فصل في إثبات النبوة وكيفية دعوة النبي إلى الله تعالى والمعاد إليه١
ونقول الآن: إنه من المعلوم أن الإنسان يفارق سائر الحيوانات بأنه لا يحسن معيشة٢ لو انفرد وحده شخصًا واحدًا يتولى تدبير أمره، من غير شريك يعاونه على ضروريات
حاجته، فإنه٣ لا بد من أن يكون الإنسان مكفيًّا بآخر من نوعه، ويكون ذلك الآخر٤ أيضًا مكفيًّا به وبنظيره، فيكون هذا مثلًا٥ يبقل لذلك،٦ وذاك يخبز٧ لهذا، وهذا يخيط للآخر، والآخر يتخذ الإبرة لهذا، حتى إذا اجتمعوا كان أمرهم
مكفيًّا؛ ولهذا ما اضطروا إلى عقد المدن والاجتماعات، فمن كان منهم غير محتاط في عقد
مدينته
على شرايط المدينة، وقد٨ وقع منه ومن شركائه الاقتصار على الاجتماع فقط، فإنه يتحيل٩ على جنس بعيد الشبه من الناس وعادم لكمالات الناس، ومع ذلك فلا بد لامتثاله من
اجتماع ومن تشبه بالمدنيين.
فإذا كان هذا ظاهرًا، فلا بد في وجود الإنسان وبقائه من مشاركة، ولا تتم١٠ المشاركة إلا بمعاملة، كما لا بد في ذلك من سائر الأسباب التي تكون له.١١ ولا بد في المعاملة من سنة وعدل، ولا بد للسنة والعدل من سانٍّ ومعدل، ولا بد
من أن يكون هذا بحيث يجوز أن يخاطب الناس ويلزمهم السنة، ولا بد من أن يكون هذا١٢ إنسانًا. ولا يجوز أن يترك الناس وآراءهم في ذلك فيختلفون، ويرى كل منهم ما له
عدلًا وما له ظلمًا. فالحاجة إلى هذا الإنسان في أن يبقى نوع من الناس١٣ ويتحصل وجوده، أشد من الحاجة إلى إنبات الشعر على الأشفار١٤ على الحاجبين١٥ وتقعير الأخمص من القدمين١٦ وأشياء أخرى من المنافع التي لا ضرورة فيها في البقاء، بل أكثر ما لها أنها
ينتفع [بها]١٧ في البقاء. ووجود الإنسان الصالح لأن يسن ويعدل ممكن كما سلف منا ذكره، فلا
يجوز أن يكون العناية الأولى يقتضي تلك المنافع، ولا يقتضي هذه التي هي أسها، ولا أن
يكون
المبدأ الأول والملائكة بعد يعلم ذلك ولا يعلم هذا، ولا أن يكون ما يعلمه في نظام الأمر
الممكن١٨ وجوده الضروري حصوله لتمهيد نظام الخير لا يوجد، بل كيف يجوز ألا يوجد وما هو
متعلق بوجوده مبني على وجوده بوجود آخر.١٩ فواجب إذن أن يوجد نبي، وواجب أن يكون إنسانًا، وواجب أن يكون له خصوصية ليست
لسائر الناس، حتى يستشعر الناس فيه أمرًا لا يوجد لهم فيتميز به منهم،٢٠ فيكون له المعجزات التي أخبرنا بها.
