بابل
والحضارة البابلية من أقدم الحضارات المروية في التواريخ.
ويزعم المتشيعون للحضارة الشمرية التي ازدهرت في أرض بابل قبل انتقال الساميين إليها أنها أقدم الحضارات البشرية على الإطلاق، ولكنها على الأرجح نزعة من نزعات العنصرية التي تجعل بعض الكتاب الأوربيين يتجاوزون كل حضارة سامية إلى حضارة سابقة لها منسوبة إلى عنصر آخر من العناصر البشرية، ولهذا يبالغون في قدم الحضارة الشمرية وتقدير زمانها السابق لجميع الحضارات.
إلا أن الحضارة البابلية قديمة لا شك في عراقتها على تباين الروايات.
وهي على قدمها لم يكتب لها أن تؤدي رسالة ممتازة في تاريخ الوحدانية، فكل ما أضافته إلى هذا التاريخ يمكن أن يستغنى عنه ولا تنقص منه بعد ذلك فكرة جوهرية من أفكار التوحيد والتقديس؛ لأن الوحدانية تحتاج إلى «تركز وتوحيد» لا يستتبان طويلًا في أحوال كأحوال الدولة البابلية؛ إذ كانت لها كهانات متعددة على حسب الحواضر والأسر المتتابعة، وكانت الحواضر بمعزلٍ عن البادية التي تترامى حولها وتنفرد بعقائدها وأساطيرها، أما الأسر المالكة فقد كانت شمرية ثم أصبحت سامية تنتمي إلى أرومات شتى في الجزيرة العربية من الجنوب إلى الشمال، وكانت أرض بابل في وسط العمران الآسيوي مفتحة الأبواب على الدوام لما تقتبسه من عقائد الفرس والهنود والمصريين والعبريين، وغير هؤلاء من أصحاب الديانات المجهولين في التاريخ.
فلم تتوحد فيها العقيدة حول مركز دائم مطرد الاتساع والامتداد بعيد من طوارئ التغيير والتعديل، وكانت من ثم ذات نصيب في الشريعة وقوانين الاجتماع أوفى من نصيبها في تطور العقيدة الوحدانية على التخصيص.
ويستطاع الجزم بأن الرسالة البابلية في الدين لم تتجاوز رسالة الديانة الشمسية السلفية.
فالغزوات التي تروى عن الأرباب الأقدمين هي غزوات أبطال من الأسلاف الذين برزوا بملامح الآلهة بعد أن غابت عن الأذهان ملامحهم الإنسانية، ثم تلبست سيرتهم بظواهر الكون العليا فسكنوا في مساكن الأفلاك، وحملت الأفلاك أسماءهم ولا تزال تحمل بقية منها إلى اليوم.
فمردوخ إله الحرب هو كوكب المريخ، وقد تغلَّب على تيمات ربة الأغوار المظلمة، فأخذ زوجها وخلائفها الأحد عشر وسلسلهم أسارى في مملكته السماوية، فهم المنازل الاثنا عشر التي بقيت في علم الفلك إلى اليوم.
وقد اتفق الساميون والشمريون على الأرباب الكبرى كإله النور الذي يسميه الساميون شمس ويسميه الشمريون «آنو»، أو كالزهرة ربة الحب التي يسميها الساميون عشتار ويسميها الشمريون ننسيانة، ولكن الأرباب البابلية أوفر عديدًا من أن ينتظمها اتفاق بين قومين مختلفين؛ لأنهم ارتفعوا بعددها إلى أربعة آلاف وقرنوا بها أندادًا لها من الشياطين والعفاريت تبلغ هذا العدد أو تزيد.
ولم ينقض على هذه الأرباب وقت كافٍ لإدماج صغارها في كبارها ثم فنائها جميعًا في أكبر الأرباب المشرفة على الكون، أو في رب واحد ينفرد بهذا الإشراف، كأن الطواطم التي عبدتها القبائل والأسر لم يطل بها عهد التطور حتى يفعل بها فعله من التصفية والاستخلاص والإدماج والتوحيد، فجاءت الأرباب التالية ولا تزال الأرباب السابقة لها على عهدها من النفوذ والاستقرار.
ولهذا كانت سياسة الكون كما تخيلوها في الأدوار الأولى أشبه بالجمهورية بل بالمشيخة القبلية، فكانوا يتخيلون أن الأرباب تجتمع كل سنة في يوم الاعتدال الخريفي لتنظر في السماء مقادير السنة كلها وتكتبها في لوحٍ محفوظ لا يمحى قبل نهاية العام، وكان الملك نفسه يتلقى سلطانه على الأرض عامًا بعد عام في مثل ذلك الموعد، فيمثل الكهنة رواية الخلق ويشهدها الملك فردًا من الأفراد، ويعتمدون في بعض مواقف التمثيل أن يهينوه ويستخفوا به ليقرروا بذلك أنه فقد كل سلطان كان له على رعاياه، فلا يعود إليه السلطان إلا بإذنٍ جديد من «مردوخ» يتلقاه قبل ختام الرواية من يد حبر الأحبار.
