزاج النور بالظلمة، والثانية سبب خلاص النور من الظلمة، وجعلوا الامتزاج مبدأ والخلاص معادًا، إلا أن المجوس الأصلية زعموا أن الأصلين لا يجوز أن يكونا قديمين أزليين، بل النور أزلي والظلمة محدثة، ثم لهم اختلاف في سبب حدوثها: أمن النور حدثت والنور لا يحدث شرًّا جزئيًّا فكيف يحدث أصل الشر؟ أم شيء آخر ولا شيء يشترك مع النور في الأحداث والقدم؟ وبهذا يظهر خبط المجوس، وهؤلاء يقولون: المبدأ الأول في الأشخاص كيومرث وربما يقولون زروان الكبير، والنبي الآخر زرادشت، والكيومرثية يقولون: كيومرث هو آدم عليه السلام، وقد ورد في تاريخ الهند والعجم: كيومرث آدم ويخالفهم سائر أصحاب التواريخ.»
ثم قال عن الكيومرثية: إنهم «… أثبتوا أصلين: يزدان وأهرمن، وقالوا: يزدان أزلي قديم وأهرمن محدث مخلوق، قالوا: إن يزدان فكر في نفسه أنه لو كان لي منازع كيف يكون؟ وهذه الفكرة رديئة غير مناسبة لطبيعة النور، فحدث الظلام من هذه الفكرة، وسمي أهرمن، وكان مطبوعًا على الشر والفتنة والفساد والضرر والإضرار، فخرج على النور وخالفه طبيعة وقولًا، وجرت محاربة بين عسكر النور وعسكر الظلمة، ثم إن الملائكة توسطوا فصالحوا على أن يكون العالم السفلي خالصًا لأهرمن وذكروا سبب حدوثه، وهؤلاء قالوا سبعة آلاف سنة ثم يخلي العالم ويسلمه إلى النور، والذين كانوا في الدنيا قبل الصلح أبادهم وأهلكهم ثم بدأ برجل يقال له كيومرث وحيوان يقال له ثور، فقتلهما فنبت من مسقط ذلك الرجل ريباس وخرج من أصل ريباس رجل يسمى ميشة وامرأة اسمها ميشانة وهما أبوا البشر، ونبت من مسقط النور الأنعام وسائر الحيوانات، وزعموا أن النور خير الناس وهم أرواح بلا أجساد بين أن يرفعهم عن مواضع أهرمن وبين أن يلبسهم الأجساد فيحاربوا أهرمن، فاختاروا لبس الأجساد ومحاربة أهرمن على أن يكون لهم النصرة من عند النور والظفرة بجنود أهرمن وحسن العاقبة، وعند الظفر به وإهلاك جنوده يكون الغاية: فذاك سبب الامتزاج وذاك سبب الخلاص.»