وهذا٢١ الإنسان إذا وجد، وجب أن يسن للناس في أمورهم سننًا، بإذن الله تعالى٢٢ وأمره ووحيه وإنزاله الروح المقدس عليه. ويكون الأصل الأول فيما يسنه تعريفه
إياهم أن لهم صانعًا واحدًا قادرًا، وأنه عالم بالسر والعلانية، وأن من حقه أن يطاع أمره،
فإنه٢٣ يجب أن يكون الأمر لمن له الخلق، وأنه قد أعد لمن٢٤ أطاعه المعاد المسعد ولمن عصاه المعاد المشقي، حتى يتلقى الجمهور رسمه المنزل
على لسانه من الإله والملائكة٢٥ بالسمع والطاعة. ولا ينبغي له أن يشغلهم بشيء من معرفة الله فوق معرفة أنه واحد
حق لا شبيه له.٢٦ فأما٢٧ أن يعدى بهم٢٨ إلى أن يكلفهم أن يصدقوا بوجوده، وهو غير مشار إليه في مكان، ولا مقسم٢٩ بالقول، ولا خارج العالم ولا داخله، ولا شيء من هذا الجنس، [فقد٣٠ عظم عليهم الشغل وشُوِّش فيما بين أيديهم الدين، وأوقعهم فيما لا تخلص٣١ عنه، إلا لمن٣٢ كان المُعان الموفق الذي يشذ٣٣ وجوده ويندر كونه]؛ فإنه٣٤ لا يمكنهم أن يتصوروا هذه الأحوال على وجهها٣٥ إلا بكد٣٦ وإنما يمكن القليل منهم أن يتصوروا حقيقة هذا التوحيد والتنزيه، فلا يلبثون أن
يكذبوا بمثل هذا الوجود ويقعوا في تنازع وينصرفوا إلى المباحثات٣٧ والمقايسات التي٣٨ تصدهم عن أعمالهم المدنية، وربما أوقعتهم٣٩ في آراء مخالفة لصلاح المدينة ومنافية لواجب الحق،٤٠ وكثرت٤١ فيهم الشكوى والشبه، وصعب الأمر على اللسان في ضبطهم، فما كل بميسر٤٢ له في الحكمة الإلهية، ولا اللسان يصلح له٤٣ أن يظهر أن عنده حقيقة يكتمها عن٤٤ العامة. بل يجب ألا يرخص في تعرض شيء من ذلك، بل يجب أن يعرفهم جلال٤٥ الله تعالى٤٦ وعظمته برموز وأمثلة من الأشياء التي هي عندهم جليلة وعظيمة،٤٧ ويلقي إليهم مع هذا هذا القدر، أعني أنه لا نظير له ولا شريك له٤٨ ولا شبيه.٤٩ وكذلك يجب أن يقرر عندهم أمر المعاد على وجه يتصورون كيفيته، ويسكن إليه
نفوسهم، ويضرب للسعادة والشقاوة أمثالًا مما يفهمونه ويتصورونه. وأما الحق في ذلك فلا
يلوح
لهم منه إلا أمرًا٥٠ مجملًا، وهو أن ذلك شيء لا عين رأته ولا أذن سمعته، وأن هناك من اللذة ما هو
ملك عظيم ومن الألم ما هو عذاب مقيم.
واعلم أن الله تعالى يعلم أن وجه الخير في هذا، فيجب أن يوجد معلوم الله تعالى على
وجهه
على ما علمت. ولا بأس أن يشتمل٥١ خطابه على رموز وإشارات تستدعي المستعدين بالجِبلَّة للنظر إلى البحث
الحكمي.
١
ب: نقص العنوان كله.
٢
صك: معيشته.
٣
طه: وانه. والمثبت عن ت.
٤
صك: نقص، وفي طه: الأمر. والمثبت عن مك، ت.
٥
ب، ت: مثلًا هذا.
٦
ب: إلى ذاك، ت: إلى هذا.
٧
طه: تخبز بالتاء. والمثبت عن مك، صك.
٨
ت: إنما يقع منه.
٩
طه: مخبل، وفي هامش صك: مخبل، يخبل. والمثبت عن ت.
١٠
طه: يتم بالياء. والمثبت عن ب.
١١
ب: نقص.
١٢
ت: نقص.
١٣
ب: الإنسان.
١٤
ت: الأسفار.
١٥
ب: وعلى.
١٦
طه: الأخص من المقدمين. والمثبت عن مك، صك، ب.
١٧
ب، ت: ينفع.
١٨
طه: الخير. والمثبت عن مك، صك.
١٩
طه: نقص آخر. والمثبت عن مك.
٢٠
ت: بينهم.
٢١
ت: فهذا.
٢٢
ب، ت: نقص.
٢٣
ت: وانه.
٢٤
ت: قد لكل لمن.
٢٥
ب، ت: وملائكته.
٢٦
ب: لهم.
٢٧
مك: وأما.
٢٨
صك: لهم.
٢٩
مك، صك، ب: منقسم.
٣٠
ما بين العلامتين [ ] ناقص في ت.
٣١
مك، صك، ب: مخلص.
٣٢
ب: ان.
٣٣
مك: شف.
٣٤
ب، ت: فإنهم.
٣٥
ت: نقص.
٣٦
هكذا في ب، وفي غيرها: بكدر.
٣٧
مك، صك، ب، ت: المباحثات.
٣٨
طه: بمثل التي.
٣٩
طه: فربما أو فهم.
٤٠
ت: ولواجب.
٤١
صك: فكثرت.
٤٢
ب، ت: ميسر.
٤٣
ت: نقص.
٤٤
ت: نقص.
٤٥
صك، ب، ت: جلالة.
٤٦
ب، ت: نقص.
٤٧
ب: عظيمة بلا واو.
٤٨
ت: نقص.
٤٩
مك، ب: ولا شبه، صك: ولا شبيه له.
٥٠
مك: رمزًا. ومن هنا إلى آخر الفصل بياض في ت إلا بعض كلمات.
٥١
مك، ب: نقص.