ولم يؤثر عنهم في عهد الشمريين إيمان بعالمٍ آخر أو بيوم للحساب والجزاء، فمن اجترأ على فعل محرم أو قصر في الصلوات والقرابين فالآلهة تجزيه على ذنبه بمرضٍ يصيبه لا يشفيه منه غير كاهن المعبد بعد التوبة والتكفير، وإن لم يكن جزاؤه مرضًا فهو خسارة في المال أو البنين أو ذوي القربى والأعزاء، وكل مصبية من هذه المصائب تنبيه إلى ذنب مقترف أو فريضة منسية، وحث على التذكير وطلب الغفران.
وقد تعم الذنوب فيعم العقاب، وترسل الآلهة على الأرض طوفانًا أو وباء يأخذ البريء بذنب المسيئين، ولكنها تنذر الناس قبل حلول العقاب وتلهم الكهان وحدهم تفسير ذلك النذير.
وهم يذكرون لتلك الأرباب غزوات وأخبارًا قبل خلق هذه الدنيا كأنهم كائنات لا تحتاج إلى خالق، ولكنهم يذكرون أخبارًا قبل تلك الأخبار يروونها عن «تيمات» ربة الغمر أو ربة الأغوار والظلمات، ولا يفهم من أخبارهم هذه أن تيمات أنشأت الأرباب بقدرة الخلق؛ لأنها عندهم ربة الفوضى والعماء، ولكنهم يحسبون أن الأرباب كانت تحوم في أغوارها كما تحوم الأشباح في الظلام، ويصورونها في إحدى أساطيرهم — كما يصورون البشر الأولين — فنصفها سمك ونصفها إنسان.
أما قصص الخلق عندهم فهي مناسبة لموقع البلاد البابلية واشتغال أهلها القديم برصد الكواكب ومراقبة الأنواء، وتدل القصة من أجل هذا على أنها من مأثورات قوم عريقين في سكنى تلك البلاد ولم ينقلوها إليهم من بلاد أجنبية عنها، ويرجح ذلك على التخصيص ذكر الطوفان المفصل في بعض القصص البابلية؛ لأن الباحثين في الآثار يعتبرون أن الطوفان قد غمر ما بين النهرين إلى الشمال، وأن الجبل الذي استقرت عليه سفينة نوح هو الجبل المعروف اليوم بجبل أرارات، ولم تشتمل قصص الطوفان في البلاد الأخرى على تفصيل كهذا التفصيل.
وفحوى قصة الخلق بعد استخلاصها من الأوشاب الكثيرة أن الدنيا كانت قسمة بين تيمات ربة الأغمار أو ربة الماء الأجاج وبين «إيا» إله الماء العذب وعنصر الخير في الوجود، وموقع الأرض البابلية يجعلها في قبضة هذين الربين ويوحي إلى أهلها الإيمان بما عندهما من المخاوف والخيرات.
وقد انهزم «أنو» إله السماء أمام جحافل تيمات فلم ينتصر إلا بعد أن برز من الماء بطل وليد: هو مردوخ رب الجنود وسيد الحروب.
ثم عمد مردوخ إلى تيمات فشقها نصفين: صنع الأرض من أحدهما وصنع قبة الفضاء من النصف الآخر، ثم قيد أسراه في هذه القبة فهم لا يبرحونها إلا بإذنه، ورفع إلى السماء ما شاء من الأرباب.
وقد كشفت الألواح التي تضمنت شروح هذه القصة بالخط المسماري في أواخر القرن التاسع عشر، ونقلت إلى المتحف البريطاني بلندن حيث تحفظ الآن، وهي مقسومة إلى سبعة أقسام: كل قسم يتحدث عن يوم من أيام الخلق آخرها اليوم الذي خلق فيه الإنسان، وقد جاء في اللوح المخصص لشرح قصته أن «مردوخ» أفضى إلى «إيا» بأنه سيخلق الإنسان من دمه وعظمه، وأمر حاشيته أن تضرب عنقه — عنق الإله مردوخ — ففعلت، وسال الدم فنجم عنه الإنسان، ويظهر أن ضرب عنق الإله لا يقتله ولا يقضي عليه؛ لأن مردوخ كان يتصدر بروحه حشد الأرباب التي اجتمعت في السماء احتفالًا بخلق أبي البشر، وسمع منها نشيد الفرح والثناء.
ويتمم البابليون قصة خلق الإنسان بقصة أخرى عن طموحه إلى الخلود واجتهاده في اختلاس سره من الآلهة، فيعاقب على ذلك بالموت، وتأبى الآلهة أن يشاركها أحد من الخلق في نعمة الحياة الباقية.
وتعتبر قصة الخلق البابلية أهم نصيب ساهمت به المأثورات البابلية في علم المقابلة بين تواريخ الأديان.