وقال عن الزروانية: «إن النور أبدع أشخاصًا من نور كلها روحانية نورانية لكن الشخص الأعظم الذي هو زروان شك في شيء من الأشياء فحدث في أهرمن الشيطان من ذلك الشك، وقال بعضهم: لا بل إن زروان الكبير قام فزمزم تسعة آلاف وتسعمائة وتسعين سنة ليكون له ابن، فلم يكن، ثم حدث في نفسه همٌّ من ذلك وقال: لعل هذا العالم ليس بشيء، فحدث أهرمن من ذلك الهمِّ الواحد، وحدث هرمز من ذلك العلم، فكانا جميعًا في بطن واحد، وكان هرمز أقرب من باب الخروج، فاحتال أهرمن الشيطان حتى شق بطن أمه فخرج قبله وأخذ الدنيا، وقيل إنه لما مثل بين يدي زروان فأبصره ورأى ما فيه من الخبث والشرارة والفساد أبغضه فلعنه وطرده، فمضى واستولى على الدنيا، وأما هرمز فبقي زمانًا لا يدله عليه، وهو الذي اتخذه قوم ربًا وعبدوه لما وجدوا فيه من الخير والطهارة والصلاح وحسن الأخلاق، وزعم بعض الزروانية أنه لم يزل كان مع الله شيء رديء إما فكرة رديئة وإما عفونة رديئة، وذلك هو مصدر الشيطان، وزعموا أن الدنيا كانت سليمة من الشرور والآفات والفتن، وكان أهلها في خيرٍ محض ونعيمٍ خالص، فلما حدث أهرمن حدثت الشرور والآفات والفتن. وكان بمعزلٍ من السماء، فاحتال حتى خرق السماء، وصعد، وقال بعضهم: كان هو في السماء، والأرض خالية عنه، فاحتال حتى خرق السماء ونزل إلى الأرض بجنوده كلها، فهرب النور بملائكته، واتبعه الشيطان حتى حاصره في جنته، وحاربه ثلاثة آلاف سنة لا يصل الشيطان إلى الرب تعالى، ثم توسطت الملائكة، وتصالحا على أن يقيم إبليس وجنوده في قرار الضوء تسعة آلاف سنة بالثلاثة آلاف التي قاتله فيها ثم يخرج إلى موضعه، ورأى الرب تعالى — على قولهم — الصلاح في احتمال المكروه من إبليس وجنوده، ولا ينقص الشر حتى تنقضي مدة الصلح، فالناس في البلايا والفتن والخزايا والمحن إلى انقضاء المدة.»
وقال عن الزرادشتية: «… زعموا أن الله عز وجل خلق في وقتٍ ما في الصحف الأولى والكتاب الأعلى من ملكوته خلقًا روحانيًّا، فلما مضت ثلاثة آلاف سنة أنفذ مشيئته في صورة من نور متلألئ على تركيب صورة الإنسان، وأحف به سبعين من الملائكة المكرمين وخلق الشمس والقمر والكواكب والأرض وبني آدم غير متحرك ثلاثة آلاف سنة، ثم جعل روح زرادشت في شجرة أنشأها في أعلى عليين، وغرسها في قلة جبل من جبال أذربيجان يعرف بأسموية ضر، ثم مازج شبح زرادشت بلبن بقرة، فشربه أبو زرادشت، فصار نطفة ثم مضغة في رحم أمه، فقصدها الشيطان وغيرها، فسمعت أمه نداء من السماء فيه دلالات على برئها فبرأت، ثم لما ولد زرادشت ضحك ضحكة تبينها من حضر، واحتالوا على زرادشت حتى وضعوه بين مدرجة البقر ومدرجة الخيل ومدرجة الذئب، وكان ينتهض كل واحد منهم بحمايته من جنسه، ونشأ بعد ذلك إلى أن بلغ ثلاثين سنة فبعثه الله نبيًّا ورسولًا إلى الخلق، فدعا «كشتاسف» الملك فأجابه إلى دينه، وكان دينه عبادة الله والكفر بالشيطان والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجتناب الخبائث، وقال: النور والظلمة أصلان متضادان، وكذلك يزدان وأهرمن، وهما مبدأ موجودات العالم، وحصلت تراكيب من امتزاجهما وحدثت الصور من التراكيب المختلفة، والباري تعالى خالق النور والظلمة ومبدعها وهو واحد لا شريك له ولا ضدَّ ولا ندَّ، ولا يجوز أن ينسب إليه وجود الظلمة كما قالت الزروانية، لكن الخير والشر والصلاح والفساد والطهارة والخبث إنما حصلت من امتزاج النور والظلمة، ولو لم تميزها لما كان وجود للعالم، وهما يتقاومان ويتغالبان إلى أن يغلب النور الظلمة والخير الشر ثم يتخلص الخير إلى عالمٍ والشر إلى عالمٍ وذلك هو سبب الخلاص، والباري تعالى هو مزجها وخلطها، وربما جعل النور أصلًا وقال: إن وجوده وجود حقيقي، وأما الظلمة فتبع، كالظل بالنسبة إلى الشخص، فإنه يُرى أنه موجود وليس بموجود حقيقة، فأبدع النور وحصل الظلام تبعًا لأن من ضرورة الوجود التضاد، فوجوده ضروري واقع في الخلق لا بالقصد الأول كما ذكرنا في الشخص والظل، وله كتاب قد صنفه، وقيل: أنزل ذلك عليه وهو «زندوستا» يقسم العالم قسمين: ميته وكيتي؛ يعني الروحاني والجسماني، والروح والشخص، وكما قسم الخلق إلى عالمين يقول: إن ما في العالم ينقسم إلى قسمين بخشش وكنس، ويريد به التقدير والفعل، وكل واحد مقدر على الثاني، ثم يتكلم في موارد التكليف وهي حركات الإنسان فيقسمها ثلاثة أقسام منش وكونس وكنش، يعني بذلك الاعتقاد والقول والعمل، وبالثلاث يتم التكليف.»
•••
ولم تختم المذاهب المتجددة في المجوسية بمذهب زرادشت وتفسيراته المتعددة، بل بقيت هذه المذاهب تتجدد إلى ما بعد شيوع المسيحية بعدة قرون: وأشهرها وأهمها في تاريخ المقابلة بين الأديان، مذهب مترا ومذهب ماني المعروف بالمانوية.
انتشر مذهب «مترا» في العالم الغربي بعد حملات «بومبي» الآسيوية وتدفق الآسيويين من جنوده إلى حواضر سورية وآسيا الصغرى، وأيده القياصرة لأنه كان يرفع سلطان الملوك إلى عرش السماء، ويقول: إن الشمس تشع عليهم قبسًا من نورها وهالة من بركتها فيرمزون بعروشهم على الأرض إلى عرش الله في عليين.
وشاع هذا المذهب بعض الشيوع في القرن الثاني قبل الميلاد، وقصر أتباعه على الذكور دون الإناث وجعل لهم درجات سبعًا يرتقونها إلى مقام العارفين الواصلين رمزًا إلى الدرجات التي تصعد عليها الروح بعد الموت من سماء إلى سماء، حتى تستقر في نهاية المرتقى عند حظيرة الأبرار.
ويحتفل بالمريد كلما انتقل من درجة إلى درجة في وليمة يتناول فيها الخبز المقدس ويمسح بالماء الطهور، ولا يطلع قبل الدرجة الرابعة على أسرار المحراب، بل يقتصر في العلم بتلك الأسرار على التقليد، ثم يترقى في معرفة السر الأعظم إلى أن يعرف كلمة الله الخالقة في مقام العارفين الواصلين.
وأصل «مترا» قديم في الديانة الآرية، يدين به الهنود كما يدين به الفارسيون، وقد هبط في الديانة الزرادشتية إلى مرتبة الملك الموكل بهداية الصالحين، ولكنهم جعلوه في الديانة المترية إله الشمس ورب الكون وخالق الإنسان وقاهر أهرمن بعد جلاد طويل.
ولا يسبقه في الوجود شيء غير «الأبد» أو «الزمان» أبي الأرباب عندهم وأبي كل موجود.
ويمثلون مترا حين تجسد على الأرض مولودًا من صخرة نائية في مكانٍ منفرد لم يعلم بمولده أحد غير طائفة من الرعاة ألهموا معرفته فتقدموا إليه بالهدايا والقرابين، ومضى بعد مولده فستر عريه بورقٍ من شجرة التين، وتغذى بثمرها حتى جاوز سن الرضاع.
وكان أهرمن يحاربه ويتعقبه بالكيد ويحبط كل عمل له من أعمال الخير والفلاح فأرسل مترا على الأرض طوفانًا أغرقها، ولم ينج معه إلا رجل واحد حمل آله وأنعامه في زورق صغير وجدد على الأرض بعد ذلك حياة الإنسان والحيوان، ثم طهر الأرض بالنار، وتناول مع ملائكة الخير طعام الوداع وصعد إلى السماء، حيث هو مقيم يتولى الأبرار بالهداية ويعينهم على النجاة من حبائل الشيطان.
وكان أتباعه يفردون لعبادته يوم الشمس أو يوم الأحد، ويحتفلون بمولده في الخامس والعشرين من ديسمبر لأنه موعد انتقال الشمس وتطاول ساعات النهار، ويقيمون له عيدًا سنويًّا في اليوم السادس عشر من الشهر السابع في تقويم الفرس القديم، وقد كان المسيحيون الأولون يقابلون ذلك — بعد ظهور المسيحية وانتشارها — بتمجيد السيد المسيح في الأيام التي كان عباد مترا ينصرفون فيها إلى تمجيد هذا الإله الشمسي القديم.
أما المانوية فهي مذهب ماني بن فاتك الذي يرجح أنه ولد في أوائل القرن الثالث بعد الميلاد، ومذهبه يخالف مذاهب المجوس الأقدمين في زعمه أن آدم من خلق الشيطان لا من خلق الله، وأن الشيطان أودعه كل ما استطاع أن يختلسه من نور السماء ليكفل له البقاء، فلما بصر به الملائكة ولمحوا فيه قبس النور ذهبوا يستخلصونه من قبضة الشيطان ليرتفعوا به إلى العالم الذي هم فيه، ولا يزالون يعملون في استخلاصه حتى يرجع إلى السماء آخر قبس من الضياء المسروق، فيتجلى الله في سمائه ومن حوله تلك الأرواح النورانية، ويتخلى الملائكة الذين يحملون الدنيا عن حملهم فتتساقط كسفًا وتلتهمها النيران تطهيرًا لها من بقايا الرجس والمكيدة، ويتم الانفصال يومئذ بين عالم النور وعالم الظلام.
قال الشهرستاني عن صاحب هذا المذهب: «إنه أخذ دينًا بين المجوسية والنصرانية، ويقول بنبوة المسيح عليه السلام ولا يقول بنبوة موسى عليه السلام. حكى محمد بن هارون المعروف بأبي عيسى الوراق وكان في الأصل مجوسيًّا عارفًا بمذاهب القوم: إن الحكيم ماني زعم أن العالم مصنوع مركب من أصلين قديمين أحدهما نور والآخر ظلمة، وأنهما أزليان لم يزالا ولن يزالا، وأنكر وجود شيء إلا من أصل قديم، وزعم أنهما لم يزالا قويين حساسين سميعين بصيرين وهما مع ذلك في النفس والصورة والفعل والتدبير متضادان، وفي الحيز متحاذيان، تحاذي الشخص والظل.»
«ثم ذكر أمثلة من الاختلاف بين جوهر النور وجوهر الظلمة فقال: إن جوهر النور حسن فاضل كريم صافٍ نقي الريح حسن المنظر، وإن جوهر الظلمة قبيح ناقص لئيم كدر خبيث منتن الريح قبيح المنظر، وإن أجناس النور خمسة: أربعة منها أبدان والخامس روحها، فالأبدان هي النار والنور والريح والماء، وروحها النسيم، وإن أجناس الظلمة خمسة: أربعة منها أبدان والخامس روحها، والأبدان هي الحريق والظلمة والسموم والضباب، وروحها الدخان.»
•••
وقد أصاب الشهرستاني حين قال إن هذه الثنوية هي ألزم سمات المذاهب المجوسية؛ لأنها تتراءى في كل مذهب منها بلا استثناء، وهي كذلك أبقى ما بقي منها في مجال التفكير ومجال الاعتقاد على السواء؛ لأننا نرى منها ملامح واضحة في مباحث التفرقة بين العقل والمادة، ولا سيما مباحث حكماء اليونان.